دراسات

بدايات الشعر في ليبيا

د/ عادل بشير الصاري
كلية اللغة العربية ـ الجامعة الأسمرية

كثير من متتبعي النتاج الشعري المعاصر في ليبيا يعرفون شعراء مثل علي الرقيعي، علي الفزاني، محمد الشلطامي، لطفي عبد اللطيف، عائشة المغربي، وغيرهم، ولكن بعضهم يجهل أن تاريخ الشعر في ليبيا ليس قديما قدم الوجود العربي على الأرض الليبية، فموروث هذا الشعر لا يعد ضخما، إذا ما قيس بغيره من الموروثات الشعرية في بلدان عربية أُخر كتونس والمغرب ومصر والشام والعراق والجزيرة العربية.
وقد يُفاجأ البعض بأن حصيلة النتاج الشعري في ليبيا منذ الوجود العربي سنة 21 هـ حتى بدايات القرن الماضي، لو جمع كله قد لا يزيد حجمه عن حجم ديوان شاعر عربي واحد غزير الإنتاج كابن الرومي أو محمد مهدي الجواهري.

ولا شك أن البحث في بدايات الشعر الليبي يثير إشكالية لدى الباحثين والمهتمين بتتبع مراحل تطور الشعر في ليبيا، فالمصادر التي عنيت بتاريخ الأدب الليبي خلال العصور القديمة قليلة، وما دونته من شعر تلك الفترة يعد أيضا قليلا جدا، لا يعين باحثاً على الوقوف عنده، والنظر في خصائصه الموضوعية والفنية، فأغلب ما احتفظت به الذاكرة من هذا الشعر لا يتعدى أبياتاً قليلة، أو قصيدة، أو أكثر بقليل لهذا الشاعر أو ذاك.

وتعود أقدم نصوص الشعر الليبي إلى القرن الخامس الهجري، أما قبل هذه الحقبة، فلا يكاد الباحث يظفر منها بشيء، ولعل أقدم هذه النصوص التي دونتها المصادر التاريخية، ثلاثة أبيات للشاعر علي بن أبي إسحاق الوداني، يقول فيها : 1

من يشتري مني النهـارَ بليـــــــلةٍ لا فرق بين نجـــومِها وصــحـابـــي
دارتْ على فُلكِ الزمانِ ونحن قـد دُرنـا عـلـــــى فــــــُلكٍ مـن الآدابِ
ودنا الصباحُ، ولا أتى، وكأنــهُ شيبٌ أطلَّ على ســـــــوادِ شبــــابِ

وبالطبع فإن هناك بضع شعراء آخرين دوَّنتْ لهم المصادر شعرا قليلا، ولكن المقام هنا يقتضي الإيجاز.

ومما تقدم لا يمكن للباحث في شعر هذه الفترة أن يخلص منه إلى رأي يطمئن إليه، فما ضاع منه ـ لو سلَّمنا بفرضية الضياع ـ حال دون الإحاطة بقيمته الفنية، وما بقي منه قد لا ينبئ عن وجود نهضة شعرية في تلك العصور كتلك التي شهدتها مدن الجوار كالقاهرة، وتونس، وحواضر الخلافة الإسلامية.
وقد فطن الدكتور إحسان عباس إلى هذه الحقيقة، وتساءل في خاتمة كتابه (تاريخ ليبيا منذ الفتح العربي حتى مطلع القرن التاسع الهجري) قائلا: (( ألم تنجب ليبيا شعراء وناثرين ؟ )) 2.وخلُص إلى أن طرابلس لم تستطع خلال تاريخها القديم أن تكون بلاطاً للأدب والأدباء، كما كان الحال في القيروان وتونس، معللاً ذلك بأن طبيعة الحياة في ليبيا وعدم الاستقرار فيها منع من ظهور شعراء من الطراز الأول، وقد لاحظ الدكتور إحسان عباس بأن أكثر المتمرسين بالشعر، كانوا إما لغويين أو قضاة.
ويقول الشيخ الطاهر الزاوي في هذا الشأن (( والمتتبع لتاريخ الفتح العربي في ليبيا لا يقع نظره إلا على غزاة تتابعت غزواتهم عليها، لنشر تعاليم الإسلام تارة، والحكم والسيطرة تارة أخرى، يتخلل هذا وذاك حروب طاحنة، وثورات متتالية، صرفت الليبيين عما يجب عليهم لوطنهم من توفير وسائل العمران ونشر المعارف والأخذ بنصيب من المدنية لا يقل عن نصيب جارتيها تونس ومصر )).3
وإذا كان فساد الأوضاع واضطراب الأحوال في ليبيا القديمة حال دون القيام بنهضة عامة، تُعنى بشؤون العلم والفكر والأدب، فإن هناك أسبابا أخرى منعت قيام هذه النهضة، يمكن إيجازها في النقاط الآتية :

أولاً : ضعف سياسة التعريب التي قام بها الفاتحون العرب في القرون الأربعة الأولى من الفتح، مما أدى إلى تأخر معظم سكان ليبيا الأوائل البربر أو الأمازيغ عن تعلم اللغة العربية، وتذوق البيان العربي، فقد ظلت العجمة فاشية فيهم لقرون عديدة تلت الفتح العربي،
ويبدو أن من تعلم العربية منهم في أول عهود الفتح كان لغرض التخاطب، وقضاء المصالح المعيشية، ولم تكن عربية كثير منهم بعربية أدب وتفنن في القول.
يقول الدكتور نقولا زيادة في هذا الشأن : ((عدد العرب الذين استوطنوا ليبيا منذ أيام الفتح إلى أوائل القرن الخامس الهجري ” الحادي عشر الميلادي” لم يكن كافياً لصبغها كلها بالصبغة العربية نهائياً، فظل الغالب على سكانها ـ خاصة في الداخل ـ العنصر البربري، وإن كانت آثار الروم قد زالت منها تماماً تقريبا، لكن الذي أتم لليبيا عروبتها هو مجيء قبائل بني سليم وبني هلال في أواسط القرن الخامس الهجري )).4
ويمكن القول إن الإسلام كان في هذه الفترة أسرع من اللغة العربية في الانتشار بين السكان الليبيين، غير أن اللغات واللهجات غير العربية كالأمازيغية والقبطية مثلا ظلت هي لسان كثير من سكان المدن والبوادي، ولعل في كتب الرحلات ما يؤكد هذه الحقيقة.

ثانياً : عدم عناية العرب الذين استوطنوا ليبيا عقب الفتح بالشعر، وهم
قسمان : قسم جاء مع الجيش الفاتح، ويشمل الجنود والموظفين ودعاة الفرق والمذاهب، وهؤلاء لم يكونوا يحفلون بالشعر وفنونه، فقد كان همهم استقرار الأوضاع ونشر الإسلام بين الليبيين.
وقسم ثان يشمل عرب بني هلال الذين استوطنوا طرابلس، وعرب بني سليم الذين استوطنوا برقة بعد منتصف القرن الخامس الهجري، وهاتان القبيلتان عاشتا زمنا طويلا على الترحال والغزو قبل أن تستقر بهما الأوضاع في المهجر الجديد، ولم يكن للشعر الفصيح فيهما نصيب، إذ عرف عنهما العناية بالزجل والغناء الشعبي.

ثالثاً : النشاط الذي قام به دعاة الفرق والمذاهب الإسلامية كالخوارج، والمعتزلة، والشيعة، والإباضية، والصوفية، صبغ الحياة الثقافية في ليبيا إبان العصور الإسلامية صبغة تكاد تكون دينية خالصة،مما جعل عناية أكثر المتعلمين آنذاك تتجه إلى العلوم الشرعية واللغوية والطرق الصوفية.

ومن يراجع كتب تراجم أعلام ليبيا في تلك العهود سيُفاجأ بعدد كبير جدا من أعلام الفقه واللغة والتصوف، وبعدد قليل جداً من الشعراء، وهذا العدد لم تطب له الإقامة في البلاد بسبب عدم استقرار الأوضاع، فاضطر إلى الهجرة إلى البلدان المجاورة كتونس، ومصر، والشام، والأندلس، وصقلية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب، أحمد النائب الأنصاري، ص257.
2ـ تاريخ ليبيا منذ الفتح العربي حتى مطلع القرن التاسع الهجري، الدكتور إحسان عباس، ص 224.
3ـ من مقدمة تاريخ الفتح العربي في ليبيا، الطاهر أحمد الزاوي.
4ـ محاضرات في تاريخ ليبيا، الدكتور نقولا زيادة، ص31.

مقالات ذات علاقة

أساسيات التأليف في الآداب

يوسف القويري

الليبيّون بعيون هوليود

محمد النعاس

زمن الحنين

عادل بشير الصاري

اترك تعليق