النقد

حساسية التّراكيب اللّغوية بين شفرة النّص والمضمون الشّعري

بقلم: الناقد المصري محمد سليمان الزّيات

الشاعر محي الدين محجوب

هذه قراءة لقصائد مختارة من أشعار محيي الدين محجوب تسعى وراء مضامين مغايرة تسم موقف الشّاعر بالاختلاف مع ما هو سائد، فكان لهذا الاختلاف أثره الواضح على الشّاعر من حيث حساسيته اللّغوية، وتعامله مع تراكيبها، التي أتت مغادرة لجاهزية معيقة، تغلّب عليها بتقنية تعمل على تفتيت الدّوال التي تحمل مدلولات تشي بدلالة قارة موزّعا إيّاها في تراكيب جديدة تحمل مضامينه الخاصة، فيكون بذلك قد قتل الدّلالة القديمة مزيحا إيّاها عن بؤرة الفاعلية وإن كان ليست ميتة كلية حيث يتبقى في عناصرها المبعثرة أثر يناوش القارئ ويلحّ على ذاكرته مستدعيا الدّلالة القديمة المزاحة هنا في النّص الشّعري خالقا بذلك جدلية بين دلالة مزاحة ودلالة جديدة متخلّقة ومنزرعة بفعل بنية التّراكيب اللّغوية ذاتها حيث تبنى الدّلالة الجديدة نفسها مستحدثة شفرتها الخاصة، فيتلقّى القارئ مستويين من المعنى في بنية لغوية واحدة خالقة بذلك نسقها الذي يميّزها كنص حداثي، وهذه التّقنية الفنية هي إحدى إنجازات القصيدة الحديثة التي يشترك فيها أجيال من الشّعراء العرب حملوا رايتها من منتصف القرن العشرين، وكشكل مستجيب لمضامين مركّبة.

ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا أنّ النّص الشّعري عند المحجوب قد تخلّص من إشكاليات تمسّ القصيدة الحديثة بالصّراع من أجل أن تحظى بصفائها المستمد من جدّة مضمونها بعد أن استقرّت نسبيا على شكل مستجيب لتلك المضامين.

نقول بأنّ القصيدة عند المحجوب قد ظفرت بهذا النّقاء المؤكّد على خصوصيته من حيث المضامين ومعالجتها “الشّعرية”. وهذا ما حفّز لدينا عملية اختيار للنّماذج موضع القراءة والتي نفتتحها بقصيدة (طفلة الرّغبة)(1) وهو عنوان مأخوذ من متن القصيدة أراه كاختيار موفّق ودقيق، موفّق كمفتاح للولوج إلى عالم القصيدة الدّاخلي ودقيق لأنّ القارئ سوف يرى فيه – بعد تأمّل – أنّه يمثّل شفرة مفسّرة لروابط علاقات النّص، بدونه لا تعطيك القصيدة سبيلها وتظهر للقارئ كنتوءات لجزر متفرّقة لا رابط ينظمها. ومن تلك الشّفرة نستمدّ جرأتنا محاولين فتح انغلاق تراكيبها التي غمضت علينا، نتيجة تقنيّاتها التي تشتغل على جزئيات اللّغة، غازلة من نسيج المعنى المتراقص، في محاولة للانفلات من أسر جاهزية المدلول المنجز.

والشّاعر يفتتح قصيدته بإقرار “لأنّني أستعير من الاحتراق شبقه / ومن طفلة رغبتي…/ وقتا إضافيا لطفلة التّجلّي”. هذا الإقرار الذي يحدّد فيه الشّاعر حاله في القصيدة، في الشّبق مستعار من الاحتراق، ليطرح السّؤال نفسه: ومن أين أتى الاحتراق؟! إنّه الغياب الذي سيتجذّر في القصيدة صانعا فجوة في النّص تحتاج إلى ردم هوّة الإجابة الغائبة، أو هوّة المعنى المطوّح بعيدا بفعل تراقص المدلولات والذي لا يرى إلاّ عبر دوران سريع بفعل ضربة بالأصبع على تلك الدّائرة المعلّقة على محور لتلتحم الجزئيات.. الجزئيات المكتوبة على وجهي القطعة التي تشبه العملة المعدنية، فتعطينا الجملة مكتملة في مشهد يبرزها، محوّلا القطعة المعدنية – الشّكل – إلى طيف شفيف، كلّما رقّ مع السّرعة ازداد وضوح الكتابة – المعنى – ملتحمة عليها.

وهكذا يبرز لنا المعنى من استكمال المكتوب بالمغيب – هناك – على الوجه الآخر فالشّبق مستعار من الاحتراق وليس من الرّغبة.. تلك التي يستعير منها وقتا إضافيا لغفلة التّجلّي، فالرّغبة لاهية هناك غي غفلة التّخيّل متجلّية في لعبها الطّفولي. هل ما زالت هناك تأسرها تلك المتعة فغفلت عن وظيفة الشّبق الذي هو من اختصاصها – أليست هذه الحالة – الرّغبة الطّفلة – شفرة تفسّر ما سنستقبله من روابط، بل تنسحب إلى تفسير حالة الشّاعر من روابط، بل تنسحب إلى تفسير حالة الشّاعر وموقفه من موضوع الحبّ، الذي يأتي هنا متلبّسا بفكرته، تلك التي نرى أزمتها في “تراود جسد الحديقة كآبة المصادفة” فركون الرّغبة إلى الطّفولة محتجزة في فضاء التّخيّل قد ترك الجسد تراوده كآبة المصادفة. فيناديها أن تترك ساحة لهوها – “يا طفلتي المباحة…” – مباحة هناك لعواصف الخيال – “أفترضك حليبا دافئا” – هنا تلعب اللّغة لعبتها التّحويلية – أفترضك – هل وظيفة الرّغبة محض افتراض؟! إنّه هنا يؤكّد وجودها هناك في المشهد على الجانب الآخر، فيسلك سبيل التّمنّي – موقف – بـــ / “فليغفر الاشتهاء لي / وليكن بكائي شتاء” راسما بذلك التّقابل بين الدّلالي بين غزارة مني الشّتاء مع انصراف الرّغبة اللاّهية في ساحة التّخيّل، ويمدّد تخيّله ليشمل حالة تعويضية “حين يهطل نبدّده بالخمرة والمجون” بينما نرى في تركيب الجملة التّالية ذلك التّقابل الدّال “تأوي عالية ترفلين في شهيّتي إلى سهل العربدة” فلفظة – تأوي – المقرونة بـــ – عالية – في تقابل يعمل على تعطيل مدلول لفظة – تأوي – فلا يتحقّق استعادة الرّغبة المباحة للتّخيّل وتفيد لفظة – عالية – احتجازها هناك. “نشطب من الزّهر مواعيده الخجولة”. فشطب الخجل يأتي على مستوى التّمنّي مؤكّدا عمقه في الذّات ومرسّخا لدينا فهمًا لذلك الانشراخ الذي أحدثته حالة انزواء الرّغبة المتدثّرة بخجلها. ذلك الدّال الرّاسخ بعلاقات قيمية قامعة للرّغبة، وكابتة وظيفتها الطّبيعية، حيث تمارس سلطتها الخصائية، مثبتة الذّات في أزمتها وانشراخها “يا طفلة الرّغبة الممدّدة على حافة / انطفائي” فلا يتبقّى للذّات سوى الموت كنتيجة للعنف الممارس عليها: “نازفا في بركة التّنهّد / دم الجوع”، حيث لا يحقّق التّمنّي سوى النّزيف “فليغفر الاشتهاء لي” ويأتي النّداء المتكرّر في “أيّتها السّاكنة حدّ الافتراس… لا تقايضي عطشي برجولتهم” ليسلّمنا إلى تلك الضّراعة الأسيانة، ولكنّها ضراعة مستوعبة على مستوى الفكرة وهم الذّكورة السّائد، فزجّت بالمغاير إلى مسرح الرّؤية تأويلا لذلك الوهم يمرّرنا إلى وضعية الاختلاف، ويعجل بانقشاع التّشويش الذي روّجه التّزاوج بين موضوع الرّغبة وموضوع الفكرة “أيّتها السّاكنة – لا تقايضي”.

إنّ لغة المحجوب الشّعرية تعمل على خلق جمالية مغايرة أتت من موضوع أيروسي محمّل بمضمون جديد مفارق للذّكورية المهيمنة. مضمون يقلقل ثباتنا، ويزحزحنا عن موقفنا القار. حيث يجرفنا شلال مجازاته المجذوب نحو رؤية للاختلاف. تلك التي تستتر خلف الاستعارات خالقة تشويشا ناتج عن هذا المزج الحبّ – الفكرة.

هذا المزج الذي حملته الضّراعة الكامنة في التّركيب اللّغوي قاذفة بالموقف المغاير للشّاعر في موضوعة الحبّ “لا تقايضي عطشي برجولتهم”. ولعلّنا نلاحظ حساسية الشّاعر اللّغوية على مستوى التّجاور فلفظة “عطشي” كحال في مقابل بـــ “رجولتهم” كصفة. فالأولى المنسوبة إلى حال الشّاعر تتّصل بالحاجة إلى الارتواء، ممّا يعطي مدلولا حيويا يرتهن حياته المهدّدة بعدم التّحقّق بينما تأتي لفظة “برجولتهم” لتدلّل على صفة ذكورية مرتهنة بنظرة سائدة ترى المرأة موضوعا للمتعة، وهدفا للرّغبة المتّسمة بعدم الاكتفائية، تلك النّظرة الصّادرة عن حدقة معطوبة بالحرمان ولم تستطع عبور سور قيم الذّكورة الواهم.

وهكذا نرى موضوع الرّغبة عند الشّاعر في علاقته المشتغلة بالآخر – المرأة – حيث نرى تلك المسافة الذّاتية التي يقرّها لها ولا يفتأ لها مبرّر الذّكورة الصّادر عن حدقة الحرمان المعطوبة وإنّما يستبدل بها حدقة القصيدة “وانتقي لك – ربّ صدفة – لهفة في حدقة القصيدة”. ومبرّرا موقفه المغاير باقتفائه أثر الدّهشة. وتتجلّى الحساسية التّركيبية على مستوى التّجاور حاملة معاناة الذّات والجسد “سوف أحرق سرير الاحتمالات، بأعقاب الهواجس”. فالاحتمالات هي دبيب حركة الفكر في الدّماغ الذي هو جزء من الجسد المتضجّع على السّرير الذي يختصّه بفعل “أحرق” والسّرير مكان للاختلاء بالاحتمالات والهواجس فتعمل الصّورة المجازية على توجيه التّأويل نحو الرّغبة في نسف بيئة الظّنون بكلّ التباساتها ويكون الحرق “بأعقاب الهواجس” كاستعارة تستدعي السّجائر والتّدخين المصاحب لمعاناته في تجاوز الموقف الذّكوري المكرور، مستدلا به استراتيجية جديدة في الموقف من موضوعة الحبّ هذا الموقف الذي شكّل مضمون العلاقات بين عناصر القصيدة. فنجد “طفلة الرّغبة” تعمل هنا كشفرة لفكّ إدراكات الرّوابط بين العلاقات: الرّغبة / الجسد – الرّغبة / المرأة – الرّغبة / الآخرون – الرّغبة / الذّات – الرّغبة / التّحقّق محقّقا بذلك اختلاف موضوعه وحداثته في مواجهة الرّؤية القيمية المنجزة. مخلّصا لغته الشّعرية من أيروسية ذكورية منطلقا بها إلى فضاء احتمالات الذّات بإدراكاتها لمعطيات بيئية خلقت آليات خصائها فتمكّنت من عزل الرّغبة عن وظيفتها واحتجازها في فضاء هروبي متمدّدة هناك تغذّي الخيال على مشهد إنطفاء الجسد.

توازي السّلاسل الدّالة

وفي قصيدة “من أقصى قلقي”(2) والتي نراها تعتمد على توازن السّلاسل الدّالة للألفاظ، حيث تظهر في تعالق الدّوال والمدلولات كانزياحات تركيبية، فتجذبنا الشّعرية المتولّدة من اشتغال النّص على جدل المدلولات في النّسق الدّلالي، خالقة بذلك أفقا لاحتمالية تأويلية والتي بدورها تستلزم إجراءات للقراءة لا تعتمد الانطباعية، ولكنّها ترتكز على دوال اللّغة في تراكيبها المولّدة للمعنى مع التقاط تشابك المدلولات الخالق لمستوى، نقرأه كمعنى المعنى المحتمل وهو أمر إجرائي نقدي يرتكز على تلك العناصر النّصية اللّغوية التي تثير جدلا فيما بينها و – أو – مع مرجعية تقع خارج النّص، ممّا يجعل المعنى المنتج أثرا لممارسة جمالية التّلقّي أكثر منه نتاجا موضوعيا قابلا للتّحديد، بمعنى أنّها ممارسة تأمّلية في إمكانات النّص لتصبح بذلك علاقة التّبادل: قاريء / نص نشاط تأمّلي يحكمه السّياق الشّعري، وتقوده شفرته في الفضاء التّأويلي، وهو نص يخفي مدلوله، ممّا يستدعي اجتهادا في تتبّع إشارته واستنطاق دواله في نسقها الدّال، للكشف عن الدّلالة بحميمية مصاحبة للحركة التّوليدية للقصيدة “لأنّي أجئ من أقصى قلقي” بهذه الجملة الافتتاحية يبرّر المحجوب غموض المدلول المتخفّي في ثنايا تراكيب دوال اللّغة، حيث القلق الذي يشي بالصّراع الدّاخلي بين عناصر متناقضة قادرة على إثارة الاضطراب، مشيرا في ذات الوقت إلى البؤرة التي يصدر عنها النّص “أقصى قلقي”، وكأنّ لقلقه مستويات متفاوتة في الموقع والشّدّة، إنّها لا شكّ تعابير مركزية ذات تعاني حالة قلق وجودي امتزجت في تعالق مع إزاحات مرجعية من خارج النّص، حيث نرى هذه المركّبات المتقابلة في المقطع الأوّل من القصيدة بارزة تعمل على إثارة الاشتباك الدّلالي الذي يميّز نسقها ويشكّل المدركات الجمالية لها، فنرى القبس يجمع مع البحر وهو الجذوة من النّار، “وأسرجت” والإسراج ضياء من اللّهب “ساقية” الرّعشة إسراجها كدمعة باردة، فيكون التّقابل بين الإسراج والدّمعة كسائل، وكذلك يجمع التّقابل بين الاستضاءة التي هي من الاشتعال مع “دفقي النّازح” الذي هو رطب بينما الفلوات تصبح محلا للغيم جامعا بين الصّحراء الجافة والسّحب المحمّلة بالماء في “أودع في زهوها الوثني – كنبيذ يستضيء – دفقي النّازح من فلوات الغيم”.

ولا يخفى علينا حساسية الشّاعر لدوال اللّغة ممّا مكّنه من جملة مكثّفة حبلى بمضامين ذات مستويات متعدّدة تكتنزها الجملة الشّعرية في شحنات احتوتها الدّوال عبر استخدامها الزّمني، وتمتدّ السّلسلة في التّقابل بين “بحيرة خلوتي” فالبحيرة المملوءة تجمع مع الخلوة من الخلاء وفي “حدائق من مسد” وما للحدائق من توقّعات بصرية تتمثّل في ألوانها الرّطبة المريحة واحتمالات ملمس أوراقها وزهورها النّاعمة في تقابل مع خشونة المسد وجفافه، وهذه التّقابلات تشكّل سلسلتين في المقطع الأوّل من القصيدة، أحداهما مشحونة بدلالات السّيولة والرّطوبة، والأخرى مشحونة بدلالات الجفاف والخشونة والاحتراق. إنّه التّقابل بين الحياة والموت المجموع في بوتقة واحدة نراها في الاقتران الذي ميّز التّركيب اللّغوي للقصيدة، وهي تقابلات مركّبة على مستوى البنية اللّغوية في تقنية فنية تشتغل على تشابك المدلولات كنتوء يستوقفنا ويمنع انزلاق إدراكنا إلى السّهولة داعيا القارئ إلى التّوقّف والتّأمّل كما في فعل “أُقابس” الذي يشدّ الانتباه إلى حركة مضاعفة دؤوبة بينما على مستوى الإشارة يشير مدلوله إلى قبس مقدّس في المرجعية الدّينية حاملا معه إمكانية استدعاء شحنة دلالية مزاحة في النّص، وفي هذا السّياق تشتغل لفظة “أسرجت” جالبة معها أفقا للمعنى المزاح ليشكّل إسهاما في فضاء التّأويل “سراج منير” لتشتبك مع الدّال السّابق في علاقته المرجعية ومؤكّدة على سياق المدلولات المتولّدة من روابط تعيد الدّال إلى حقله المرجعي المنجز والذي يشكّل – الاتّفاق – بين النّص وقارئه مستدعية بذلك مرجعية يشترك فيها أوسع جماعة من القرّاء المحتملين، بينما تعمل وظيفة الإزاحة الدّلالية على إفساح المسافة اللاّزمة ليتعيّن الدّال في سياقه الجديد ناهضا بمهمّته التّوليدية المغذّية للتّحوّلات في المدلولات المترابطة كمعطى نصّي، فنرى “كنبيذ يستضيء دفقي النّازح”، هذا التّوليد الذي يعبر على جسر الاستضاءة من فعل المقابسة المقدس إلى النّبيذ ودلالاته في الثّقافة المسيحية، حيث دم المسيح الذي افتدي به البشر، وهذا التّشابك بين القبس والاستضاءة في أسرجت مع النبيذ يأتي على مستوى التّوافقات كإشارات إلى الرّسالات السّماوية الثّلاث، ويجذب هذا التّأويل الكامن في “أُودع في زهوها الوثني… دفقي النّازح”، هذا النّازح من دلالات الكوني والتي كانت الفلوات العربية محلا لغيمه الدّافق، وفي هذا السّياق التّأويلي تأتي مفردة “سنبلة”، في “ومثلي تبكيني سنبلة اسمها” إشارة إلى الاتّفاق المضاعف والذي يجد رابطته في الفعل “أُقابس” مندرجا إلى الحركة المتحوّلة في لفظتي “دفقي/النّازح”.

وتبكيه اسمها وتسميه “ماء مشاكسة” فنرى الجمع بين السّنبلة كناتج مضاعف لفعل دؤوب “أُقابس” مع مصدر الحياة والخصب – الماء. وتبكيه للّذين ارتددنا عن حوض ميقاته، للّذي – أنا – متراسه النّهد – فيعود إلى جدل الغياب والتّحقّق مزاوجا بين المدلولات المتقابلة التي تحمل دلالة على غير المتحقّق والشّارد وبين المتاخم للنّبع – للنّهد – متراسه الذي يحيل إلى طفولة ممتدّة للذي أنا فيردّنا إلى البؤرة في أقصى قلقه ذلك الصّادر عن غير المتحقّق حيث تناوشه الثّنائية المتقابلة والممزوجة في “ذات ترائب الرّياح” مستدعية في صحوة زوجي الأرض والسّماء بينهما الرّياح المثارة كهياج جنسي جالبة معها فعل الإخصاب المتوقّع من احتمالية لسحب تجلبها الرّياح فتتعشّق المدلولات مع “دفقي النّازح” و “ساقية الرّعشة” كتمهيد لاستقبال الدّلالة في “انبرت عارية” في “بحيرة خلوتي”. إنّه ميلاد جديد، وربّما التّطهّر الذي يسبق التّهيئة لجولة جديدة من العشق الأزلي… أو هو تطهّر بعد الانتهاء من جولة مختتما السّابقة بالموت “ترتّق لهاثي” استعدادا لبعث جديد، بينما يلعب المدلول المترجرج تحت الدّال على اتّصال لهاثه بالانتهاء من لحظة الذّروة الشّبقية مقرونة بدلالة “الرّتق” الجنسية فيصل بذلك إلى نقطة التّحوّل الثّنائية علامة على التّبادل بين عنصريها في “وتغدو جسمي الملح وحدائقي من مسد”، فكلّ حياة تحمل فناءها وهو كامن فيها وهذا التّحوّل نراه في دلالة الملح وحدائق المسد، وهو تحوّل يفضي إلى دورة جديدة تميّز المقطع الثّاني من القصيدة، فتبدأ الملاحقة من جديد بالنّداء “يا التي أترجّل سبيلها/لأنّك شقيقة احتراقي”، ويتحقّق التّوليد من الرّبط “احتراقي” الذي يفتتح جولة من المعاناة إشارة إلى صراع لا ينتهي، فاللّهب والاحتراق هما قدره وحافزه إلى العناق، وهو المولّد لعطشه الدّائم بعد كلّ ارتواء، حيث لا يتبقى له سوى اشتعال ذاته بالقلق، فيتخبّط بالحيرة والاضطراب “بأيّ لهب أُقايض خطواتي” بالذي يقابسه من البحر، أم بلهب تلك التي أسرجت، أم بالنّبيذ المستضيء بدفقه النّازح، “بأيّ السّماوات أُقدح زناد رغبتي”، فيتصعّد في سماوات ذاته مترجّلا سبيل معشوقته علّه يعثر على خبائها، فيحدث اللّقاء ويقدح زناد رغبته فيهطل دفقه من “فلوات غيمه”، وهنا نكتشف الدّلالات المزاحة عن ذات تتّسع لما هو كوني جامعة بين عنصري التّقابل في صراع يتماهى مع الكون، فسماواته المحترقة باللّهب هي فلوات للغيم جامعا بين الصّحراء والسّماء في معاناة تملؤه بالحبق الغوي الفوّاح الذي يوقظ مذاقه الحرّيف صهيل الهياج في فاكهتهنّ.

هذا المزج بين ما هو ذاتي وما هو ترميز للكوني، حيث يجمع بين السّماء والصّحراء والرّياح والتّرائب والغيم مع الرّغبة والكوني بعناصره المتقابلة من الاشتغال إلى السّيولة والرّطوبة هذه التّفاعلات التي تعتمل في الرّغبة مصدرة إيّاها من أقصى قلقه ذلك الذي يحتوي على مسألة يسفحها إنّه ما زال هناك “أترصّد نبي غوايتي”.

دلالات فسفورية

يعمد محيي الدين محجوب إلى تقنية خاطفة في دلالتها كأنّها ناتجة عن إطلاقة فسفورية تنفجر دلالاتها مشعّة في فضاء القصيدة فينعكس بريق المعنى الذي لا يستقرّ ليغازلك لمعان دلالي آخر فتجد نفسك بين مرايا التّعدّد للمعنى التّعدّدي منتشيا بغناها وباكتشاف فضاءات جديدة لإمكانيات اللّغة الصّائدة لإحساسات إنسانية رهيفة متّسمة ببكارة تكويناتها وخصوصية ملمحها الهارب من مهارة معتادة ومستهلكة.

وهي تقنية تدمغ دواوينه كعلامة مسجّلة تحتاج إلى دراسة مستفيضة سنكتفي هنا باختيار نماذج قليلة منها مختارة من دواوينه الثّلاثة.
ففي قصيدة (تعب)(3)
“أبعد كلّ لقاء نفترق
أبعد ما تستبدّين بي
أحزم غيماتي للصّحارى
وقلبي للحرائق
أبعد أن..
أنبأتني الرّياح بك
تنزعين ما تبقّى
وتنثريني على زجاج التّعب”

في سؤال استنكاري معاتب يشي بالرّغبة والتّمنّع، هذا التّمنّع الذي يؤدّي إلى المخاصمة والفراق ثمّ العودة واللّقاء (أبعد كلّ لقاء نفترق) فيؤجّج التّمنّع رغبته فيضيّع غيماته في صحراء لا يكترث عطشها بمائه تاركة قلبه مرتعا للحرائق محيلة إيّاه إلى صحراء مسلّطة عليها نار الرّغبة المؤجّلة (أبعد أن….)… (أنبأتني الرّياح بك) والرّياح مثيرة لسحب الغيم ولكنّها تنطلق بفعل الاحتراق الذي سبّبه فراقها.. هذا الافتراق الذي حوّله من سماء حاملة بحزم الغيم إلى صحراء تتلقّى نبوءة الرّياح بالغيمة المنتظرة للمحبوبة.

ولعلّنا قد لاحظنا هذا التّبادل بين الشّاعر والمحبوبة حول رمزي السّماء والصّحراء، حيث السّماء هنا تحتمل أن تكون حاملة للغيم كما يمكن أن تكون نارا مسلّطة على الصّحراء.

وهذا التّبادل يكشف عن حركة التّحوّل في المعنى كمضمون مغاير للقديم فعندما كان يحذوه الأمل في اللّقاء كان منذرا بهطول الغيمات، ولكن هذا المعنى يتبدّل عندما احترق قلبه بالفراق فتحوّل إلى صحراء في انتظار غيمة المحبوبة، وهو مضمون لموقف مغاير للرّؤية الذّكوريّة القديمة.

كما نجد هذه التّقنية في هذا النّموذج أكثر تكثيفا (حادثة) إلى بئر تعرف تفاصيل طفولتي.(4)
“في قريتي/كانت الأهالي
توجّه نحو بئر عتيقة “أنتين” عطشها
نضبت البئر الآن
فانحرف “الأنتين”

هذا المزج بين دلالات البئر و(الأنتين) يجد روابطه الدّلالية في مدلولات الألفاظ فالبئر الذي يعرف تفاصيل طفولته هو المكان والزّمان وفضاء الذّاكرة، وكما هو مصدر للماء هو مكان للالتقاء ممّا يستدعي إثارة للحكايات وفيه نضح من مائنا وارتواء نزواتنا، والبئر حفر في العمق نفتح به سبيلا للماء ليبزغ من أعماق أرضنا معمّقا أصالة جذورنا.
بينما تعمل كلمة (أنتين) التي وضعها الشّاعر بين قوسين مضاعفين دلالة على أنّها كلمة دخيلة تشتغل دلالتها على جذب موجة البثّ من خارجنا فتجذبنا محوّلة إيّانا إلى منصتين متابعين وفرادى تبرمجنا، فنتشظّى بعد ائتلاف حول حكايا بئرنا، وننتشي بتعطيل ملكاتنا، ونتحوّل إلى مستهلكين مستلبين ننتظر الماء والبث المعدّ للانفراد بنا كلّ على حدة، فتجفّ حكايانا كما جفّ بئرنا..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) “طفلة الرّغبة”، من ديوان: أكثر مهابة، صادر عن الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة الأولى، 1994م.
(2) “من أقصى قلقي”، المرجع السابق.
(3) “تعب”، من ديوان: متمهلا كعادتي، الدار الجماهيرية للنشر، الطبعة الأولى، 1998م.
(4) “حادثة”، إلى بئر تعرف تفاصيل طفولتي، من ديوان: أكثر مهابة، مرجع سابق.

مقالات ذات علاقة

(كونشيرتو قورينا ادواردو) والرواية الواقعية الحديثة

يونس شعبان الفنادي

أنا.. لستُ أنا

المشرف العام

زقزقة درويش

صلاح عجينة

اترك تعليق