طيوب النص

ثلاث رسائل من وارسو

محمد أحمد الزوي

مدينة وارسو في العام 1975 (الصورة: عن الشبكة)

الرسالة الأولى

أخيرًا (وارسو)…
أذكر جيدًا كيف كنا نحلم بــ(وارسو) ونتصوّرها..
أذكر جيدًا ليالي الشتاء والأبواب المغلقة والأنفاس المتقاربة وصوتك يخترق الزجاج والضباب بأشعار “عبد الوهاب البيَّاتي” عن عمَّال (وارسو)..

حقًا إنّ الصورة كانت غامضة وغائمة في أذهاننا، لكن (وارسو) كانت تتحدَّى الغموض كله والخوف كله ..وتنطلق أمامي جميلة ورائعة وشابة تسبح في بحور خيالاتنا ولا تكل من السباحة عارية فاتنة ساحقة.

ولقد قُدِّر لي أن أزور جزءًا ليس صغيرًا من هذا العالم المترامي الأطراف …وكانت (وارسو) معي في كل الرحلات.

كانت تسخر من ناطحات السحاب في (شيكاغو)وتخرج لسانها لبرج إيفل في باريس.
وتنطلق عابثة في ميادين بيونس آيرس.
وتقلب صحون السباغيتي في روما.
وتضحك من بوذا في تايلاند.
وتبتسم للعراة في الهند.
كانت دائمًا معي.
ولقد تعمَّدت كثيرًا عدم زيارتها رغم أن ذلك كان في إمكاني.
كأنني كنت أريد أن أستنفد كل العابرات لأتفرَّغ للعشيقة الحقيقية.

وأخيرًا (وارسو).
أنا أعترف أن (وارسو) حلم منحوت في القلب،وأن النحت تم في لحظة الرحلة الفكرية المضنية بحثًا عن الحقيقة وأعترف أن الأمور الأن لم تعد كما كانت.
لقد سلبنا الزمن أعزّ ما نملك، شوقنا إلى الاكتشاف
لقد سلبنا الأطفال أروع ما نملك، الشجاعة والجرأة.
ولقد سلبنا الواقع المُرّ وانعدام التجربة القدرة على الصمود داخل مواقعنا الفكرية.
وبات من الضروري أن نراجع كل قناعاتنا الأولى، وعندما يبدأ الإنسان في مراجعة قناعاته تبدو الفرصة مؤاتية للإنحراف، وربما السقوط.
وهكذا تحوَّلت(وارسو) إلى مجرد ذكرى نحرص عليها…ونحاول أن نوهم أنفسنا بأنها كانت يومًا تمثّل شيئًا في حياتنا.

وأخيرًا (وارسو) …

عندما بدأت الطائرة الفرنسية رحلة إقلاعها من مطار (موسكو) في تجاه (وارسو) كان سؤالاً مُقلقًا يولّد داخلي : ماذا بقي من (وارسو)..؟

سرحت طويلاً ورحلت إلى بعيد واكتشفت بمنتهى الهدوء أن شيئًا لم يبق من (وارسو) سوى ذكريات ليالي الشتاء والأبواب المغلقة والأنفاس المتقاربة.
وصوتك يخترق الزجاج والضباب بأشعار(عبد الوهاب البيَّاتي)عن عمّال (وارسو).
الأشياء غير الأشياء
والواقع غير الواقع
والحياة غير الحياة.
حتى (وارسو) ما عادت(وارسو)التي عرفناها وحلمنا بها وحمَّلناها حبًا منحوتًا في القلب .
كان اسم (وارسو) يعني المراقبة والاعتقال والسجن
كان اسم (وارسو) يعني الفكر المهندس للنفس البشرية.
كان اسم (وارسو) يعني النضال والموت في سبيل التقدم الإنساني.
كان اسم (وارسو) يعني العمّال والشبيبة وأطفال المستقبل.
آه…ماذا بقي من (وارسو)..

حتى (وارسو)ما عادت (وارسو) التي عرفناها وحلمنا بها وحمَّلناها حبًا منحوتًا في القلب.
الواقع غير الواقع.
كل الطرق أصبحت تؤدي إلى (وارسو).
ما عادت (وارسو) مراقبة واعتقالاً وفكرًا ونضالاً وعمّالاً وأطفالاً وتقدمًا.
أصبحت (وارسو) سوقًا سوداء للدولار الأخضر.
وفِراشًا كبيرًا ينوء بثقل الباحثين عن المتعة الجسدية.
وعندما يبدأ الدولار الأخضر في التسلل إلى المواقع الحصينة يبدأ السقوط.

أخيرًا (وارسو) ..
عندما توقفت الطائرة الفرنسية فوق ممرات مطار (وارسو)اكتشفت أنني المسافر الوحيد الذي عليه أن يهبط إلى (وارسو) أما الآخرون فطريقهم غير طريقي.
يا إلهي …هل قُدِّر لي أن أكون وحيدًا في لحظة اللقاء مع العشيقة القديمة ؟
لا بأس فرغم مرارة الوحدة تقدمت بجرأة نحو قاعة الوصول، وصوت يهتف داخلي…

أخيرًا (وارسو) ..

وارسو / يوليو 1975م.


الرسالة الثانية

حجبوا عني (وارسو)…

زرعوا ضباب الجنس والمتعة الفاسدة على شمسها الملتهبة ..
كنت أستعد لخوض رحلتي داخل الأعماق الحقيقية لـ (وارسو)، أحلم بعشرات الشباب اللذين سألتقي بهم وهم ينسجون بإبداعهم، بفكرهم،بسواعدهم، بوقتهم، خيطًا مضيئًا في تجربة الإنسان المتواصلة من أجل سعادته ورخائه.
أحلم بالجلوس مع عائلة تعيش آمال المجتمع في تطلعه الدؤوب للبناء وتحقيق الكفاية الإنتاجية ، هائلة تتكوّن من الأم والأب وأولادهم الصغار اللذين تبدو تطلعات المستقبل من خلال إشراقة وجوههم…
لكنّهم حجبوا عني (وارسو)…

في قاعة الفندق الذي أنزل فيه التقيت بهم .. مواطنون من (ليبيا) أعرف بعضهم،احتضنوني…رحّبوا بمقدمي، أضفوا عليّ من عبارات التقدير ما أغرقني في بحر من الخجل …
وقدَّرت أن متعتي ستتضاعف، لن أكون فردًا ،سنكون مجموعة طيبة تكتشف أعماق (وارسو)..
لكنني كنت أحلم..
فهؤلاء لهم مخططهم الخاص بهم إنهم قادمون لهدف معيّن لا يتنازلون عنه حتى بالموت.
أحاطوا بي من كل مكان.صنعوا حولي سورًا، ألست مواطنًا منهم ؟…
حجبوا عنّي (وارسو)…
حاولت أن أشرح لهم ماذا تعني(وارسو) وسط هذا الصراع العالمي الشرس..
قرأت عليهم أشعار(البيّاتي) قلت لهم إن هذه التجربة جديرة بالمعايشة والتأمل واستخلاص المعاني …
وضّحت لهم أن المتعة الحقيقية هي أن تكتشف البلد الذي تزوره…
تركوني أتكلم
تركوني أشرح
تركوني أقرأ الأشعار
تركوني أحلم…
وعندما انتهيت أخذوني من يدي ودلفوا بي لأول ماخورة قابلتنا…
حجبوا عنّي (وارسو)..
أمام إلحاح مواطنيك في الخارج لا تستطيع الهروب،فأنت سيء وأحمق وجدير بالمقاطعة والتشريح إذا أنت فكرت في الهروب .
يجب أن تفكر في مناطق لا تقابل فيها مواطنيك قبل أن ترحل إلى أي بلد ..وإذا لم تفكر في ذلك فعليك أن ترضخ للواقع وعليك أن تستسلم للحصار،وأن تُسلّم قياد نفسك لمواطنيك يُدخلونك أول ماخورة تقابلهم…

حجبوا عني (وارسو)…

ليس العيب في مواطنيك لكن العيب في تلك التراكمات والترسبات القديمة التي تستقر في القلب الاجتماعي..
إن المجتمع المقفل يقذف بأبنائه إلى التمزق الكامل، يفقدهم توازنهم..يجعل شهواتهم أكبر من عقولهم،يجعل غرائزهم هي القائدة والمسيطرة والمتحكمة.

نعم…
مواطنوك لم ينضجوا على نار هادئة…
من الجوع إلى الشبع حتى التخمة والمرض والموت…
من الصبر الأصفر الكالح إلى أفخم الصالونات
من الحافلة المتهالكة والدراجة المتآكلة إلى أفخم السيارات من الصفر إلى الآلاف…
من الحجرة الضيّقة إلى الشقة الواسعة النظيفة.

نعم…
مواطنوك لم ينضجوا على نار هادئة
تطور مادي هائل ولكن بدون أن يصحبه تطور روحي وعقلي وثقافي.
الأثاث بالآف الدينارات ولكنك لا تشعر بأن ثمة ذوقًا يربطه.
الفيلا بعشرات الآلاف ولكن لا تُحس أن فيها لمسة جمال واحدة…
البِدل بمئات الدنانير لكن ألوانها نشاز توحي بانعدام الذوق…
الأطفال تمتلىء عيونهم بالذباب وتصل إفرازات أنوفهم إلى أفواههم يستطعمونها ويستعذبونها ويستحلبونها وهم يجلسون في ظل سيارة أبيهم التي اشتراها بآلاف الدينارات..

حجبوا عني (وارسو)…
سنظل نحتاج إلى زمن طويل حتى ننضج تمامًا وعلى نار هادئة…
سنظل نحتاج إلى زمن طويل حتى يدخل الذوق والجمال إلى عقولنا ووجداننا…
سنظل نحتاج إلى زمن طويل حتى نعرف كيف نرتّب حياتنا وبيوتنا ورحلاتنا.
ووسط هذا الاحتياج الطويل سنظل نصطدم بمواطنينا في الداخل والخارج ولا نستطيع الفكاك منهم، لا نقدر على الهروب من طريقهم، فنحن بعضهم وإن حاولنا بقدر الإمكان أن نكتسب شيئًا ينضجنا، نحن بعضهم شئنا ذلك أم أبينا…
حقًا إن هذا الوضع يجب أن يدفعنا إلى عمل شيء للخروج بمواطنينا من هذه الدائرة المغلقة…
ولقد حاولنا فعلاً أن نعمل شيئًا.
كتبنا نعم ولكن من يقرأ ؟
أبدعنا نعم ولكن من يُحس ؟
تحدثنا..ولكن من يسمع ؟
فالكلمات الهادئة لا يهتم بها أحد، والنغمة المنسابة الرقيقة لا تقبلها الأذن…
ولكن رغم هذا الفشل يجب أن نواصل الطريق…
فهذا مجرد فشلنا المليون، ولابد أن ننتصر على قرع الطبول ودقات الأجراس، ونصل بالأشياء الجميلة إلى وجدان مواطنينا…

حجبوا عني (وارسو)…
أجبرني مواطنيّ الكرام الذين التقيت بهم على أن أكون سائحًا بالمعنى الليبي الصِرف…
ولم أقاوم رغبتهم كثيرًا ..!
فأنت تعرف أننا رغم قراءاتنا، رغم إصرارنا على التقدم، فلا تزال بقايا الكبت الاجتماعي عالقة بنا .إننا لم نتطهر بعد…لازلنا نحمل فيروس الكبت كأي مواطن عندنا…
لذلك لم أقاومهم كثيرًا …وكنت سائحًا بالمعنى الليبي الصِرف.
لكنني في اليوم الثالث كانت المرارة قد وصلت إلى حلقي وبدأت أستطعمها،فما أتيت لـ (وارسو) كي أكون سائحًا بالمعنى الليبي …
وها أنا أكتب لك كلماتي في الفجر وأنا أنتظر رد شركة الطيران على طلبي بالسفر على أول طائرة مسافرة خارج(وارسو) …هربًا من مواطنيك الكرام الذين حجبوا عني (وارسو) وزرعوا ضباب الجنس على شمسها الملتهبة.

وارسو / يوليو 1975م.


الرسالة الثالثة

كان سائق الأجرة شابًا صغيرًا …خصلات شعره الأشقر تنسدل على جبهته فتضيف إلى وسامته بُعدًا جديدًا..
وكانت الرحلة طويلة ولا بد من قطعها بالحديث ومن حسن الحظ أن السائق الشاب كان يتكلم انجليزية جيدة تمامًا..

وبدأت معه الحوار بجسارة..
قلت له: هل تعجبك الحياة في (بولندا) ؟
وكأنه كان ينتظر هذا السؤال منذ سنوات طويلة.
اندفع في الكلام كأنه الطوفان.
بالطبع لا تعجبني الحياة في (بولندا)..!
نعم إن كل شيء متوافر، العمل والعلاج والضمان الاجتماعي والسكن والمواصلات..لكن الحياة لا تتحدد داخل إطار هذه الأشياء فقط …فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان .
لقد قتلت الشيوعية فينا الإحساس بإنسانيتنا..فأنت تأكل وتشرب وتتناسل ولكن لا تشعر أبدًا بأنك تمارس إنسانيتك كما تريد أنت …فههنا كل شيء مرسوم وعليك أن تقبل وترضى ولا تفتح فمك بكلمة واحدة …فالطريق أمامك محدد ويجب أن تسلكه ولا تفكر حتى مجرد التفكير في تغيير اتجاهك ..
قلت : كيف يمكن اكتشاف الخطأ ؟
واصل الشاب البولندي كلامه كاندفاع الطوفان :
ربما نعم …وربما لا …
قد يكون الخطأ في التطبيق ..وقد يكون الخلل في الأساس.
ولكن هذا لا يهمني..الذي يهمني أن حياتي محددة داخل إطار …وأنا أريد أن أخرج من هذا الإطار لأنطلق في حرية..
ليس معنى هذا أنني مع عودة الرأسمالية لتتحكم في الناس وتستنزف عرقهم وجهدهم.
إنني مع الإشتراكية على طول الخط .
ولكن السؤال هو: أي اشتراكية ؟
لنقل مثلاً إنها اشتراكية (السويد) ..إن الاشتراكية هناك تُطبَّق من خلال مراعاة حرية الإنسان وحقه في التغبير والنقد والاختيار.
لا توجد في تجربة (السويد) رأسمالية بالمعنى المفهوم والمعروف للرأسمالية الشرسة الشرهة.
ولكن أيضًا لا توجد شيوعية بقيودها الحديدية التي تُدمي النفس.
المهم في تلك التجربة السويدية الإنسان أولاً وأخيرًا والهدف سعادة الإنسان أولاً وأخيرًا.
إن الإنسان في (السويد) لا يخضع للنظرية، تُطّبق وتجرّب عليه ولو أدت إلى هلاكه..ولكن النظرية هي التي تخضع لحاجة الإنسان ومتطلباته ورؤيته وأمانيه أيضًا.
إنني يا سيدي من هذا المنطلق أرفض شكل الحياة في بلدي.
لم أتدخل في الحوار ..تركت الطوفان في ثورته وسرحت بعيدًا.
هل هذا هو رأي القوى الجديدة في (بولندا) ؟
رفضت السؤال وبشدة..فهذا الشاب ذو الشعر الأشقر، لا يمثل شباب (بولندا) ولا قوّتها الجديدة.
ولابد لكلماته الغضبى المندفعة من صورة أخرى تحتاج إلى توضيح ..فهو من هذه الفئة التي أفسدتها أفواج السيّاح التي تتزاحم على أبواب (وارسو) بحثًا عن المتعة بأرخص الأثمان.
من الفئة التي تعلمت اقتناء الدولار الأخضر، وتعلمت شراء الحاجيات الأوروبية التي يأتي بها السياح يبيعونها في سوقها السوداء ويشترون بها لحظات من المتعة العابرة.

لقد أصبح يحلم بعالم وردي لا يوجد له واقع إلا في أشرطة الخيّالة والدعايات الأمريكية.
إن هذا السائق الشاب ذو الشعر الأشقر منفصل تمامًا عن الحياة الحقيقية التي يصنعها الإنسان الاشتراكي داخل المصانع والجامعات والمنتديات والمؤسسات والمهرجانات.
ومن هنا تأتي عذاباته وتنبثق حرارته وينطلق غضبه.
لو نقلوا هذا السائق الشاب ذا الشعر الأشقر إلى عاصمة غريبة أخرى لمزّقته الحقيقة.
لو نقلوه إلى هناك لعرف قيمة أن يتوافر له الخبز والدواء والمدرسة والعمل وضمان الشيخوخة.
فالعواصم الغربية كالقطط المتوحشة التي تأكل أبناءها، والشباب هناك ممزق ضائع لا يعرف طريقه..ولا يعرف ماذا تُخبئ له الأيام..يقطع رحلته بدون ضمان بدون إشارات ضوئيةتقدم له الهداية.
الشباب هناك يقف وحيدًا في مواجهة المخالب الرأسمالية المتوحشة والأحزاب التقليدية المنفصمة عن هموم البشر..والسلطة المتركزة في أيدي طبقة واحدة، والتمزق النفسي والأخلاقي والروحي.
ترى أين سيكون مكان السائق الشاب ذي الشعر الأشقر وسط عالم الإعلانات والمرجوانا والشذوذ…؟
لا شك أنه سيظل سابحًا في أحلامه المريضة ..
وستظل تجربة الإنسان في اندفاعها وتجددها هي طريق الإنسان وخلاصه في (بولندا).
وستظل (وارسو) رغم السياح وسوق الدولارات الخضراء، بلد العمال الذين يصوغون شرف الحياة على امتداد أرض (بولندا).

مطار وارسو، يوليو 1975م


من كتاب (هوامش على تذكرة سفر) صدر عام 1978م.

مقالات ذات علاقة

قبلة

المشرف العام

الكينونة

مفيدة محمد جبران

رحيلك غصة صمت

نيفين الهوني

اترك تعليق