المقالة

حدائق التاريخ ومزابله

بوابة الوسط

“لا تسأل الطغاة لماذا طغوا بل اسأل العباد لماذا ركعوا» حكمة رومانية.

يتفق رواة السيرة البشرية أن للتاريخ صُنّاُعه، وكأية رواية يختلط فيها المخيال بالحقائق، لها شخوصها المنقسمون بين ثنائية الصراع الأزلية، الخير والشر، وما انسلخ عنها من ثنائيات شكلت منذ البدء الطاقة السرية لمدونة الأخلاق التي لم يكف الجنس البشري عن تدبيجها وتعديلها وتنقيحها.

الدكتاتوريات التي شهدها تاريخ البشرية السياسي ذهبت جميعها إلى مكب قمامة هذا الزحام البشري، أو كما يقال عادة، إلى مزبلة التاريخ، والدكتاتوريون ظلوا في الذاكرة أشخاصا أشرارا، تَذكُّرهم يثير القرف والاشمئزاز، مثلما نتذكر المجاعات والأوبئة الفتاكة وغيرها من الكوارث. فما الذي يجعل شخصا يملك مقومات أن يكون شخصية محورية في رواية من روايات التاريخ، أو مُعَدَّا للمساهمة في صناعة التاريخ، يذهب بإرادته إلى هذه المزبلة، ولا تتذكره الأجيال سوى ككابوس انقضى أو كعبرة؟.

في الأفلام الروائية قد يوافق ممثلون أفذاذ على أن يلعبوا أدوار الشر بإتقان يتحدون به طبائعهم، من باب استعراض قدرات التقمص الفنية، ومن باب أن الحكاية ستنتهي بعد ساعتين قد يمشي بعدها الممثل على السجاد الأحمر نحو جائزته الكبرى. يحدث هذا في فضاء يشيده الخيال مثلما نروي حكايات الغولة للأطفال، أو مثلما نروي مغامرات الشيطان مع البشر منذ الأزل، غير أن دكتاتوريي التاريخ الذين جعلوا من الواقعية الفجة سحرا، يقعون في المنطقة نفسها من فعل المخيلة، وأغلبهم يحس أنه يلعب دورا فوق خشبة مسرح شاسع، يقابل الدم الرمزي الذي يسيل فوق الركح بتصفيق حاد من جمهور جاء كي يتطهر، وكي يعتقد أن الشر محاصر في هذه العلبة ورهن التحكم، أو كابوس يمكن الاستيقاظ منه في أية لحظة. كثير من الدكتاتوريين لعبوا أدوارهم بإجادة في الحياة الواقعية، ورغم ما أحيطوا به من تبجيل وتصفيق وهتاف، إلا أنهم ساروا فوق دم ضحاياهم الأحمر بدل السجاد الأحمر، أغلبهم انتهى نهاية مأساوية وذهب دون أسف إلى المزبلة لأن الجمهور الذي شاهد العرض لم يراوده شك أن هذا الشر حقيقي وأنه يوميا يستيقظ على وجعه، وأن الذين صفقوا أو هتفوا كانوا تحت ضغط الخوف، أو كانوا مصابين بالعدوى نفسها تحت إغراء الاندماج في اللعبة والخروج منها بمكاسب، فهم كومبارس، أو خلفية دعائية لصورة المستبد، وليسوا مشاهيرَ مثل الدكتاتور ليمشوا معه إلى المزبلة، بل من الوارد أن ينقلبوا عليه ويحضرو مأتمه كشهود على كل القذارات التي فعلها في العلن والسر. قليلون يحملون المكانس لتنظيف ذمة الشيطان والحديث عنه كملاك مخذول، وهؤلاء انتقلت لهم عدوى الطغيان، وقرروا أن يرافقوا الدكتاتور إلى مزبلة التاريخ في موكب يغطيه الذباب. الذباب بكل ألوانه وأنواعه.

ذهب نيرون، كاليجولا، هتلر، ستالين، موسيليني، تشاوسيسكو، بينوشيه، بول بوت، موغابي، صدام ، القذافي وغيرهم إلى تلك المزابل المنسية، وتحولوا إلى شخوص أشرار في رواية الجنس البشري، فكان لابد أن ينتهوا كي يستقيم السرد الذاهب إلى المستقبل، وكي تتطهر الذاكرة البشرية وهي تتفرج على هذه النهايات التراجيدية لمن تصوروا أنفسهم في لحظة من اللحظات أنهم آلهة أو على الأقل رسل مبعوثون من الإله. كانوا يرسمون مصير ضحاياهم في الواقع بينما كانت ضحاياهم ترسم نهاياتهم في الخيال، لذلك فنهاياتهم كانت تشبه الخيال.

للتاريخ أيضا كأي إبداع بشري، يؤازر فيه الخيال الواقعة، متاحفه الخالدة وحدائقه ومتنزهاته التي نحب أن نرودها كي ننتعش بالأمل ونغرق في ذكريات ملهمة: غاندي ومانديلا نموذجان مهمان لمتحف الأمل في المدينة الإنسانية الحديثة يتباهى بهما القرن العشرون، بينما حدائق التاريخ تكتظ بنصب الفنانين والفلاسفة والعلماء والشعراء الذين جعلوا في النهاية الحياة أجمل والحلم الإنساني ممكنا.

يترك الفنانون بكل صنوفهم لوحاتهم على الجدران وقصائدهم في الوجدان وموسيقاهم في المسارح، بينما لا يترك الطغاة سوى مقابر جماعية ومخزونات نووية تهدد الحياة البشرية فوق هذا الكوكب. هذا هو الفارق بين من يتزاحمون حول دكتاتور يهتفون باسمه ويحملون صوره، وبين من يتزاحمون في الشوارع تمردا على هذا الدكتاتور أو تظاهرا ضد السباق النووي أو ضد الحروب وتغير المناخ وتلوث البيئة، زحام يتوق لأن يكون جزءا من الضمير الكوني وأسطورة الإنسان المنتخب، وزحام يراهن على هبة النسيان كي يعود إلى سابق حياته المترعة بالوعود.

انقسم الربيع العربي بين حشود ثملة بفكرة التمرد، تطالب بنهاية الظلام وبالحريات التي حظيت بها مجتمعات أخرى جازفت يوما ما بنظامها ومشت على جسور فوضى عارمة إلى أحلامها، وحشود سُلَّطت على الحشود الأولى ساخرة من أحلامها ومُخوِّنة لغريزتها العاشقة لفكرة التمرد التي بدأ بها الإنسان شقاءه ومرحه فوق هذه الأرض الوعرة، حشود تتسكع بين لوحات بيكاسو الخالدة وتقرأ أجمل القصائد التي كُتبت في مانديلا الذي احتفل الكون بيوم ميلاده، وحشود تكتفي بحمل صورة المستبد والبحث في القمامة عن بقاياه، بينما قوى الظلام داخل وخارج الحدود تجهز عدتها كي تطفئ الضوء البازغ من تلك العيون المتطلعة بشغف إلى الخلاص، وكي تجعل مآل هذه المغامرة الإخفاق وعودة الظلام بأشكال أخرى، ولوهلة اعتقدت أن تمائمها أوسحرها الأسود نجح في أن يجعل فكرة التحرر نحسا يصيب الجميع، غير أن التوق يستمر رغم كل ما حاق بهذه الظاهرة، ولعل ميادين السودان والجزائر تعيد تلك القوى الخادمة للاستبداد كقدر إلى فزعها من الفكرة. الفكرة التي تقض مضاجع العروش التي اعتقدت أن الثورة الظلامية المضادة نجحت وآوت إلى مخادعها الوثيرة متربصة بكل حلم جديد وهو في مهده، وفكرة أن تحمي القطيع وتطعمه كي تضمن شرعية الطغيان لم تعد صالحة في عالم تحول فيه كل مواطن إلى مستكشف ومستطلع وصحفي يحمل الكاميرا في جيبه، ويدلي كل يوم برأيه فيما يحدث عبر وسائط تجاوزت منظومة النظم البالية من كل أنواع شرطة التحكم والمراقبة.

من أجل أن يستمر الوجود فوق الكوكب تتعاقب فصول السنة، ومن أجل أن تستمر الحياة تتعاقب فصول تاريخ الشعوب، وبعد أن مر الصيف والخريف والشتاء يعود الربيع العربي الذي اعتقد البعض أنه وُئِد إلى الأبد ليزهر في ميادين السودان والجزائر، والعاقبة عند طغاة مازالوا واثقين بأنهم أداروا عقارب الساعة إلى الخلف، بينما هذه الأجيال تستنشق يوميا رحيق الثورة الرقمية التي جعلت من النظم التقليدية أضحوكة ولعبة في هذا الفضاء الجديد المشيّد من الضوء، نتواصل فيه بالضوء ونكتب فيه على الضوء، لذلك لن يكون فيه للظلام مكان، والمسألة مسألة وقت فقط ورهن بنهاية بيولوجية لمن ولدوا قبل عالم يديره الضوء، ومازالوا يتحكمون في بعض تقنيات الظلام التي أكل عليها الزمن وشرب حتى الثمالة. يا طغاة العالم انتبهوا فالشعوب لم تعد قطعانا تطعمونها وتسوقونها إلى المسالخ.

مقالات ذات علاقة

الثقافة التباوية إرث وطني

المشرف العام

سؤال للحوار: هل لدينا أغنية…؟

يوسف الشريف

 سلطة الايدلوجيات

أحمد معيوف

اترك تعليق