من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
قصة

تــيـــزان*


إلى سالم البرغوتي…

من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي
من أعمال التشكيلي.. معتوق البوراوي

حين صَعدت إلى الشقة التي تعلو مقر سكناي تلبية لدعوة عشاء، جاءت “سيفيم” بعد العشاء بصينية خشب تتزاحم عليها أكواب منقوشة مختلفة وقدمتها لي ولأسرتها الصغيرة.. ترددت في تناولها.. لكن سخونتها والبخار المتصاعد من جوفها أشعل فضولي وحثني على أخذها..

  • هذا تيزان.. يهدأ النفس ويريحها ويساعد على النوم…

كانت شقة سيفيم مريحة.. مليئة بالنباتات، وفي أحد أركان صالونها شجرة.

  • أراك تنظرين إليها كلما زرتينا، هل ترغبين في معرفة قصة هذه الشجرة؟

أومأت اليها برأسي وابتسمت

  • وجدت هذه الشجرة منذ سنوات ملقاة في الشارع وبانت لي جذورها طرية فعرفت أنها أقتلعت منذ ساعات.. حملتها وأتيت بها إلى شقتي، أعدت زراعتها في هذا الحوض الكبير واعتنيت بها .. وها هي كما ترينها بعد سنوات شجرة وارفة داخل الشقة تلامس السقف.

تحدثت سيفيم بفخر.. لم يكن لديها إلا طفلة.. وكلب صغير، وها هي الشجرة تنضم فيما يبدو إلى عائلتها الصغيرة.

رَشفت التيزان على مهل، كان ساخنا… فيما كانت الريح تعوي في الخارج والأشجار تهتز بانتظام…

  • شتاء باريس لا أحبه…ماذا عنك وأنت الآتية من شمال أفريقيا…

اكتفيت بالإبتسام.. كانت لغتي ما تزال ثقيلة وكان فهمي متقدما على كلامي… ظلت تنتظر إجابة مني،

  • أحبه…

ضحكت سيفيم وقد فهمت أنني تخيرت أقصر كلمة لأهرب من الحديث الطويل.

  • هل اعتدت على الحياة هنا… هل أعجبتك؟
  • نعم
  • تمام

لم يمض على وصولي شهران، وما أزال أفتح عينيّ كل صباح وأتوقع أن أكون في غرفة نومي في طرابلس.. وددت أن أحكي لها عن شتاء طرابلس.. حيث تخرج البرودة من الحيطان وتتسلل إلى أطرافنا فتلسعنا.. كيف نثني طبقات البطاطين لندفن فيها أقدامنا.. كيف نجري في البيت للوصول إلى غرفة المعيشة وهي الغرفة الوحيدة الدافئة فيه، ونتمنى أن لا نخرج منها حتى إلى الحمام…

كيف لي أن أحكي لها عن الفصول الدراسية ذات النوافذ المكسورة المرفدة بالورق المقوى، كيف نبقى بمعاطفنا داخل الفصول، وكيف يكون العقاب مضاعفا في الشتاء بسبب تجمد أيدينا.. لكنني أردت أن أقول لها أيضا، إن الله رحيم بنا، ذلك أن الشمس سرعان ما تعود إلينا تدفئنا وتحنو علينا…

  • نحن لا نملك تدفئة مركزية..
  • لا تحتاجونها… جوكم متوسطي دافيء

هممت بالشرح، لكنني سرعان ما تداركت الأمر واكتفيت بهز رأسي.

كانت سيفيم خليط من دم تركي ودنماركي، لكنها تعيش وزوجها الألماني بباريس.. لم يكن زوجها يتقن الفرنسية، لذا تتحدث اليه بالألمانية أما مع ابنتها فتتحدث الفرنسية.. كنت أراها كموجات الراديو تغير إبرتها بيسر وتدير أحاديث بلغات مختلفة، وحين تزورها أمها العجوز تتحدث إليها بالدنماركي.

تتذكرني سيفيم في غربتي وتدعوني للعشاء من حين لآخر… بيتها دافئ ككوب التيزان، وتلك الشجرة المورقة في ركن صالونها تشع في قلبي الأمل.

وفي إحدى زياراتي قابلت الدنماركية العجوز، بدت لي غربية في ذلك البيت…

  • “هذه الفتاة التي حدثتك عنها.. من شمال أفريقيا تسكن في الشقة أسفلنا”.

القت إلىّ الأم بابتسامه خاطفة…

  • “لكنها بيضاء…..”

كنا معا في المطبخ، وكانت الأم تتخذ من كرسي قصي مجلسا، تتابع حركتنا في المطبخ وتتناول كأسا من النبيذ الأحمر..

أحسست بحرج سيفيم حين أزدادت ضربات السكين في يدها وهي تقطع حبات البطاطا…

  • “أمي ليس كل الأفارقة داكني اللون…”
  • –         “تقصدين سود…”

هنا علا صوت سيفيم باستهجان ..  

  • “أوه لا لا ماما…”

حينها فقط أفرجت الأم عن أساريرها وضحكت حتى مالت إلى الخلف…

  • “أمي.. أنتِ تزوجت تركي أسمر البشرة.. أنظري إليّ….. أنظري..”

عرت سيفيم ذراعها .. “أترين هذه ابنتك.. ليست مثلك شقراء”.

 اعتدلت “أتي”- وهو اسمها الذي عرفته لاحقا حين مالت عليّ أثناء العشاء وقالت لي بصوت خفيض حازم “ناديني أتي”- اعتدلت في جلستها، نظرت إلى ابنتها بعمق وقالت “صحيح كان أسمر، لكن عينيه خضراوان”.. وأستمرت تتناول شرابها.

حينها فهمت هذا المزيج الظاهر على سيفيم..

طويلة ونحيفة القوام كأتي، سمراء البشرة، ذات شعر بني قاتم ملتوٍ، وعينين خضراوين كلون أوراق شجرتها… لابد أن يكون مصدرهما أبوها التركي..

كانت أتي جاهزة للجدال.. متحفزة رغم جلوسها، وتنبئ قسماتها عن رغبة في الشجار إن استدعى الأمر..

“كما أن اباك من عائلة تركية ارسطقراطية …، ثم التفتت لي فجأة وقالت لي هل قالت لك سيفيم ذلك…”

ترددت في الإجابة..تدخلت سيفيم وامسكت بدفة الحديث كعادتها حين تتمدد خيوطه، لكنها هذه المرة تحدثت مع أمها بالدنماركي، كانت هادئة لكنها حازمة وكلماتها مقتضبة .. تحاول أن تكون متماسكة طبيعية دون جدوى.

وزعت سيفيم أماكن جلوسنا على طاولة العشاء وهكذا وجدت نفسي أجلس إلى جوار “أتي” في العشاء، سألتها “هل أتي هو أسمك الحقيقي”.. لم تجبني واكتفت برسم تلك الابتسامة بلامبالاة.

ارتفعت وتيرة الأصوات وحامت في المكان سخونة مشوبة بإختلاط الأنفاس، رفعت عيني إلى الشجرة التي تسلقت السقف، أوراقها نضرة وممتدة وكأنها تراقبنا بصبر. تناولت أتي كأسا آخر، والتفتت نحوي

“لدي قصة لكِ”

نظرت إليها، فرأيت عينيها الزرقاوين الضيقتين خلف النظارة، لم أطل النظر فقد بدتا لي متحفزتين للجدال مجددا كما رأيتها وهي تجلس في المطبخ، فتظاهرت بالإنهماك في تناول طبق السوفليه الذي أحب.

“كنت صغيرة حين جاء أفريقي واستقر في بلدتنا… جلبته معها إمرأة دنماركية.. بيضاء بالطبع مثلي” أشارت إلى ذراعها. وواصلت “ابنتي مثل ابيها للأسف… كما تعلمين… لا بأس”

“المهم ذاك الرجل كان أول أسود يراه سكان القرية… أما عني فقد سمعت عنه ولم أره.. قالت لي أمي هو كبهيم الليل.. كقماش القطيفة السوداء الذي نرتديه عند الذهاب الى الكنيسة..” صغرت عيناها.

انقبض قلبي قليلا.. وهي تتكئ على كلمة الأسود وتذكرها بلغات ثلاث.. الفرنسية والأنجليزية وعلى ما يبدو الدنماركية… كانت سيفيم تجلس على صدر الطاولة.. ويبدو أنها كانت تراقب الموقف عن بعد… قطعت الحديث بيننا وحاولت استدراجي إلى حديث سياسي  صاخب كان يدور في جهة أخرى على الطاولة.. لكن أتي استمرت في حديثها، وبدت لي قصتها مشوقة..

“كانت مفاجأة لي حين رأيته يقود دراجة.. كدت أن يغمى عليّ” هنا بدأت “أتي” في تحريك يديها، وفتحت عينيها وهي تصف صدمتها…

“تصوري أنها جلبته معها إلى الكنيسة ذات أحد… كانت إمرأة صلبة وجريئة.. رحلت إلى بلدان عديدة، لكنها عادت إلى الدنمارك واستقرت بها”. شهقت نفسا طويلا ملأت به رئتيها ثم زفرته…

“هذا الرجل أثبت أنه جيد… وعاش في قريتنا بسلام.. وحين توفى شيّعه الكثيرون…” ثم ضحكت وقالت “كلما أتذكر ذلك المنظر وهو على الدراجة أفزع…”

كان الحديث في الجانب الآخر مستمرا حول نتائج الانتخابات الفرنسية وكيف سيتعايش الرئيس الاشتراكي “ميتران” مع “شيراك” اليميني رئيسا للوزراء… بينما أتي ما تزال تستذكر الموقف على ما يبدو وتضحك.. بدا لي وجهها فجأة طفوليا طيبا خجولا وهي تعبث بأدوات الأكل بأصابعها وتضحك بصوت خافت وتهتز…  ضحكت لضحكها…

أتت سيفيم بطبق الجبن، قطعت قطعة من جبن الكامونبير وغرست نهاية السكين المتفرع فيه… تدخلت أتي بسرعة قبل أن أترك السكين “انتظري.. خذي من هذا الجبن المعجون بالكمون… لذيذ جدا”

تناولت قطعة…

“الجبن لا يكون لذيذا إلا مع النبيذ الأحمر”..

لم أرد وانهمكت في رص الجبن في قطع الباجيت الطازج.

“زوجي كان مسلما… لكنه كان يعشق النبيذ”.. وانفجرت ضاحكة..

نظرت إلىّ سيفيم، كان القلق ناطقا على وجهها…. نهضت وأعلنت نهاية العشاء والإنتقال إلى حجرة الصالون المجاورة…  

أخذتني سيفيم من يدي وأجلستني  على كرسي منفرد، خلفي الشجرة الوارفة وهمست في أذني “أتمنى أن لا تكون أتي قد ضايقتك”.. “لا أبدا”.. لمحتها تجلس على الكنبة المقابلة.

كانت أتي تراقبني بين الفينة والأخرى، وإخيرا أومأت لي بيدها وأزاحت لي مكانا إلى جوارها… بحثت عن سيفيم فلم أجدها ولم استطع أن أرفض، انتقلت حيث هي وغصت في الكنبة إلى جوارها. شعرت بطولها الفارع إلى جواري، وجهت عينيها الزرقاوين نحوي، وبصوت تعمدت أن يكون هامسا “هل أنت مشغولة في عطلة نهاية الأسبوع”… أجبتها بعفوية “لا”.. “ممتاز.. أدعوك لزيارتي فأنا أقطن بيتا في قرية هادئة قرب باريس، سأعطيك أسم محطة القطار وسأكون في انتظارك”…”علمت من سيفيم إن لديك دراجة، أنا كذلك أحب ركوب الدراجات…  سنتنزه معا”.

حضرت سيفيم حاملة كعادتها صينية تصطك عليها الأكواب المنقوشة.. إنه التيزان الساخن، أنزعجت حين رأتني إلى جوار أتي . تناولت كوبي بكل أريحية وأنا أحرر جسدي من الكنبة، ابتسمت سيفيم محاولة مداعبتي “هههه بدأت تألفين عادات هذا البلد.. هو أحمر بأعشاب الغابة..”

ظلت سيفيم تراقبنا بقلق وهي ترى أتي تمد لي ورقة بإسم محطة القطار ورقم هاتفها، وأرسلت لي حركة برأسها وحاجبيها وكأنها تستفسر فيما إذا كانت الأمور على ما يرام… طمأنتها بهزات رأسي وابتسامة عريضة.. وسط ذاك الجمع الصاخب، كنا سيفيم وأنا نتبادل ركلات الحوار الصامت بقلق من أن تخطأ أتي كلماتها فيساء فهمها.. أما أتي فلم تكن تبال بشئ… ترشف كوب التيزان بذات الطريقة التي احتست بها شرابها.

حين وصلت محطة القطارات، وجدت أتي في انتظاري ممسكة بدراجتين.. كانت بكامل هندامها الأنيق، ونظاراتها اللامعة، تضع تنورة طويلة واسعة وحذاء مسطح، وتزين صدرها بعقد من اللؤلؤ..

هممت بمصافحتها، لكنها سارعت وبادرتني بالقول

“هيا .. هيا اركبي الدراجة، البيت ليس ببعيد”.    

 منذ ذلك اليوم، بت أقضي عندها عطلة نهاية الأسبوع على مدار أشهر الصيف، نتنزه بالدراجات نهارا، نتناول الجبن بالكمون، ونحتسي كل ليلة تيزانا ساخنا قبل أن نخلد إلى النوم.

عزة كامل المقهور

18/ 10/ 2018

________________________ 

*تيزان هو شراب من الاعشاب يتناوله الفرنسيون قبل الخلود إلى النوم.

مقالات ذات علاقة

من يوقف المطر؟!

أحمد يوسف عقيلة

متلازمة السعادة

صفاء يونس

الـدم الأسـود

إبراهيم بيوض

اترك تعليق