المقالة

تسويات المولد

انتهت أكبر الأزمات في العالم بعقد صفقات وليس بحلول سحرية ترضي كل الأطراف المتصارعة. السلام الذي غير الطريق لشعوب برمتها أتى في كل مرة نتيجة تسوية بشكل ما ولم يولد في ليلة قدر. 

استسلمت اليابان في الحرب مرة،  استسلمت ألمانيا، واستسلمت تركيا ومنحت مستعمراتها للدول الأوروبية ( من بينها ليبيا ذهبت لايطاليا) استسلم يوسف القره مانللي لأمريكا ورضخ لشروطها بشأن حادثة السفينة فيلادلفيا،  وأذعن توم وجيري لبعضيهما قبل مجيء يوم الدينونة،  وهكذا الحال.

في بداية الأمر يبلغ العراك أشده متصاعداً حتى يصل أعلى  الدرجات ثم عندما يستوفيها يبدأ في الهبوط التدريجي إلى أن يستقر عند نقطة معينة ولنسمها إتفاق / هدنة / صفقة / ركلات جزاء ترجيحية… الخ

لكنها بداية منعرج نحو مسار أخر علي كل حال، سيطوي الصعوبات الأشد وسينطوي علي صعوبات أقل وحشية، تبدل فقط وجه المعاناة وتحيل سداد الفاتورة للحلقة الأضعف وجوداً في الغالب.

الأزمة الليبية التي خلقتها الأطراف المتناحرة على إدارة ليبيا هي التي تلتقي اليوم لتروج لحلها ما بين بلدين، تعطلت بينهما لغة الكلام ( المغرب والجزائر)، الأزمة لم يفتعلها الانسان العادي قدر ما كان هو ضحيتها ووقود حربها، سيعودون أدراجهم لاستخدام المواطن العادي للترويج لفكرة انهاء الاختناق وسيجد المواطن نفسه محشوراً في خطابات التهدئة من جميع الأطراف، أكثرها حدة وشراسة وأوسطها وأقلها.

وسيلزم الأمر بالطبع شيء من القصائد والدموع ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم، وإلى بئر جديدة تسقط فيها حبال السوء، فقد امتلأت الأبار الأولى كافة من (  حبال سو وطاحن في بير)

القاعدة العامة هي أن مالا يبدأ بصفقة سيعترك للوصول إليها.

اهبطوا بعضكم لبعض عدو ( قرآن كريم )

الصراع هو محرك التاريخ ( ماركس، فلسفة )

الجين أناني يصارع للبقاء( دوكينز، علم الأحياء )

ثلاث قواعد مختلفة المصدر تؤكد لطبيعة واحدة وهي حتمية الصراع من عدة اتجاهات، في سبيل البقاء، ولإدارة ذلك الصراع المشروع نتجت صفقات الحرب والسلام،  توجتها الديمقراطية الحديثة بنزع الأسلحة الحادة من أيدي المتصارعين واستبدالها بأدوات أخرى لا ُيرى فيها الضحايا ولا تبرز فيها علناً إصاباتهم، ويقبل فيها الأضعف بالنتائج أياً كانت.

الديمقراطية تبدو الحل الأنسب لكنها ليست الحل الأمثل للقضاء على الأزمات، الديمقراطية توازي خيار الامتحانات في التعليم، غير منصفة لكن لابد منها لعدم وجود بديل غير همجي أخر.

هي صفقة وصل إليها العالم خلال صراعاته لتغيير مسار الأزمة وطبيعتها، وهى المسمى الأكثر رونقاً في تسوية اقتسام السلطة مابين اقطاب الحكم الديني( الكنيسة ) وخصومها المدنيين، بموجبها تنحت الكنيسة دون فقدان ماء الوجه عن إدارة الكل وافسحت مجالاً لشركاء أخرين.

لكن لا أحد خرج من المولد بلا حمص.

حسناً الدول ماهي إلا أفراد يشكلونها، كانت ليبيا خلال عقود مضت صورة فردية لشخص المدير ولأسلوبه في الإدارة ، اختلفت صورتها خلال عهد الملك عنها في عهد ملك ملوك العالم العلوي والسفلي، وعنها اليوم في عهد المماليك(  الصخصيات بالليبي)

ولمزيد من الإيضاح تمعن في صورها على عدم استحياء.

المظهر العام لها فوضوي ودموي وعدمي منذ وقت بعيد، الكل يعتلي المنبر ويلقي خطابه، هايد بارك مسلح وشديد اللهجة. سينتهي غالباً عندما يتعب المتصارعون ويتسببون في آضرار للكبار، تماما كما تعبوا واستهلكوا بالتساوي في الحرب اللبنانية اللبنانية، سيجلسون لاقتسام كل شيء بينهم ، وسيقتسمونه عاجلاً أو أجلاً  ويحملون المواطن العادي جميلة رضوخهم للقسمة، تركة الرجل المريض لابد لها من أكلين، وسيكون من الحكمة وليس بالضرورة من العدل، أن تجلس مع الأكلين ، تلك هي أهم خصائص الدنيا، متاع الغرور.

عزيزي المواطن، الجرم الأصغر الذي لا ُيرى  في خضم فخار كبير يكسر بعضه، أنت وظيفتك فقط أن تسب، وتتحمل نتائج اختيارات الاخرين، أن تتبنى وجهات نظر الجماعات الكبيرة المتصارعة وتموت دفاعاً عنها، وتتشاجر مع الاخرين بسببها، وتغلق شارعكم  وتعلنه منطقة مخصصة لحرق الإطارات، أنت فقط وقود ودخان، أنت فقط ورثة ضعفاء من قبلك سلموا أمرهم للغولة في ليبيا كي تنتقم لهم من ناهبي حقوقهم ، فقالوا قولتهم الشهيرة تلك “ياحليبي خب خب انشالله تقعد في الركب” ولازال ينتظر بإخلاص منذ جده الأول، معجزة  تحقق عدالة حليب الغولة.

عليه، إن جنحوا للسلم اليوم، ابحث عما تيسر من مصلحتك في ذلك الجنوح، فهو أيضاً صفقة، ولا تعتمد على حليب الغولة عندما  يكون الجميع هم الغولة، لا تنسى أن اليونان بلد الحضارة العريقة التي غيرت العالم تعاني اليوم الافلاس المدقع، وتخوض صفقات عدة للخروج من المأزق بتقليل حجم الأضرار وليس طمعاً بالحصول على مكاسب، فذلك هو المكسب بالنسبة لها، حتى وإن نتج عن نجاح صفقتها تحولها إلى بلد مسترق!

إن موقف بلد سقراط محرج لنا نحن الليبيون، فالمبلغ الذي تحتاجه اليونان للخروج من الأزمة صرفناه نحن في مغامرات صبيانية وقرطاسيات، ولذلك ليس من الاحراج في شيء أن يبدأ بناء ليبيا بحفر بئر كبيرة تتواري فيها كل السوءات.

إنها حقاً لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم في الأموال والأولاد، فلتكن لاعباً جيداً وفقاً لذلك التأسيس، أما التكاثر والتفاخر فلا أملك مع معدلاتك فيهما إلا النصح بالتقليل وترشيد الاستهلاك.

ساعد الغولة بعدم التغول!

____________

نشر بموقع هنا صوتك

مقالات ذات علاقة

هابيتوس العودة الفلسطيني

نورالدين خليفة النمر

ليس للحرب إلا وجهٌ واحد

ناصر سالم المقرحي

البغـدادي شَاعرُ كُلِّ المَــدَائِن(*)

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق