قصيدة بلد الطيوب من إبداع الشاعر علي صدقي عبدالقادر، وتلحين الموسيقار علي ماعر، وغناء الفنان محمود كريم
المقالة

بلد الطيوب

ثلاثة عباقرة كلٌ في مجاله اجتمعوا لإنتاج هذا العمل الغنائي الباذخ , الشاعر المُفوه علي صدقي عبد القادر والملحن القدير علي ماهر والمطرب الكبير محمود كريم , ثلاثتهم في هذه الأغنية أعطى أقصى وأجمل ما لديه لينعكس ذلك في هيئة طرب أصيل وفن راسخ وعذوبة متجسدة , الشاعر علي صدقي عبد القادر بكلماته المموسقة والبسيطة جداً في غيرِ خلل والعميقة إلى أبعد الحدود والمُحملة برسائل المحبة والسلام والإخاء والمودة وبإيقاعات هادئة ورصينة والمسافرة في أفق العذوبة ومدارات الألق بصورها البديعة وتركيباتها اللغوية المتينة , والمُلحن علي ماهر بألحانه القادرة على احتواء الكلمات وإسباغ مزيد من الجمال عليها وتغمدها بالعناية والترصيع , علي ماهر بألحانه التي يقدها من صميم الذاكرة الطرابلسية ويجتذبها بموهبته الفذة من هناك من البعيد , من حيثُ لا يستطيع ملحن آخر أن يصل , بما توفَّرّ لهُ من خبرة وإحساس ورقة ورهافة شعور , والمطرب المؤدي والمُغني الراحل محمود كريم بما توفر عليه صوته من هدوء وسلاسة وانسيابية وبما أُتيح له من قدُرات ومساحات استطاع بها مجتمعة احتواء زين الكلام وذهب اللحن وتوَّجَ على أحسن وجه جهد الأثنين الّذين سبقوه .

بلد الطيوب

عمل على بساطته وقصره وسهولته الممتنعة استطاع أن يُدغدغ آذان المستمعين إليه بما يحمله من شحنات عاطفية فنية سامقة , فإلى جانب أنه يتغنى بالوطن وهو القيمة الأسمى في عالم القيم , فأنه يكتظ بالطرب ولا يستطيع المنصت إليه إلا أن يتناغم مع إيقاعاته الهادئة التي سرعان ما تتغلغل في الذائقة لِتُعيد نبشها بما يتوافق مع هذا السحر الأخَّاذ , وهذا ما يُفسر بقاء الأغنية حاضرة علي الدوام في الوعي الجمعي حتى بعد إنتاجها بعقود عديدة , بخلاف الكثير من الأغاني التي تُشبه الفقاعات إذ سرعان ما تنفجر وتتلاشى بعد أن تستنفد طاقاتها وإمكاناتها ولا تعود تُلبي حاجات المتلقي النفسية والشعورية , يحدث هذا مع أغلب ما يُنتج من أغاني , سوى أنَ أغنيتنا موضوع حديثنا تظل بعد مرور عقود حاضرة بقوة ومطلوبة على الدوام لتلبية حاجة المستمع وإضاءة مناطق مجهولة وقصية في نفسه لا يستطيع أي عمل فني آخر إضاءتها ما لم يمتزج بتاريخ المستمع وواقعه و أشياءه الحميمية القريبة إلى قلبه , ما تستطيع أن تُحركه هذه الأغنية في نفس المنصت في لحظة صفاء وتجلي وتجرد تعجز أي أغنية غيرها أن تفعله , ليس الحنين فقط هو ما تثيره بل عشق الوطن هذا الممتد من الماء إلى الرمل , هذا المتربع في المآقي بلا استئذان , هذا الأمل الشاخصة إليه القلوب على الدوام , وهو العشق الأسمى والأكبر , ليس هذا وحسب ما تُثيره فينا الأغنية التي تنبش صندوق الذاكرة لتستخرج منه دُرر البساطة والطيبة والمودة التي كانت سائدة بيننا كليبيين وكمجتمع صغير ومتناغم , أمام غول الواقع اليوم , تثير فينا الأغنية , أو بالأحرى تستحثنا على استرجاع المحبة التي فقدناها والأُلفة التي ضيعناها في حُمى صراعاتنا العبثية .
ثلاثة أعمدة لا يصمد العمل إلا بتواجدهم الشاعر والملحن والمؤدي . وثلاثتنا هنا تفوقوا على أنفسهم وقدموا عملا إستثنائيا لا يتكرر .

ومما لاشك فيه اليوم أن العمل لا يزال يحصد ثمار نجاحه سواء من معاصريه أو من المنصتين إليه من الأجيال الجديدة , والمكانة التي احتلها في ذوائق الجميع يستحيل بأي حال من الأحوال مزاحمته عليها ومنازعته في ملكيتها , ومهما أُنتجت من أعمال فنية أُخرى قريبة من لونه تظل لأغنية بلد الطيوب مكانتها المتميزة وحضورها الواثق وتفاعلها الخلاق وأوقات استدعائه دون غيرها من الأغنيات , ذلك لأنها تلبي احتياجات مختلفة وتُشبع أذواق متباينة في هذه البقعة من العالم وفي كل مكان يتواجد فيه ليبيين مغتربين .

ولا نبالغ إن قلنا أنه أصبحت نشيداً وطنيا لليبيا بشكل غير رسمي , فلا أغنية او أنشودة تضاهيها في هذا المضمار وما من ليبي لم يستمع إليها ولو لمرة في حياته تقريبا , وتلتصق بوجدانه وتتخلل ذائقته ذاك الذي لم يتشرف بالإنصات إليها حالما يُنصت لها , لأنها تسمو – على الأقل – فوق كل الأحقاد والفروقات والصراعات والأطماع التي تسود المشهد اليوم , في هذه الأغنية تكمن ليبيا الأصيلة ليبيا المقشرة من المشاحنات ليبيا منزوعة الخلافات ليبيا الرائعة التي نرسم لها صورا بديعة في خيالنا , تستطيع الأغنية أن توحدنا وتُذوب خلافاتنا , والأهم من كل ذلك تستطيع أن تبعث فينا الأمل , الأمل الذي صار يسننا وبينه مسافات , بمقدورها أن تستدرجه وتُقربنا منهُ وتُقربه منا – من وجهة نظري على الأقل – فقط بعفويتها وبعمق كلماتها وعلو لحنها وحُسن أدائها .

مقالات ذات علاقة

حوار تشكيلي

يونس شعبان الفنادي

الأمازيغية وحرية الصحافة في ليبيا

المشرف العام

ثقـافــة.. أقوى سلاح لتطور الأمم

يونس الهمالي بنينه

اترك تعليق