قصة

امرأة في ثوب العار

من أعمال التشكيلي رجاء بن ناجي
من أعمال التشكيلي رجاء بن ناجي

كانت تلك المرأة تتحرك في ثوب الخوف من أحد قد ينتبه إليها، وهى تحمل ذلك المولود حديثا.. تهرول مسرعة خوفا من أن يكتشف أمرها أحد.. وكانت تتسلل خفية ما بين المارة قاصدة دار اللقطاء في المدينة.. كانت وهي تحمل مولودها الحديث الولادة تدرك أن قسوة الحياة قد خيمت على جسدها الذى أنهكه التعب من شدة طول الطريق المار الى الدار.. وشعرت بأن الحياة انتزعت منها وهى تلقى بطفلها أمام باب الدار.

كانت فعلتها بدافع الخوف الذي جلل جسدها وهى ترتعش من أن يكتشف أحد المارة فعلتها.. كانت تحس بالمرارة وهى تقفز إلى حلقها بأن تدفع أبنها الى المجهول.. كان أي مولود خارج رباط الزوجية يدفع بأمه إلى سيف الجلاد كما جرت العادة في مدينتي.. كان كل جسدها يقفز حزنا وهى تترك مولودها للضياع.. كان لدى أي امرأة حلما في أن يكون لديها طفل تهدهده بيديها.. هكذا خلقها الله.. فالله أودعها هذا السبيل منذ نشأة الأنسان.. وهذه العاطفة غرسها الله في وجود أي امرأة على وجه البسيطة.

كانت تتمنى لو أنها تلقى بنفسها الى الضياع بدلا منه.. كان أي طفل يولد خارج نطاق العرف أو العادة يكنى بتهمة (ابن الحرام).. ليظل منبوذا ومطرودا من المجتمع الذى من حوله طوال الحياة.. فهو سوف يعيش في النفي ممن حوله.. ولا يلقى ترحيبا من أحد.. فهو سوف يظل نكرة بينهم.. وكأنه جاء من عالم غير ذي العالم.. سوف يتلقفه الضياع أينما حل.

كانت العادة فوق وجود الأنسان في بلادنا.. نحن مأسورون في الآخر.. فلا نستطيع أن نعيش دون الآخر.. فهو الذى يضع القوانين من حولنا.. و يكبلنا برباط العادة.. فسلوكنا مرهون بوجوده.. إننا نتحرك في الآخر ولا نستطيع الانفكاك عنه.. إن الغير هو قدرنا ومحدد سبيلنا.. والمرأة في بلادي دائما تعيش في عزلة وسط الناس لقد فرضها عليها الغير.. دون إرادة منها.. فهي ملحقة بالرجل.. فالمرأة إذا ما واجهت ذات الحدث في الحمل غير الشرعي تواجه أسقاط الحمل بصورة مخفية قد تواجه حياتها.. وكانت الكثير من النساء تهدر دمائهن اذا ماو اجهنا نفس المصير.. فهي دائما في مواجهة سيف الشرف لوحدها بينما الرجل يهرب من فعلته في نظر المجتمع عن انحرافه عنه.. و كانت عبارة (لا يسلم الشرف من الأذى.. حتى يراق على جوانبه الدم)..هي الأيقونة السائدة وسط المرأة الخاطئة.. فالشرف سوط عذاب لمن يتخطاه.. ومصيره الموت أو النفي عن العائلة.

كان ما يجلجل الهم المحاط بـ(ليلى) أنها لا تستطيع الاعتراف بفعلتها امام أهلها.. ويبدو في بلادي أن الأنسان لم يتجاوز العادة.. فالعادة هي التي تصنع قدرنا ومصيرنا.. فمأساة (ليلى) في كل بيت ليبي حاضرة.. فالعادة أزاحت الأنسان عن إنسانيته.. وأصبح الإنساني غيرى لا يلامس ذاته.. فإذا ما صادف هذا الطفل المولود الحياة فأنه سوف يعيش في النفي طوال حياته.. فلا أحد يستطيع أن يتقرب منه أو يخالطه.. يعيش طوال عمره منبوذا من الناس.. فهو سوف يظل معزولا كالبهيمة الجرباء عن القطيع.. كانت (ليلى) تدرك عواقب فعلتها ولكن كانت الغزيرة أقوى منها.. فلا أحد يمكن أن ينزع عنها هذه العاطفة المغروسة في ذاتها بأن تكون أما.

في أحد الأيام -مصادفة- مرت (ليلى) بدار اللقطاء حيث أودعت طفلها.. لتلمح لوحة معلقة على جدار مبنى الدار تنعى بعض فتيانها من النزلاء الذين قدموا حياتهم لمقارعة الإرهاب في المدينة.. اليوم هؤلاء الفتية يتجلجلون بالشرف في الفداء والتضحية من أجل بلادهم ولا يلاقون ذات البينة حينما يواجهون الغير في حياتهم.. كان الدافع من أجل التضحية هو نزع ثوب العار عن أجسادهم.. والاعتراف بأنهم إنسانيون مثل أي شخص من حولهم.. كان كل ما يطمعون من وراءه هو شرف المواطنة في أن يكونوا بين الناس.. ويزال عنهم وهم بأنهم خلق غير سويين.. الأمر في بلادنا لم يتغير كثيرا الى يومنا هذا.. فلازال الكثير من الأطفال المولدين حديثا غير الشرعيين يلقون بهم في مكبات القمامة.. للحيوانات السائمة وقد نزعت عنهم إنسانيتهم..

وقفت (ليلى) هنيه أمام اللوحة.. ثم أزاحت نفسها وغابت ليبتلعها الشارع الكبير الذى لم يرحم قدرها..

مقالات ذات علاقة

الزلفوت

جلال عثمان

تَحَرُّر .. أَم خيانة؟

عبدالحكيم الطويل

مسعــــودة

إبراهيم بن عثمونة

اترك تعليق