من أعمال التشكيلي الليبي .. علي العباني
سرد

تاجر الأوهام (3)- الشيخ بلال

 

من أعمال التشكيلي الليبي .. علي العباني
من أعمال التشكيلي الليبي .. علي العباني

  • توّا يا شيخ بالله عليك، رجاءً… شجرة التوت هي اللي فوقنا، اللي تظلل علينا وتحبس عبير الربيع بين وراقيها، تلبسه برودتها وتنزله بالراحة بارد لين يتغزل بالأصابع واللي كيف ما يروي الناس فيها بركة الشفاء والغذاء، توتها كيف ما قالوا مختلف تماماً عن باقي التوت اللي تشوف فيه في السوق، وكما قال الشيخ بركة الكبير جدي الأكبر العالم الطيب : هي من أرضِ الجنة، غطى الله بها آدم وزوجه، بركة اللباس. ياخي يا شيخ بلال، الأيام الماضية كنت في السوق، أنت تعلم…كانت الناس هيام في الشراء، رأيت تاجراً يصيح من بعيد: توت..توت، مش كله خوت. كان أجرباً، عيناه الضفتعيتان تنغرسان كفقاعة داخل جمجمته الأناناسية سمرته سمرة جلدِ جملٍ بُنيٍ أعيته رمال الصحراء… كان يرتدي فانيلّا  فسفورية تكاد صبغة الحروف تمّحِي تاركةً بقايا لي كلمات تقول ” IT IS ALL GOOD” بالبنطِ الملتوي ينحرف طيف اللون من حرف الآيْ إلى الدِي بانسيابٍ غير ملحوظ، تلتصق بها من أعلى كلمة “Baby” ولكن لا تخف يا شيخ، عاتبتُ الرجل وسألته لما تمثلتُ أمامه ” هل تعرف ماذا يعني الذي على صدرك؟”، أجابني بلا….كلهم يجيبونك بلا يا شيخ، لا أحد يقول لك إلا المتملقين ” بنعم” وعندما تسأله عن معناها يتلكأ ويتلعثم ولا يدري ما يقول، قلتُ له تعنِي ” كل شيء جيد يا حبيبتي”، هكذا رأيتهم يترجمونها مرة… ولا تتخذهن آخذن يا شيخ، زوجة وليست صاحبة. نظرت إلى ثمار التوت، توت إيطاليْ كُتبت على ورقة بقلم رصاص، سعر العُلبة…كُتِبَ بتكرار خطِ القلم بعشوائية على الرقم، كانت العُلبة عبارة عن حاوية صغيرة من البلاستيك، بيضاء تحمل داخلها قطع معدودة من توت يكاد حجمه ينافس حجم المشمش يا شيخ… أنواع أخرى: توت عربي… مجموعة من قطع التوت الصغيرة التي لا تزيد عن حجم التوت الطبيعي الذي نعرفه، بيضاء وعنّابية وسوداء يتقطر منها السائل البريْ، مرصوفةً فوق بعضها البعض… ” توت البركة” والسعر مكتوب بخط أكبر، كان سعره أضعاف الأنواع الأخرى بسبع مرات… ٍسألته: ما الفرق؟ قال وعلامة الاندهاش على محياه، اتسعت عيناه المتسعتيْن… بدا حاجبه بعيدان عن عيناه مسافة مجرتيْن، فمه اتسع لتتمكن من رؤية أسنانه البيضاء مرصوفة بعناية، ارتفع خده الأيمن مسافة حبة توت عن الأيسر، وسألني : كيف ما تعرفاش؟ كان بصوته نقيق… هذا التوت مش زي باقي التوت… التوت مش كله خوت يا خال! حتى لو كان نفس الشكل ونفس المنظر لكنه صدقني مش نفس البنّة، هاك ذوق واحدة من هالعربِي – وقالها بشيء من احتقار- وهاك ذوق من هالبركة، قبّل حبة توت البركة وقال: سمِ بسم الله، وادعوا ربي يشفيك أو يهنيك… أخذت القطعة، نظرت لها، أكلتها…حاولت أن أعصرها بين أسناني لكنها اختفت في لساني معصورةً لوحدها، تمنيت…وكان الرجل ينظر إليْ، يحدق في فمي ويراقب سير العملية. الحمد لله قلت له، لفظ بكلمات هامسة، لم تكد تسمعها ولكنّي قرأت ما تبقى منها في الهواء كانت ” آمين”، اشتريتُ التوت، دفعت فيه الغالي والثمين يا شيخ… زمانها الرزق مش واجد، كنت في طور الشباب فهمتا كيف؟ توا يا شيخ… بعد هالقصة، معقولة رسمي في التوت هو بركة ولا غير ضحك عليّ الراجل؟. سامحني أنا ره ثقافتي في الدين ضعيفة مش زي حضرتك.
  • والله فيها قولان، ولكن نحن نأخذ القصة على ما أخذت عليه، الأمر كما ترى….

ومضى يحكي كما يشاء، غرقت في عالمٍ آخر…نفكر في زبون آخر جاية وراه صفقة مليحة، أتخيّل كيف سيقع ابن الناس بين يدي وقعة لم يقعها من قبل، أما الشيخ المسكين فكنتُ أسمعه ولا أسمعه، كنت أضع بعض من تركيزي عليه حتى إن قال اسم الرسول لحقته بسرعة بالصلاة والسلام، أحدق فيه وعلامات التركيز على وجهي، تقنية ابتعتها للزبائن الاعتياديْين الذين لديهم شحنة عواطف يجب أن يفرغوها بالحديث، عاطفة لا أحد يسمعني كانت من ما أصيب به الشيخ، أعقب عليه أحياناً دون أن أدري ما قاله بـ ” صحيح” ، بالطبع وهواء أطلقه علامات على التتبع ” آها…به، امممم”، أطرح عليه سؤالاً مباغتاً، أطرح قصة لها دلالة بما يقوله، اقترح عليه أن يفعل شيئاً ما حيالها، يحدثني: الشريعة يجب أن تتطبق. أقول: لما لا تتقدم يا شيخ وتتطبقها… لا أحد في هذا الحيْ جدير بها مثلك، نعم شيخنا عالم كبير لكن أنت يا شيخ بلال شاب والشباب توا معاش يبوا الشيابين، يصمت…تعلو محياه أمنية، يبتسم ويقول : بارك الله فيك. أغيب… يعود للحديث، وأعود لخططي ومشاريعي، سأفعل هذا…ذاك سأجذبه، تلك…آه المسكينة تحتاج لقضيب يدفئها سأعطيها ما تريده، ذاك الفتى مخروم الحشيش…لديْ صفقة جميلة له، البوعا…ابن القحبة، سأجعله يندم على اليوم الذي عرفني فيه، سيرى. يا تُرى ماذا حدث للأحمق الأمريكي؟ يلا…المهم اللي نبيه منه حصلته. سألتقي بالكلب وأعرف منه ما حدث للأمريكي… ينهي الشيخ حديثه بالصلاة والسلام على رسول الله، أتمتم خلفه، أحدثه عن أحدهم… أقول له يا شيخ ما رأيك فيه؟ أفكره بأن الناس لازال فيهم خير مادم أحباب الله بينهم…يخرج، يدخل صائحاً ” الحكومة العاصية!  تقتل المسلمين وبيوتهم” يخرج صائحاً ” اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين”، يدخل حزيناً ” يا حسرتاً على العمرِ وعلى وفاةِ أمي” يخرج مؤمناً ” اللهم ارحم أمواتنا”، ألا تعرف؟ الشيخ بلال، كان يتيماً…ماتت أمه أثناء ولادته، فتح عينيه على زوجةِ أبٍ أخرى ترعى الفتى الصغير، أحبته كطفلها إلى أن جاء طفلها من أبيه، قل ذلك الحب وصار حب الأخ فريضةً وحبه سنة سنتها وينسى الناس هنا السنن مرة بعد حين ويتمسكون بالفريضة القصوى، خوه بشرته فاتحة مش زي بلال اليتيم: بلال اليتيم هذا ما يطلقون عليه في الأزقة،  في التجمعات، أمامه وحوله، ” بلال قاتل أمه” هذا ما يطلقون عليه خلفه، أحدٌ أُحَد يا شيخ بلال….أحدٌ أُحَدْ.

” وزي ما تقول… كثرة الخير تعلم العربي الكسل، وخيّك عربي الله غالب جدّي المرابط بركة من آل البيت وحنّايْ الحاجة حوريّة الهِلالي… بالزواجة جدّي كان صاحب أكبر مذهب في المدينة، يجوه البدو زي ما يجوني توا… زي ما يجوه الأشراف اللي يجوني، يعني عربي قح والواحد لازم يرتاحله مدام الخير وافر، شديت الشيخ، لقيته ماشي الصلاة ناديته من بعيد، يا شيخ بلال يا شيخ بلال… نظر إليْ فاحصاً طريقه للمسجد، ابتسم جلده البرونصيْ حياني من بعيد، لوحت له وقلت له : باش تجيني بعد الصلاة يا شيخ…. موضوع ضروري، رسمتله الخطة، قلتله يا شيخ موتيلك تجارة رابحة بإذن الله… بعض الأخوة يحبوا ياخذوا دروس دينية في المسجد بعد الصلاة، تو انظملك الأمور وبالك مرة مرة ربك يهديني ونجوا للجامع نتعلموا منك شوية، – كنت قد مللت الزبائن وكثرتهم، يصيبني أحياناً ضجر التكرار وأمل بعض الزبائن…أصرف لهم أرقاماً وأمنيهم أن موعدهم الغد، زبائن استجدوا بأشياء ثمينة، ومال وفير بدلاً من الجرب ورقاد الريح…فكرت في نفسي: حان وقت فتح فرع آخر، الشيخ امبيْلة وساهل الواحد يجيبه وين يبي، اتختيخة وتمشي الامور.. الثروة الحقيقة كانت تنتظر وتهد على الهامبورغا دفعاتٍ دفعات.

كانت الموسى تتخذ مكانها المعتاد في قبضته، شدّ على يدها…إنها صاحبة قديمة لا تخون، طوع أمره، يمسك عليها كإبراهيم ينفذ ما كافأه به ربه، تنساب سترته السوداء حتى مقبض قبضته، مقبض الموسى يلتصق بجلدته البرونصيّة، يحدق في الضحية من وراء الحجاب، ضخامة اعتاد عليها يحتج بركبته اليمنى على التربة وباليسرى يريح عليها جسد الأضحية، يلتف من وراءه بيده اليسرى..تتكئ على كتف الأضحية الأيسر، أحس بها تنغرز داخل جسد الذبيحة… قبض بكفه على ذقنه، كانت الأصابع تبحث عن مكانها الذي تشتاق إليْه بعد كل عملية، يضغط على الشعراتِ القليلات في رقبة غريمه، يضغط بالسبابة والإبهام يتحسس شيئاً ما داخله، يدلك المنطقة… كأنه يرسم خطاً تتبعه الموسى، يتمتم بكلمات، مزقت الموسى الجلد، فاللحم…فالوريد، نظر إلى غريمه، كان ينشد الرحمة ربما….الشعر متعرق، وجهه صار زلقاً ودمعة تأكل مدمعه، دافئاً كان كفه الأيم المغسول بالدم، دافئةً كانت الموسى…قطع الرأس، كانت كاميرا لازالت تصور ما يصنعه، هتاف لبعضٍ من مرافقيه المقنعين، شعر لحيته بدأ يحك القناع بعد بضع حباتٍ من عرق، أمسك الرأس بيده اليسرى…ألقى به جانباً، واختفى يصلي.

كانت الموسى تتخذ مكانها لأول مرة في يده، شدّ عليها…ارتجف، إنها تبدو كفتاةٍ تراها لأول مرة، مخيفة، مرعبة وواثقة وذات غرور…يمسك كإبراهيم ينفذ وعد ربه، أحس بالوجه الذي وضع قدمه عليه، اختفى الارتجاف، مرت حياته تسحب الشك منه، اختفى الارتجاف…هذر بكلمات ومن ثم حلّ هدوء جعله يمرر الموسى على الجلدِ الخشن، نظر إلى غريمه في عينيه، لا يمنعه عنه إلا مقدار ما يصله إليه بصاق الكاره، كانت عيناه تنشدان الرحمة، خوف يظلل وجهه الكئيب، بلل يداخل سرواله، وقدماه المقديتان تصنعان مماس ربع دائرة، ارتفع مستوى نبضه… استلذ، خذر لذيذ يمر من يديه إلى صدره، راحة وإطمئنان وسكينة كللته، حمى قلبه واستقرت نفسه منتشية بحمية الدمِ الملطخة به يده، خرج على القوم حاملاً رأس الغريم… صاح ” هذه عاقبة الكافرين!”. ذلك حدث، ذلك تجلّى أمامهم المشهد…ذلك رأوه في المرتفع يحمل رأساً بيده اليسرى وساطور بطولِ ذراع، ذلك رأوا قاتل أمه يقتل… همست أنفسهم : قاتل أمه يقتل…في الدم. ذلك لم يتحدث أحد….لم ينطق أحد، انساب الصمت بين رؤوسهم وأجسادهم يغازل رعدة في بعض الخيالات… كنتَ بالكاد تسمعهم يحدثونك بأعينهم يهذرون بنواياهم وردود أفعالهم، انتابه هاجس أيقظه، بصر أنهم يغدرون به، بصر بهم يتتبعون روحه، بصر بحرابهم تخترق صدره…لكن كان من الواجب أن يتمكن، نعم هنالك مناصرون أو ما يظن أنهم كذلك…. خالجه الرحيل، حلم بهم يطاردونه كذئب، حُدِّث أنهم يطلبونه…اقترب والشمس تحرق رأسه من شجرة التوت، نظر إليها، كان ظلها يبرئ الأرض من حرارة شمس القيلولة، لا أحد يخرج…هكذا حدثته عيناه باحثةً عن صيّاد…ولج تحت الشجرة.

الهجرة لمن استطاع إليها سبيلاً، لم يستطع بلال عبدُ قومِه وعبدُ أقوالهم وما يظنونه به سبيلاً للبقاء، لم يرد أن تحرقه الشمس والقوم يعذبونه، خاف أن يأكلوا من فتات لحمه ويطبخونه… لم يأمن الغدر الفتى إلا والفتى مغدورٌ للغدرِ وليمة. وصل إلى حيث لا يحيطونه به، حيث يحيط بهم…تبخر في الأيام، تبخرت تلك الأيام من ذاكرته أيضاً، استيقظ…رأسه تكاد تتمزق ملفوفةً بقطعة من قماش يبحث في الأجساد التي حوله عن جسد يعرفه، الحافلة التي تنقلهم ترفعها الطريق المتكسرة وتجيبها سافلة، تبخر كل شيء عنه…بحث عن سببٍ لوجوده بين مجموعة من الليبيين، التونسيين والمغاربة سحنتهم حرقتها الحياة، بحث عن وجه يعرفه بينهم قد ينادي اسمه ولكن لا وجود، إلى أين الطريق؟. ارتخت عضلاته بعد أن سحب الموسى من الرقبة، كان يصلي…كان يحلم بالتين والزيتون، العنب والرمان، كانت تراوده روح للوصول، غادر هذا العالم، دخل عالمه الخاص، صحبته سبعين حورية كلهنّ متشابهات كما أحب، كلهن تحكمهن حبة خال تحت أعينهنّ وكلهنّ بيضاوات بلحمٍ كالعصيدة، لازالت تلاعب دماغه أحلام عن طفولة وأم تنظر إليْه وهي نائمة، كان يراها تنسحب الحياة من داخلها، لازالت تلاعب دماغه أحلام عن حوريات وألعاب تفقد يتملكها طفل غيره وحبٌ مفقود يتملكه طفل غيره، رآها في الفراش كما رآها تلاعب طفلاً، أحسّ أنه هو للوهلة الأولى ولكن الطفل كان أكثر تفتحاً من بشرته البرونصية، اختفت واختفى في إيمانه، حادثة الحافلة يستعيدها كأول أيام حياته، يوم الحافلة…رآهم يتكلمون بلهجات مختلفة، يبتسمون ويتحادثون في أمورٍ عظيمة، الخلافة بإذن الله…الخلافة قال في قلبه، كسب صحبة إخوانٍ وأهل…أظهر ثقةً وصلادة أمام الذبح، سماه بعضهم سيف الخلافة، كانت الرؤوس تنتزع من أجسادها على يديْه، سكنته سكينة أثناء رؤية الموت في أعين أضاحيه لا تخطئ موساه صحبتها الخط الذي يرسمه كل من الإبهام والسبابة، كان كمن دُرّب في طفولته على الذبح، الإيمان فيه قال عنه أصحابه وغبطوه…كان وهو يذبح لا تنتابه أية مشاعر بشرية، لا يغبط ولا يحزن، حدثته نفسه أن الإيمان وشهية النفس للذبح لا يجب أن تختلطا…فوجد الشهية منزوعة، حزم موساه وبضاعته وغاب يصلي.

اخترق جرمه باب غرفة القيادة، وجد الأمير جالساً على فراش ذي أوبار، يتحلق حوله مجموعة من القوّاد والمقاتلين، كانت سفرة تحمل صينيات السمك وصينيتين متوسطتي الحجم يفوح منهما الكسكس على كل منهما سمكة سلمون، الأيدي تتسابق على الطعام… لوحى له الأمير بيدٍ به بعض من دهنِ السمك، كان يستطعم السمك…السمك من أحب الطعام لديه، شعر بأنه صار موصولاً بموطنٍ بعيد، قال له الأمير:

  • يا شيخ بلال… تم اختيارك في عملية نوعية، بعيداً في أرضِ المسلمين المحتلة من قبل الحكومة الكافرة ظهر أحد الملحدين الأنجاس الذي وجب على كل مسلم أن يقاتله ويحظى بفرصة التخلص منه، تم اختيارك صحبة زميلين من جندِ الدولة لتمسكوا به وتأتوا به لأرض الدولة أو تذبحوه حيثما ثقفتموه إن حال الأمر.

بلال اليتيم كان صاحب تجارة ناجحة، ” لم أعتقد أنّه سيتمكن من منافستي حتى..في البدء، كان قيد حركاتي، أحيط به كلاعب القراقوز أحركه بخيوطي أجعله يرقص إن شئت يتحدث بما شئت، أصب الحروف بعد انصهارها في أذنيْه، أتأكد من أنني سكبت كامل السائل في عقله، أحركه، أشجعه…أملأه ببعض من المطامح والخيالات، أرسم له بيدي الأفق…يغطس في بحري الذي رسمته ويأكل من جنتي التي خلقتها له، استيقظت هذه الدمية…أمسكت المقص، قصت بعضاً من الخيوط، تداعت وأوشكت على السقوط، راقبتها، وضعتُ لها المقص حتى تتمكن من الوصول إليه، رسمت لها أنها يمكنها أن تتحرك ناحيته تمسكه وتقص القيود، كرمت نجاحاتها بقيد آخرٍ خفيْ فيها، قدماه حركهما فتعجب…يداه حركمها فتعجب، صار بدلاً من أن يأتي كل مساء يسلم غنيمة اليوم وقائمة العقود المبرمة، اتفاقيات المباركة والتزكية التي أشاع الشيخ في زبائنه حتى تفشت فيهم، ضمن تغير الزمان والناس في الحي وانسحاب الثقة بين الناس، كل ذلك ضمن للشيخ أن يبرم عقود التزكية، من زكاه الشيخ فهو آمن وأمين، والشيخ بمقامه أحس بأن عهد التوتة قد ولّى وأن حان عليه أن يتخلص من عبدالدنيا تاجر التوتة…أنا ها ها ها ها، ولج الهامبورغا….سلمني ورقتين، كانت إحداهما مخطوطةً بيضاء نصها لا يزيد عن الثلاثة أسطر، حروف كتبت توقيع المزكى وحروف كتبت توقيع المزكي ” أنا الموقع أدناه…….تاجر شجرة التوت، أقر بهذه الورقة المصدقة من الشيخ بلال مزكىً، آمناً وأميناً” قرأت الكلمات باسماً، لم أتمكن من أكبت ضحكي…سألته:

  • يا شيخ ما هذا؟
  • تزكية لك.
  • الورقة الأخرى؟
  • الحساب بإذن الله.
  • ها ها ها ها… بإذن الله يا شيخ. أخرجت دنانيراً من جيبي، نظرتُ إليه أكاد آكله، وسألته البركة.

” ها ها ها الشيخ يبي ينقلب عليا؟ ها ها ها … نسي إنّي اللي بنيته، كان لازم نحطه في راسي…حطيته، الشكالات هذي لازم تحطها في راسك باش ما تقطعهولكش… شن يجوا مجموعة من الدنانير؟ المسكين كان انبيْلة ما يعرفش إن موضوع الفلوس نحيته من راسي من زمان، الفلوس صاروا حاجة عادية نفرك بيهم حشيشي ونولع فيهم بافرتي ها ها ها”.

بلال اليتيم، كان في العشرين من عمره من أحد أغنى التجار في الحيْ، شعر لحيته بان يتدحرج ليملأ الذقن البرونصيْ، سمنة وأردية عربية تعلو كعبه، كان يتيم أمه…ماتت جراء عملية ولادة مستعصية، نظرت في طفلها مستغرقةً في الموت، أرضعته مرة واحدة وجف حليبها كما عودها ولحمها، بردت جثتها وفم الفتى يمص من ثديها حليبه، وضع تجارته في حانوت يعلو الطريق بمصطبة تبدو للخطابة على بعد زقاقيْن من شجرة التوت، كان يخرج بعد كل صلاة يعظ ويذكر ويمني ويعد ويتوعد ويتعهد، يصف للمؤمنين الجنان بعيدة، دنيا أخرى ودعوات لنبذ التبرك بالموتى، كانت تجارته الحقيقية في عقود التزكية، العلاج الشرعي والغذاء الشرعي، كان يتصدق على الناس بكلماته، يطيب خاطرهم، ويسألهم الالتحاق بركب الإيمان وأن يتشبثوا بدينهم، باع لهم التوت المقروءْ، كان التوت يقارب سعر توت البركة المشهور بالحيْ، وضعه أمامهم وكتب ” إن لم تجد ما تدفع…خذ مجاناً رحمك الله”، تعلم الحجامة والرقية وما إلى ذلك من لزوم.

أخفى الفتى البرونصي حبه لحورية بنت الهِلالي، اسم الجدة الكبيرة تمشى في عائلتها، كانوا يشبهونها بحورية زوجة بركة الشريف، حبة خالٍ تحت عينها اليمنى، لوزية في طراوة العصيدة، جسم إيجاصة كانت تلك الحورية، تشهاه الجميع…ولكن أكثر من تشهاها كان بلال، استرجع حادثة طفولة والجته، كان في السابعة تقريباً،كما أنها كانت الفتاة صاحبة الخال ، بنت الجيران التي كان شعرها أسود ترتدي فستاناً أسوداً يمكنك أن ترى منه إنشاً من فخذِها اللوزي اللون، كما أنّ أسنانها بدت وكأنّ أرنباً ما قد قبلها إلا أنها لم تشوه الجمال بلا زادت من فتنته، ومن عمرها يمكن القول أنه لم يتسنى لها بعد أن تنبتَ أي تعرجات في جسدها، رطوبة جسدها كان كل ما يجعلها مثيرة لفتىً في عمره ، هو سيكون عليه الانتظار سبع سنوات أخرى قبل أن يكتشف قدرة عضلته على النمو، أمر إنساني اعتيادي…تصحو في أحد الأيام لترى أنك لم تعد ذاك الذي نام البارحة، آمن عندها بأنّ أحداً ما قد اختطفه واستبدله بذاك المراهق الذي يعاني من ألام في إحدى عضلات جسده، كيف يمكن أن يكون الألم لذة واللذة الألم؟! حقيقةً، لقد كان بريئاً في السابعة لم يكن يفهم أي شيء من العالم الذي يدور حوله، لم يكن يفهم لما عليْه أن لا يكون له أم، حدثته حورية ذات مرة عن النبي إبراهيم، كانت تصفه له كأنه كان يعرفه، وكأنه وإبراهيم أصدقاء مقربين، تابع مغماراته ومقاومته للنار، الألم، وكيف جعل ” ربي” من النار لذةً له، ثم يسألها: ثم ماذا بعد؟! ماذا حدث لإبراهيم؟ تقول له : مات! ويستشعر حزناً داخله، إبراهيم مات، كيف يمكن ذلك؟ إذاً يجب أن نجهز أنفسنا لجنازته وأن نسرع لأن نودعه، ربما سنرى أثار النيران على جسده، أين يسكن إبراهيم؟! أين الموسى التي ذبح بها الكبش؟ نعم لم يكن يفهم أي شيء من حوله، كان العالم عبارة عن لعبة سحرية، ولم يكن يريد فهم أي شيء فيه، أقصد لم يكن يريد أن يحظى بغير متعة الاستكشاف، لا يريد أن يفهم لماذا مات إبراهيم وكيف ومتى.

كانت بنت الجيران، حورية هي التي عرفته باستكشاف عظيم، لم يستوعبه ولم يعرف حتى يومه هذا لما لا يمكنه تذكر أي شيء قبل الحادثة سواء صورة أمه تختفي من أمامه، سوى صورة امرأة تلاعب طفلها، هو يلعب وحده بجنديْه ويشاهدها تلاعبه بفرح ومرح الأمومة، لا يرتب التواريخ، يبدو له أن كل شيء حدث بعدها، حتى حمله وفصاله كان بعدها، كان يلعب صحبة حورية: الاختباء، ألعاب البنات التي كانت تحرضه عليها دون أن يكون له أي رأي في ذلك، الجري واللحاق بها، ” النقيزة” تلقي بالأحجار في أحدِ المربعات، ترفع قدمها لترتفع تنورتها، يظهر جوربها الأبيض الذي يمتد من تحت التنورة إلى الحذاء الأسود، تقفز فترتفع التنورة قليلاً، تقفز فترتفع التنورة فيبتهج ثم تصل إلى الحجرة وتنحيه بجذعها كاملةً نحوه، يبتهج أكثر، لا يعرف لما ابتهج… ثم تلتفت فيظهر سنيْها الأماميْن، شعرها يمكنك أن تغزل به سترةً ، كان مبتهجاً بتضييع بعض الوقت معها.

ذات أضحية سحبته إليها وقالت بصوت خفيض ” ما رأيك أن نلعب زوج وزوجة؟!”، لم يرق له الأمر في البداية، ماذا يعني زوج وزوجة؟ سيكون عليْه أن يكون كوالده يخرج الصباح ولا يعود حتى القيلولة، ويعطي الأوامر للجميع، ثم يلقي بنفسه للنوم، وسيتعين عليها هي أن تحضر له الإفطار والغذاء والعشاء وهو يشاهد ويستمتع بجسدها يحوم حوله، ما فائدة كل ذلك؟ وعندما قبع صامتاً، سحبته إليها وراحت تركض ممسكةً بيديه، كان يركض خلفها محاولاً أن يسحب يده منها، نعم إنه يحبه لكن لا يجب أن تقوده وتوريه الطريق، يجب هو أن يريها الطريق، إلا أن يدها الرطبة كانت أكثر قوة منه، جذبته كتفاحة للأرض، استسلم للأمر وسبح معها، كانا هو وهي في الشارع الترابي، شمس الصيف تحرق أقدامهما الحافية، كان في الحي العديد من الأبنية التي لازالت تحت الإنشاء، كانت تبدو متوترة قليلاً، ألقت نظرة متفحصة حول الحي، ولجا قلب شجرة التوت، قبل أن يكون بالتوتةِ تاجر، دخل حرم بركة…. الوقت : القيلولة تقريباً. من ما يعني أن الحي سيكون خالياً من المارة والناس والعابدين وحتى الحيوانات السائبة، لازال يشعر بيدها تضغط على يده كأنه جائزة فازت بها ولا تريد أن تتركها.

رسمت بنايةً بقصصها ملأت له الغرف وفتحت نوافذ البناية بيديها وهي تحكي، كان غائباً في إثارة حبة الخال، راحت تتجول  به بين المسامير والألواح والحجارة، تدخل الغرف وتنظر من نوافذها لزوايا الحي باندهاش، بعنفوان الطفولة ودهشتها، كانا يمشيان بين أثاث بيتهما التي صارت تتشكل بهدوء وحذر خوفاً من أن ينزلقا في الأرضية المائية، كانت ممسكة به بيدها، وبفستانها الأسود رافعةً إياه قليلاً بيد أخرى، كانت تسمي الغرف المتشابهة: هذا المطبخ!، تلك غرفة المعيشة! هناك حيث أصنع لك الشاي، وهنا غرفة النوم، دخلا غرفة النوم، كانت كأي غرفة أخرى، إلا أنها قد رأتها بكامل أناقتها، هناك في الوسط فراشهما الكبير الواسع الذي يحمل كليْهما، هناك قبالة النافذة الدولاب حيث تضع ملابسها وملابسه، وأمام الباب توجد مرآة كبيرة وكومدينو تضع عليه مكياجها وعالمها وقنينة العطر خاصته. افترشا على الأرض، حيث تخيلت الفراش الكبير، ثم نظرت إليْه نظرة كانت اكتشافاً بالنسبة له، حدقاتها كانتا واسعتان جداً كأنهما غزت العينين بكاملهما، شفتاها تخبئان سراً داخلهما، وحركة أصابعها حول يده، كان ينظر إليها بين المتعجب والمرتاب، حتى ما قالت له ” هيا… لنلعب! ملابسك!”.

كانا جسداهما يحاولان التلاحم دون أيةِ جدوى، كانا كوردتين تحتكان ببعضهما، حلمتاها كحلمتيْه، جسدها لا كجسده هو برونصيْ يخترق لوزيتها، اكتشافه العظيم كان أنه يملك عضلة وهي لا تملك مثله، كان ما بين فخذيها وكأن أحداً قام بسرقة عضلتها، وترك لها هذا الشرخ الصغير بينهما ليعاقبها، كان يتلاحمان هو وهي، أمضيا الدقائق يمس جسدها جسدي في قلبِ شجرة التوت، رائحة لحاف الشجر يخذرهما، لم يكن يعرف أن الأزواج يلعبون هذه اللعبة الممتعة، كان مبتهجاً وفرحاً، طفل وجد اللعبة التي يفضلها والتي لن يمل منها أبداً، اعتبرها هي لعبته الجديدة، ألقى لعبته، أدار ظهره للمرأة وطفلها ومرحهما وتحسس الجسد العصيدة، تشهاه داخله مع السنين…. غريزة قرصته وجعلته يرجو لقاءها مرةً أخرى، كان يكنز الدنانير تلو الدنانير منتظراً أن يطلب يدها، حدث عن حبه أحد أصحابه…قال له: هذه الزوجة والحورية التي يبغيها قلبي، ذات دين وجمال ودلال. صارت حورية تحت تربية والدها أحد كبار الأهالي والمتبرعين لإحياء جامع التوتة يملؤها الحياء والجدران والحيطان المصطنعة، لا تراها أعين الناس إلا في مناسبات قليلة…ولا تراها عينه إلا خطفةً أو سرقة، يتذكر حادثة التوتة…يسأل نفسه ساخراً ” عيب، هل لازلت تحتفظ بتلك الذكرى؟!” كأنه عيب أن يحتفظ بها.

أنت تعرف أن من يتذوق طعمه فقد ختم عليه أن يطارده، بأيةِ طريقة… لن يشعر بالراحة من تذوق اللحم إلا إذا تذوقه مرةً أخرى، طعم اللحم البشري…شيء آخر، شيء أكثرة لذة، أكثر قداسة، لم يعرف الشيخ بلال ذلك إلا بعد حادثة الذبيحة، لم يظهر على الحقيقة حتى ذاق الطعم الآخر للحم البشري عندما قطع بالساطور رأس غريمه…قبل ذلك تذبذب بين نكران الحقيقة وبين خلق حقيقةٍ أخرى، كانت الدنيا تخبره دائماً أنه لا قولان فيه، لا لونان، هي قول واحد ولون واحد، إما أن تقتل أو لا تقتل، تحب أو لا تحب، اتنيك كحالاتي أو لا تنيك كحالات الشيخ.

نمت مع الأيام علاقة الشيخ مع ابن أحد الأغنياء بُعِثَ إليه، كان اسمه صقر… بنى علاقة صداقة سريعة مع بلال، قطع بلال رجله عن شجرة التوت…تخلى عن الذهاب إلى التاجر، ظنّ أن لا حاجة له عنده وأن التاجر كان مجرد إنسان دنيء يشتري ويبيع في أنفس البشر، كانت ابتسامات التاجر مريبة، يمكنك أن تشاهد فمه يتسع ليصنع قوساً  يحيط بأنفه المدبب وبأسنانه سن ذهبيّة فقد الأصليّة في حادثة بعيدة؛ طريقة كلامه والممارسات الخاطئة التي يمارسها جعلته يرتاب منه، لا أحد يمكنه أن يهدد مسار حياته أكثر منه لكنه كان من ذلك النوع من الناس الذي دائماً يحتاج من يملأ شكوكه يرغبه عن أمرٍ أو يشجع عليه، عرف صقر الفتى الذي به زلّة من معمريّة تستعظم داخله لم يدركها بلال؛ شيء ما داخل الفتى تجعله يتحلى بصفات القائد الأوحد أو المعشوق الأوحد، كأنه الصقر الوحيد الذي يحلق في الأرجاء يرى أنّه أقدر الناس على كل شيء… نشأ على تفقد البطل في الحكايات وأفلام الكرتون وفي كل مرة يتفاجئ أنّ هناك من هو أقدر منه على فعل شيءٍ ما يحاول أن يرسخ هذا التفوق لتفوق في صالحه، كان صانع دمىً أمامه خيوط ولكن لا دمىً تُصنع، عليه أن يسرقها أو يبتاعها بما أمكنه، حدثه بلال في مناسبات عدة عن حبه لحورية…كان ينوي الزواج منها، أخبره.

  • رأيتها مرات تتخطفها عيني…أحني رأسي كما تحني رأسها، وأبتهج بالجمال اللحظي الذي خزنته ذاكرتي. تملك ما يبغيه الفتى…ولكن الفتى لا يملك ما تبيغه. يتحدث ثم يصمت حياءً
  • صفها يا شيخ بلال.
  • ما لي لوصفها… حرائر المسلمين لا يوصفن.
  • لا حياء لا في الحب ولا في الدين يا شيخ، الرسول أحب زينب…كان يحاول أن يرغب عنها، أن يبتعد… كان يحب النساء، هذا ما قاله، وأحب زينب هذا ما أخبر به الله! يقول صقر مشجعاً.
  • ” والدها كان من المسئولين الكبار لكن به دين ومعرفة بالعادات والتقاليد، بيت علم هو بيت أهلها لولا بعض من المغالطات الشرعية… كانت تلعب معي أيام الطفولة، منزلنا قبالة منزلهم به حبة خالٍ تحت عينيها وسنان أماميان طويلان قليلاً عن المعتاد لكنهما لا يخدشا من جمالها بل يزيدان فيه، بها حياء وممشىً لا قبالة لوصفهما…شعرها على ما أذكره أيام الطفولة كان أسوداً فاحماً يبهج القلب، صوتها أقل ضجيجاً من دبيب النمل..عيناها بهما ابتهاج للألوان، وبشرة لوزية…بنت عائلة لا غبار على أصالتها وتدينها”
  • آه…إذاً فوالدها واصل؟!
  • هكذا يخبرون…

واختالت أفكار صقر، رأى الفتاة من نصيبه…هذا التابع لا يحق له أن يتزوج فتاة بجمال حورية وبأصالة عائلتها، إنّه أحق وأكثر مقدرة على ذلك…لم يجد فائزاً في ما قد قصه بلال عن الفتاة حورية فقرر أن يكون هو الفائز، عندها سيجد حكاية كان الصقر الوحيد هو البطل الوحيد فيها، آمن أنه سيشغل منصباً قيادياً ويحرك الناس كما شاء… شغل منصباً قيادياً في اتحاد الطلاب بكلية الاقتصاد بالجامعة كان يحرك الجماهير داخل ممرات الكلية، يعرفونه باسم الصقر الوحيد والقائد؛ قائد مثله عليه أن يحظى بفتاة جميلة من العائلات النبيلة…وعليه أن يصاحب الشيخ بلال أحد المستحوذين على قلوب الناس في حيه حي التوت، كان صقر تنقصه موهبة الخطابة يتلعثم بين الجماهير ولا يستطيع أن يتحدث لمجموعة تزيد عن عشرةِ أشخاص، أما بلال فكان موهوباً بالفطرة…كانت له آذان صاغية وأفئدة مصدقة وأيدٍ تتصدق على مشاريعه وعقول تشتري دون سؤال عن البضاعة وجودتها وفائدتها، لكنه لم يكن يعرف ما يريد رأى في ذلك فرصة… اعتاد صقر أن يلج تحت شجرة الزيتون، كان منذ البداية يراقب خطواته ولا يريد لأحد أن يراه يلج الشجرة سيقولون في المستقبل: إن تاجر التوتة قد ساعده بالتأكيد. إن التاجر لم يساعده، إن صقر هو الذي صنع نفسه بنفسه هذا ما أراد للكتب والألسن أن تصوغه، يحدث التاجر عن أمانيّه داخل الهامبورغا لساعات، يسخر منه قائلاً ” لا تقل أمنيات يا الصقر الوحيد…قل طموحات، ضرورات حتمية تحتاج بعض من العمل للوصول لها” تتضح سنه الذهبية، كانت إحدى القواطع اليسرى، يتابع رسم الكلمات بيديه وهو يقول ” تبي المجد؟ المجد سهل…بفرقعة أصابع يصبح المجد بين يديك، أغلبهم الآن يستخدمون السلاح للوصول إليه، بعضهم يموت ويرمى به في النفايات، البعض الآخر تتفجر سيارته في أحد الصباحات…بعضهم يخونه رفاق السلاح، أما أنت فلا…عندي لك طريقة أسهل وأكثر أمناً، تكاد خطورتها تقل إلى الصفر، السلاح يا صقر لا يسيطر على العقول…يسيطر على الأجساد، أنت يمكنك أن تسيطر على العقول، سيطر عليها وستكون الأجساد ملكك، لهذا لا تحتاج لخيط كي تحرك الدمى، إنك تحتاج أن تملي على الدمية صباحها ومساءها، روتينها وأحاديثها وحكاياتها، تملي عليها حياتها ومتى ستموت وكيف وبإذن من، ستكون لك كتيبة من الدمى….جيش من الدمى، وسيكون عندها لديك آذان تصغي وقلوب تصدق…إنّ المجد سهل، فقط عليك أن توقع هذا العقد”.

بصق على الورقة كما بصق على يده، قدم الورقة للجالس بجانبه وأمره أن يفعل كما فعل…نظر إلى البصاق، كانت انعكاساته على الفقاعات تتكرر في اهتزاز السائل اللزج المتراقص بين اللون الأبيض والمائية، أحس بقرف يربك أمعاءه كما والجته رعدة ولكن الحروف المكتوبة بخط اليد على الورقة فاقعة الصفار تغريه ثم أنّه أحس بقليل من خوف، كان التاجر يحتفظ بمحبرة مستوى الحبر فيها عند المنتصف إلا قليلاً كما كان يحتفظ بقلم خشبي مدبب من الجهة التي يكتب بها برأس كمنقار طائر جارح، تهيجت نفسه لما قرأت الحروف ” أنا الباصق والموقع أدناه صقر أقر بتنازلي عن ثروتي التي أرثها أو أجمعها أو أحصل عليها إلى يوم وفاتي لـ…” كان اسم التاجر يلتمع بلون الحبر، حدق في الوجه الذي سيملك كل ما يملكه أو سيملكه طواعية، ” طواعيةً دون إكراه مقابل أن يهب لي المجد ما لم أمت”… هيجته الكلمة وقال ” هذا يعني أنني قد أخسر…إنه رهان، شيء كالمقامرة”، أحس التاجر بشيء من ارتياب في قلب زبونه، وضع يده على ركبته وطمأنه ” مانبيش نخليك تفلس يا صقر يا حبيبي…كان هذا ره قلتلك هات فلوسك توا وكل شي يصير فهمتا كيف؟ وبعدين أنا ما طلبتش حاجة كبيرة، طلبت اللي أنت الصقر الوحيد معاش حتحتاجه لما تموت بعد عمر طويل” خرج من الهامبورغا، الظلام يغازل المكان…نظر في الدخان الهادئ الخارج من السيارة، تساءل عما قد يكون ورائحة كالحنّاء داعبت أنفه…تدرج جرم التاجر إلى الاختفاء لما أغلق الباب تماماً، نسيم الربيع الهادئ جرى يمس جلده، سمع آذان بصوت الشيخ بلال..غازلته الكلمات وتحرك نحو مصدرها، داعبته نشوة وأحلام وغافلته ابتسامة فخذر.

” كلهم مهما كبروا ومهما صاروا يجوك في الاخير، جاني الشيخ في يوم من الأيام حاصل في بعضه…فيه اللي معاش يجيك إلا لما يحصل ومعاش يعرف كيف يتصرف، قالي إن واحد من الناس اللي دارلهم عقد تزكية نصب علي شخص ما، والشخص هو معاش حصل النصّاب تعارك مع البيلّو وقريب ناك قتله غير خشت فيها التريس وحزتها، جاني يسئل فيا كيف يدير وبالك نحصله دبارة، صرفتله رقم: يا شيخ يا شيخ، والله معاش فاضي…هذا الراجل تو نسكتهولك نعرف طبه والنصاب حتى هو تو نحصل عليه ونوريه إن حي التوت فيه قوانين..كمشة صيّع عبوا البلاد، توا يا شيخ عندي صديق ليا قاعد يتعلم مني الصنعة اسمه صقر تو نعرفك بيه، ولد فالح وذكي…تقدر تاخذ منه اللي تاخذ فيه مني بالبلاش فقط بإنك تخليه يتدرب علي الخدمة معاك بس”.

ببلال بعض من ذكاء إلا أن هذا الذكاء لم يكن يسعفه عندما يناظره أو يحاججه أحد ما، الصفة التي كانت كاملة وقوية عند صقر كان مناظراً قوياً وإن كانت معلوماته تصب إلى كونها خاطئة، أن تقنع أحدهم وإن كنت مخطئاً هذا ما كان يفلح فيه، بدأت تجارة بلال تواجه بعض الصعوبات…حادثة النصّاب أعيته وجعلته يتوجس من الناس، وعده التاجر أن يسكت الرجل المنصوب عليه وفعل، ولكن هاهو خطر آخر يخرج من الفراغ… إن أحب الله عبداً ابتلاه يا شيخ، وإن صبر العبد وشكر الله عند الابتلاء جازه الله بعد حين، طمأنه صقر…كان يقف وسط المتجمهرين بعد الصلاة، يستمع له يخطب في الناس ويهيج عواطفهم، كان الوحيد الذي يلج عينيه كأنه يعلم بما يخفيه من ضعف بين كلماته، يختفي عن الأنظار ومن ثم يغافله بسؤال في أول صف أمام الناس، يتعلثم الشيخ بلال ولا يعرف ما يخبر ” فيها قولان” ثم يصمت، يصيح النذل مقاطعاً ضاحكاً ” ولكنه قول واحد يا شيخ”، يختفي ويقف بلال ضائعاً وتائهاً، تحدثه نفسه على الهجوم…تتكور قبضته وتتخشب ثم تضرب الهواء، وجد طريدته عند صقر، حدثه أنّ النذل كان يحرجه بأسئلة عن طبيعة التجارات التي تقام في الحيْ، ” ما الحكم في تاجر التوتة يا شيخ؟ ألا تسمع عن الأحداث القذرة التي جاءت إلى الحيْ منذ أن ركن الهامبورغا هناك؟!” كان أحد الأسئلة الخطيرة، كان ينتظر سؤالاً آخر من طبيعة ” وماذا عن تجارتك أنت يا شيخ بلال؟!”

  • يجب أن يقتل يا بلالً…يوماً ما ستراه يسأل عن تجارتك أنت أيضاً، هذا النوع من الأنذال أعرفه…لن يتوقف عن إحراجك أمام جمع المسلمين، وأنا لا يمكنني أن أظهر في الصورة وأجادله بالتي هي أحسن، هذا النوع أسئلته غير اعتيادية، ليس من الأسئلة التي يمكن يقرؤك إياها أحدهم فتحفظها… هذا الـنذل، هذا الكافر يجب أن يموت. ألقى صقر بحجرة في بئر راكدة.

وجد أنّه قد يسلب حياةً للمرة الثانية، تذكر أمه…الماء داخلها ملأ جسدها، وجهها بدأ يذوب ومن ثم يتبخر… ينسحب بخار الماء ما تبقى من والدته ليشكله هو، قاتل أمه…مضى صقر يحفزه أخبره بأن النذل معروف عنده لقد كان أحد أولئك الأنذال الذين درس في كلية الاقتصاد، كان يقض مضجعه أيام اتحاد الطلاب، هذا السافل كان يسارياً ومن المنحطين أخلاقياً نشاطاته قذرة وتشع من بدنه ولحمه رائحة الكراهية للدين…كان سكيراً، يجلس في المقهى ويهمس بكلمات عن ضرورة دعم الحراك اليساري والمدني في الحيْ، ينقل الهواء كلماته المليئة بالخمر إلى أذنيْ وأنف أحد الأعاون،  ” التحرك اليساري والمدني يقصد به الشيوعية الملحدة يا شيخ… هؤلاء كثروا وعظموا في الجامعة، يشكلوا في تحالفات واتحادات خاصة بيهم يبوا ينشروا الدعارة والفجور في المجتمع، يبي يحول الحي لخراف تمجد الدعارة والممارسات البذيئة، تخيل بناويت حي التوت يطلعوا والشعر مطلوق ولابسات ما يغضب الله، حوريات يتحولوا لحوليات يلبسهم اللي يجي، إهاناته وإستهازءه بالدين وبيك يكاد يخترق عقول أبناء الحيْ، وأنت تعرفهم قاعدين مايلين بين الإيمان والمعصية، نلقوهم يوم من الأيام ملتفين حوله وتاركين اللي نحنا عليه… سنكون قد خلذنا الأمة وأودعناها للكفار الملحدين عبيد الأوروب… ” ولكن الحيْ لن يغفر له لو قتل نفساً، إن بعض الرجال يعرفهم بالوجوه يتوجسون من تجارته، عبيد شجرة التوت بالذات… أولئك سيحرضون الناس عليه إن هو فعل ذلك، لم يتغلغل الإيمان تماماً في قلوب أهل الحيْ جميعاً…مسألة كونهم قد يتبعون هذا النذل وحدها جعلته يدرك أن به بعضٌ من فساد.

كان الفجر… نفذ نباح الكلاب المسعورة والسائبة الجدران تشتم وتبحث في القمامة عن ما يسد جوعها بأبدانها النحيفة، كانت سلة النفايات مليئة بلحم السمك وما تبقى منه، رائحة أنفاسه كانت كقاع البحر، لا تأكل السمك ومن ثم تنام كانت تخبره زوجة والده، عوضاً عن الغازات فإن كوابيس وأحلامٍ ميتة ستلتصق بخيال، أخبرته فكان يردعها… يمكن أن تحل بخروف أسود مزعج رائحة صوفه وتحديه لسلطتك كراعٍ تصرفك عن التفكير في ذبح غيره، هاهي بقية الخراف بيضاء ومطيعة، رائحة صوفها ليس بها ما يعيب كرائحة الخراف العادية، هاهي تساق إلى المذبحة بهدوء، تسلم رقابها للموسى بهدوء ولكن هذا الخروف يكاد يقطع أنفاسك حتى تتمكن منه، لا يريد أن يأكل كبقية الخراف بالحظيرة، عليه أن يذبحه… رأى يده تجر الموسى على المسن، صوت ارتطام قطعتيْ الحديد يوعد بالقتل، يقطع حبال الرقبة، يكسو الدم وجه الحيوان، الحيوان؟ أم الإنسان؟ وجه الخروف يذكره بذلك النذل الذي أعياه، يجب أن يموت!! استيقظ هلعاً، تمتم بكلمات، امتدت يداه إلى كوب الماء… كانت النافذة لا تبعد عنه قليلاً، سمع الكلاب تنبح، كان خيط الفجر يكلل السماء، نظر إلى ما تحت النافذة في الخارج الكلاب تنبح…شيءٌ ما يرتطم ببرميل النفايات، رأى كلباً أسوداً يغطس وجهه داخل البرميل، خلفه مجموعة من الكلاب تنتظره أن يكمل بحثه، كانت الكلاب تقف بعيدة عن الكلب الأسود مسافة جيدة لتجعلك تفكر في كونه قائد المجموعة، كان يقلب البرميل كما يشاء إلى أن وجد بقايا سمك…التقم قطعة اللحم، تشممها، نظر إلى الأعلى…إلى النافذة، حدق في وجهه…كشر عن أنيابه ونبح، جعله نباحه المسعور يقفز بحركات عشوائية بعيداً عن النافذة، ارتطمت يده بالكوب الزجاجي… أحس بألم بين إصبعيه السبابة والإبهام، خيط من الدم تدفق إلى الخارج، أسرع يطبب الجرح… غسله، كان الدم ينساب نحو البلوعة في خيوط أقل تدرجاً من بين يديه، بان الجرح… كانت الزجاجة قد فتحت مسافة قطعتيْ سكر عرض الجرح بين في ظهر يده، غسل وجهه…بلل نفسه حد الذوبان، رأى أمه تذوب…مرّ الحلم غالبه خذر الدم المفقود وخرير الماء، غالبه وجهه المرهق ووجه الكلب المسعور…غالبه رأس الخروف الأسود، كان يثغو، يزداد ثغاءه ويراه أمامه في المرآة، قرناه صارا أكبر منه في الحلم، أحس أنهما لن يتوقفا عن النمو حتى يصلا إل رقبته… ثغاءه ازداد علواً، صار مزعجاً أكثر من ما يجب، على الراعي عندما يقل نومه بسبب ثغاء خروف مزعج لا يتوقف وإن أطعمته وإن أسكنته وإن اعتنيت به، عليه أن يذبح الخروف… قبل أن تزداد حالات ترك المخدع، هل ييعود للنوم الراعي؟ لا الراعي لا ينام… فقطيعه لا يتكون من خروف واحد، إن الشاة التي يضمها القطيع قد تتعلم الصنعة وتقلد النذل، آخر ما يود أن يراه هو قطيع من الخراف السوداء ستسحق تجارته، ستجعله يمد يده أمام المساجد لله يا محسنين. ولن تجعل منه زوجاً كفؤاً لحورية…سيضيع كل شيء يا بلال.

  • حسناً… سنذبح النذل.
  • جيد… سأرتب للأمر.
  • كيف؟
  • صديق أعرفه، سيعلمني بكل شيء نحتاجه عن الكافر.

حسناً، سنذبح الفتى…راجعه الوعد وحلّ عليه الحُلم، أيقظ كلب أسود تكاد أسنانه تنوء بما تبقى من لحمٍ لرجل ملقىً على الأرض، التراب يلطخ وجهه…كان يرتدي رداءً أسود عرفه، بالرداء نقش مذهّب عند الرقبة ملطخ بدمٍ وشعر أسود يعود للكلب، اقترب من الكلب…كانت أسنانه حمراء بها صفار مبين عيناه تقولان هذا طريدتي، سواد الكلب أخافه…كانت الجثة تكاد قد نهشت جميعها..الرداء الأسود ممزق عند البطن والظهر وصار ليس إلا خِرق تتوزع على الساق الدامية، سروال تحت الرداء أعلى من الكعب، تبيّن الوجه، لم يلحظ إلا لحية سوداء… الكعب الذي بينته نهاية السروال كان برونصيْ اللون… عاد الكلب لوليمته، لم يلقي له اهتماماً، كانت قسمات الكلب تحيط بها الوحشية والهمجية، شيء فيها لكن ذكره بالغريم…استيقظ فزعاً، نظر إلى الحيطان كانت مليئة بأدعية في كاتروهات مذهبة، علامة على الجدار قديمة للوحة نُزِعت، حرقها ذات يوم… نظر إلى صورة أمه، حدق فيها آخر مرة حفظ ملامحها، كانت بها حبة خال إلى الأنف قليلاً…برونصية اللون، بها ابتسامة دافئة وحزينة وبها أنف مدقوق نُحِت جيدا وبها علامة في عينيها تسليّانه كانتا، العلامتان نفسهما التي حرّق الصورة لأجل إرضاء ما آمن به… شرب كوب الماء، حدق في النافذة كثيراً… لم يكن الفجر قد أتى بعد، الظلمة تأكل الشارع…مصباح بعد النخلة السادسة من صفِ النخيل في الشارع كان يدور ضوءه دائرة كاملة، مشعلاً زاوية لحظةً مضيئاً الأخرى مرة أخرى، ريح قرّة العنز كانت تتلاعب بالأرجاء…وترمي بالأشياء عشوائياً، رأى البرميل بالنفايات مرمياً، قطة في ذلك الليل المعتم العاصف كانت تحاول أن تلتقم بقايا وجبة السمك، ” الحوت مش باهي قبل النوم يا بلال” تذكر زوجة والده وما تقوله وضحك، كان الغبار يضرب نافذته…” كأنّ شاحنة مليئة بتراب البناء تمر أمام سيارتك”، المرة القادمة ستحلم بالقطط تأكلك يا بلال…قطّة سوداء، وستكون مخيفة، بها جنّة وستحدثك وستقول لك ” لما لم تقتلني وأنت قادر أيها الأبله؟” أنت تعرف أن القطط السوداء والجن الذي بداخلها يمكنه أن يجعلها تتحدث لك. يجب أن تقتله….

” صاحبنا جو برستيج فهمتا كيف؟ لا لا مش الشيخ، نقصد صاحبنا الصايع… بوه غريب عالحيْ، من متاعين الدواخِل… يجي مرة مرة للمدِينة معبي وشاريله شقّة فسط حيْ التوت، ولده ياخذ في منحة من الدولة علي أساس من طلبة الداخلي وياخذ في منحة من بوه لأنه من الطالبين للعلم والجو البايخ هو، ونوعه مش أي دواخل، نوعه من البدو النفخ هذوكا اللي نايكتهم عقدة نقص قحبة جو متاع الحضر مش خير منّا اهو حتى حني مثقفين وقاعدين شادين مدننا، ولهذا الفرخ كان متاع ثقافة وصياعة ثقافية… تقدر تقول، حاس بإنه الشيوعي الوحيد وزبّي…نايك جو الكادحين والعمال وليحيى ماركس ونيتشي وهو يومياً عايش البذخ في شقته، مرة مرة يزرّق في قحبة معاه…يوميا مخمور بزجاجات الفودكا، الجاك دانيلز والجي بي، يسكر بالبحري يومياً يا حبيبي… المهم، صاحبنا كان متاع برستيج… ينوض الصبح يتكسل، ينيك كاس عالخوا…ينيك قهوة، وينيك يفطر وينيكله سبسي، الحصيلة حياته كلها وهو ينيك… يخرج عند الزوال عندما تختفي رنين الليلة الفائتة، يشعل سيجارةً أخرى قبل أن يقطع الطريق..”

  • عرفنا الفتى وما يفعله يا شيخ بلال. الفتى سهل اختطافه، لن يحتاج لذلك التخطيط…ولكننا يجب أن نكون أشجع من أن نجعل العملية تعد كخطف، يجب علينا أن نجعلها تبدو كعملية اعتقال رسمية… هؤلاء الناس سيخافون عندما يجدونك تعتقل وسيخافونك أقل إن وجدوك تختطف، ” القذر يخرج الزوال تماماً… يشعل سيجارة قبل أن يقطع الطريق، يخفض رأسه قليلاً ليحيط بالسيجارة بيده اليسرى ويكرر المحاولات لإشعالها بالقدّاحة، ابن الحرام لديه سيارة ومال وفير ولكن قدّاحاته جميعها صدئة وتكاد تموت دائماً، لا يخرج بالسيارة لأنه شيوعي… من ما يجعل شيوعيته العامل المسهل لاعتقالنا له، يقف تحت إشارة المرور لدقيقتيْن، يقطع بعد ذلك الطريق غير ملقي النظر لا للإشارة ولا للسيارات، نحن سننتشله عندما يقف تحت الإشارة… نخرج بالسيارة، أحد محبينك من الشباب لازالت لديْه قطعة كلاشن من أيام الثروة بارك الله فيه تطوع ليجعل العملية اعتقالاً بالقوة حتى لا يتحدث أحد ويقول ما الذي يفعل هؤلاء العزل باختطاف شاب في وضح النهار، وعندها سنعود به حيث حانوتك وننفذ عملية القتل هنالك… ولا تخف سينصرك المخلصون لك. كان صقر يرسم له الخطة، يجب أن يعطي لأهل الحيْ درساً…وعليهم أن يعرفوا أنّ الدين الله مظهره، وأنّ الشيخ بلال جاء ليؤدب أمثال الصايع، لا خراف سوداء مزعجة في حي التوت، وبعد الحيْ… على المدينة جميعها أن تعرف أن حي التوت لن يقبل بالصياع والخاطئين والقذرين في المدينة، لا خراف سوداء هنا… حي وراء حيْ سننتقل، وسنضم المخلص وراء المخلص، هذا ما حدث طيلة التاريخ يا شيخ… إما أن يُطارد الصالحون أو يُطارِدُون، والحق أحق بأن يتبع. بيدك، قال… فلسانك، لديك اللسان ما شاء الله، ولكن ألم تفكر يوماً أن اليد أحق؟!

  • أقول لك الحق؟! ألا يمكننا أن نخاطب الفتى وأن نفهم منه أكثر؟

  • شن بتفهم منه يا شيخ بلال بالله عليك؟! تي هذا يا راجل أعمى الله على قلبه…الشيطان نفسه متبري منه.

” باهي نقولك أنا الحق؟ قعمزت بيني وبين نفسي وسألت: شن هي أكثر حاجة البشرية هي تبيه وحتخلصك عليه اللي تبيه لو تفرهولها، يقولك الأحلام بالبلاش… تي تينتك، الأحلام بالفلوس يا حبي…بالغالي الأحلام، نحط علي حلمي دنيتي كلها لو نشوفه متحقق قدامي، نمسح بكرامتي الأرض علي خاطره… تي نقتل ونخطف ونخنب وانيك حياتي في حيط باش نشوفه هكي قدامي يلمع، إيه بالبلاش لما يفوت من بحداي ونهفه بيدي وننفخه تقول ذبانة، لما ننفخه زي باقي أحلام النوم…نعم سيكون مجاني حد كثرة الهواء، حد اندماجه في أنفاس كذرات ثاني أكسيد الكربون، لكن مادام فيها كيف علاش لا؟! علاش يا سيدي الكاتب؟ ضعها وصغها بحروفك واعطي كل شيء حقه، يمكن لمسه الحلم، يمكن تذوقه…يمكن تنفسه، يمكن الاستمتاع بألحانه، يمكن احتضانه ويخي حتى نيكه، الحلم كائن جنسي…متاع نيك، شيء يحرك جنوني…يجعلني أتوق فعلاً لتحقيقه…”

مر به خاطر، انتابه شهيق، تسارعت ذرات الأكسجين تتسابق لتدخل رئتيه…رأى منبراً،  كان يرتدي عباءة بيضاء، جزيئات الضوء تخترق ذرات ثوبه وتتصدم بالحاجز الأبيض للأنسجة الحريرية وترتد عاكسةً نوراً كأنّه سنديانة تحترق في بطء، في هدوء الصيف تشتعل الشجرة…في هدوء الليل وصمت الأصوات تحرق حشرات الناموس الملتفة حولها كعبيد تعبدها تضاء الحشرات، رأى لحيته يداعبها البياض، وجهه البرونصي اللون يزيد من بهرجة الثوب… ابتسامة يحييها إيمان، فؤاده يتدفق دماً أخضرَ يحمله باليد اليمنى، كان ينبض.. يمكن لأصابعه الخشنة أن تتحس النبض، يعد الدقات…يشعر بالفؤاد يسبح باسم الله، اليد أخرى تتحسس خشب القرقطون الأخضر من سنديان لابد أن يداً تحبه في الله نقشته بتعبها وشقاءها، تحسس تسبيحه… جمع من الناس ينتظرونه يتحدث، كان يطلع على قلوبهم…بيضاء كانت، خطب: هاكم قلبي أمامكم فتفقدوه….. يتفقد الجمع، يرى غريمه يرتدي السواد، يحاول أن يلطخ جمهوره بالسواد الذي يتقطر من جبينه ككأس بلغ الزبا، ينزل من منبره ببطء… يفسح له الجمع، يتقدم ويغرس سيفه في صدر الغريم فيذوب، كأمه…فيتبخر، كأمه، فينتشر البخار الأسود مطروداً..كأمه، فيختفي…كأمه، يصعد للمنبر من جديد، يقول للناس: هاكم قلبي فتفقدوه… يصمت الجميع، ينصتون، يضيع في نظراتهم، يتوقف عندهم الزمن، الخطيب كالسنديانة اشتعلت، السنديانة من حولها الناموس تحرقه ويضاء في ليلة صيفية منسية من قبل الصمت لا غيوم ولا هموم، والنجوم تجعله يحاول أن يقتل زفرةً تخرج من صدره…لكنها كثاني أكسيد الكربون لابد أن تخرج.

  • لا لا … مش ضروري، أرى على الأقل إننا لزام نأجل العملية حتى نتأكد ونتبين من كفره وإلحاده ونخبر القوم كذلك. قال وهو ينفخ حلمه ويودعه الغاز المغادر.
  • كيف يا شيخ؟! صدقني سنندم إن لم نفعلها…سيعلو صوته، سيتشجع، سيبدأ في حربنا إن لم نوقفه الآن، لا تكن كموسى يجادل الخضر في الفتى العاق..
  • ولكن في الأمر قولان…
  • هو قول واحد يا شيخ بلال…

” الشيخ مشكلته إنه ماكانش يعرف شن يبي من الدنيا، فلهذا ما عرفش إنها قول واحد، حتى خشته عالشيوخية كانت بعد تشجيع وتدويخ رغم الذكاء اللي أفلحه فيها، كان الحاجة يخاف منها في الأول…لكن لما يخش فيها يفلح، مش زابط بس، قولان هذي يا شيخ مافيش منها إلا في الكتب والمخططات، قولها في خطب الجمعة وفي الدروس ولما يستضيفوك في التلفاز، الدنيا زي ما قال إبراهيم صالح: يا أبيض…يا أسود، منطق الاحتمالين هذا دوته فاضية، ما يجيبش إلا وجع الراس…، المهم دبرناله دبارة باش يفوته، حتى حني نبوا نخدموا علي راسنا…الشيخ كان بينيكلنا البزنس، مابيتش انحيه من الخريطة، عيب في الاخير لينا وترباية زي ما يقولوا، وأصلاً الفرخ الصايع هو ماكنش عاجبني من الأول ولازم يموت، نقتلوا الصايع علي يدين شيخنا الجليل وبعدها ساهل”

  • عرس؟ في بيت آل حورية؟ لكنها فتاة وحيدة أبيها. حدثته نفسه؟

” وأنت عارف باقي الدراما يا سيدي الكاتب، عرس حورية…أضواء وسرب ضي يحرق الظلام في الشارع، حتى الغبيري متاع الأيام اللي قبله مات… الشيخ أحس بحرقة ازدادت لما عرف أن زوج حورية المختار هو صقر، لوحله من بعيد وهو خارج من بيت العرس وقاله باش تتفضلي فاتحتي أنا وحورية بكرة، قاله تزوجت حورية يا شيخ وابتسم ابتسامة خبيثة تفضح سفالته، أحس بحرقة وخيانة وخيبة والجو اهوا…اسمع، اكتبها كيف تجي، سيناريو متكرر الله غالب!”

كان قلبه فارغاً، خواء يملأ رداء الجلد البشري المدعو بلال، لم يتحمّل…كان عاطفياً وهشةً نفسه، ملأته الأحداث خشونةً في اللحم لا في الروح، تمزقت روح كبيت العنكبوت، مرت عليه أيام يملأ الجلد حديداً وخردةً وألواحاً يابسة بدل اللحم والدم، مجموعة من القواعد بدلاً من عقل القوليْن، صار العصفور عصفوراً عنده والحذاء حذاء…. والكافر صار كافراً، هوته شريعة جديدة واحتوته، جاءه الرسول في وحدته يهش ما تبقى من تجارته في حانوته، اشترى منه حياته وباعه دينه… ” يا أخ بلال، سمعنا عن كافر فيكم وبين ظهرانيكم…حيّكم يحمل ثمرةً خبيثة، الكفر في دار الإسلام لم ينتشر إلا بتقصير أهل علمنا” ” الخروف الأسود؟”…” أياً كان، عليه أن يصمت للأبد يا شيخ”. تلقى تعليماته الأولى، تذكر الخروف الأسود، عليه هذه المرة أن يصمت للأبد، تذكر الذي يأكل من فتات تجارته حروفاً، أخرج الراعي سكينه، فتح باب غرفته، كان الليل الشتوي قارص البرد، الخروف الأسود لا يتوقف عن الثغاء، الريح تصفع وجهه، ركبت قطرات المطر بساط الهواء ونزلت تتبع اتجاه الريح، الضوء الدوّار فوق الحظيرة، رائحة الصوف بالحظيرة قاتلة، سهل أن تميز خروفاً أسود بين خراف بيضاء، أمسك به…. لف حبال على قدميه الأمامية والخلفية من خلاف، كان ماهراً كأي راعٍ في لف الحبال، جذب رجلاً ثالثة وربطها بالأخريين…شكلت الأقدام مثلثاً، ترك الرابع حرة ولكن ليس  إلا لبعض من وقت، أراد أن يجعل الخروف يقوده بعض الأمل في النجاة، رمى إليه مخرج لا وجود له…رسم الخروف برجله الرابعة للحظات خطوط تمس ربع دائرة في التربة، حافراه صنعا محيطاً داخل التراب… ضغط بركبته على الرجل، أمسك قرن الخروف الصغير، كان ضعيفاً ليس به لحم كثير لكنه كان خروفاً عنيداً، الخروف تتجول عيناه في نصف مشهد لحوافر بيضاء تتحلق حوله، كان يثغو مناجياً الحوافر النجدة، تنفس ونفخ بقايا التبن على الأرض… أغرق أنفه بمخاط أصفر، ضغط الراعي على رقبته يتحسس جلده داخل الصوف، تحسس بإصبعيه السبابة والإبهام حيث يشاء أن يمرر موساه، ذبحه، أحس بدفء رغم البرد، انتصر أخيراً على الحيوان المزعج، رأى دمه وابتسم…تلذذت يداه بالدم يلطخها، دم الغريم…مرّ الكائن المشاكس كخروف أسود قبضت حياته، تلذذ…شيء مدفون في صدره أصابه بلذة سوداء، تجمد المشهد… رأى يداه تسودّا…رأى القوم يدبرون في أعينهم مكيدة، رآهم يحملون داخلهم حقد دفين، كان جلده يسود…اللون البرونصي ليس كالأسود، إنه يعرفه وعيناه لا تخدعه، انتابته رهبة، انتابه رعب…خاف.

  • الشيخ بلال؟! أهلاً وسهلاً يا شيخ، وين أيامك؟!
  • ليس هذا الوقت المناسب….يريدون قتلي، هؤلاء الفجار…أعلم ذلك.
  • يا ساتر يا شيخ..قصدي يا ستير، علاش؟
  • الفتى الصايع… ذبحته أمام أعين الأشهاد. يتربصون بي…
  • لا حول ولا قوة إلا بالله…
  • أريد الهجرة لأرض الدولة!
  • الدولة؟! صعبة هذي يا شيخ… صعبة.
  • خذ كل ما أملك….ولكن رجاءً، الدولة الدولة.
  • كل شيء؟! متأكد؟!
  • نعم!

” هذي يا حبيبي…يسموا فيها الطربيقة ها ها ها ها، وخيّك منيّك… نجيبه نجيبه، نموت في المشهد السينمائي اللي قدامي ها ها ها … وقع، دفل…وببركة الله تم الاتفاق، ممتلكات الشيخ كلها ليا، المحل والدنيا والعالم…فلوس لقطهم ملاح الحق، وكان لازم باش ما ينتفخوش شوية دراما، للأعين المشاهدة… في الاخير، هربناه في نص الليل، قلت لواحد من التريس يدير روحه من الجماعة اللي تبي تقتله، صاحبنا خداته حبة الشجاعة شوية وضرب الشيخ علي راسه، لوحه في الكوفيني وحصل فيه شوية طرايح… ناس تتخريط مليح ها ها ها ها لوحنا الشيخ في أول حافلة متجهة للدولة وتمت بحمد الله العملية ها ها ها ها ها”

  • الشيخ بلال؟!.

حرك الصوت داخله ذكرى قديمة، كأنه يعرف صاحب هذا الصوت، كأنه اعتاد عليه في حياةٍ أخرى… كأن الدهر مر منذ آخر مرة سمعه فيها، الصوت يعيد حياةً كان لا يعرف عنها شيئاً، بحث في ذاكرته عنها ولم يجدها… لكن هذا الصوت لا يمكن أن ينساه، إنه دفين بالداخل، لماذا ينظر له الطريدة بأعين عارفة، لماذا يراوده شيء داخله أنه يعرف الطريدة، استعت عيناه… أشاح وجهه بيده اليسرى، أمسك النحر بإصبعيْه السبابة والإبهام، ضغط على موضع الخنق، أطلق الطريدة تأوه الذبائح كأنه يمتص أنفاسه مع اللعاب، أحس بالخذر يلعب بأصابعه، شعر أنّ أصابعه تريد حقاً أن تخنق الأضحية، استيقظ وحش داخله لم يتمكن من التحكم بيده، صارت أكثر اختراقاً للحم الطريدة، كان مربوطاً يحاول الفرار…توقف بلال فجأة، لكنه ضبط كل شيء داخله…حدق في وجه الأضحية، آه…كل الوجوه عند الموت تتشابه، ليس إلا خروف أسود آخر عليه أن يذبح من أجل الدولة، مزق سيف الخلافة الوريد…انتفضت الأضحية، تلطخت يداه، لكنه شعر بخذر لذيذ…شيء كأنه عرفه منذ الطفولة، لذة وشهوة بشرية خالطت عملية الذبح المقدسة.

مقالات ذات علاقة

على الدرب نفسه الذي امتشقني مراهقاً

المشرف العام

رواية: اليوم العالمي للكباب – 2

حسن أبوقباعة المجبري

مقتطف من رواية كناش الخوف

عبدالله الغزال

اترك تعليق