قصة

الْمنْجَل

… (حمد المَنْجَل) تقلَّب في عدَّة وظائف حكومية.. بطناً وظهراً.. ابتداءً من مُحاسِب صغير قابعٍ في رُكن مكتبٍ مُعتِمٍ رَطِب.. مروراً بتاجر شَنطة بين ليبيا وشرق آسيا.. وانتهاءً بمدير شركة لها فروعها في كل أنحاء بلادنا الشاسعة.

(يعرف من أين تُؤكَل الكتف).. ويأكل (ناقة الله وسُقياها).. باختصار هو من أولئك القادرين على (أكل الدَّاعي والمدّعي).. والأهم من ذلك أنه يُدرِك أنَّ (البقرة السوداء تُدِرُّ حليباً أبيض).. يُقال بأنه لم يخرج من رحم أُمّه بالرأس.. صارخاً كسائر الأطفال.. بل وُلِد برجليه مُتلفِّتاً مُبتسِماً.. مُزوَّداً بالكثير من الخبرات.. وكان يتباهَى بأنه (مزقْزِق في الدَّحْية).

كان من فئة (اقلاَل الوالِي).. وبقفزةٍ غير منظورة أصبح من أهل الوالي نفسه.. وأخذْنا ننظر إليه بحسد وهو (راقِد بين قرون العنْز).. وانتقل من مُصنَّف في خانة (راقد رِيح).. إلى عضو فاعل في خانة (فوق الرِّيح).. بحيث لا تَطاله تقلُّباتُها.. ليس هذا فحسب.. بل أصبحت الرِّيح (تحطِّب له).. وتجري بما تشتهي سفُنُه.. وتحوَّل بأُعجوبة من (دِيك أجرَب).. إلى دِيك يبيض ذهَباً.

طلَّق امرأته.. باع سيارته القديمة.. واستبدل حتى جيرانه.. وأصبح يضع مِرفقَه خارج السيارة أثناء القيادة.

حمد المنجَل لا يحبُّ البقاء في الهامش.. بعيداً عن الأضواء.. فأنت تراه في كل مناسبة.. فهو الذي يُصلِّي بنا الجمعة.. وفي المساء يخلع جُبَّة الإمام ويولِّي وجهه شطر الملعب.. ليقوم بدور الصحفي الرياضي.. يلتقط الصوَر ويُعدُّ التقارير.. وأُذنه في الملاعب الأخرى بهاتفه النقّال.. وبين شوطَي المباراة يُفاجئكَ وهو يؤمُّ الجمهور في صلاة العصر.. وهو بقدر ما يُدبِّج الخُطَب الجهورية الرنّانة فوق المنابر.. حتى تُحس أنَّ الآخرة قد غدَت على مرمَى حجَر.. بل يجعلك تتلفَّت وأنت تشمُّ رائحة شياط النار في أركان المسجد.. فهو أيضاً ـ في سهراته الخاصة ـ يُجيد الأحاديث الماجنة.. والنِّكات الداعِرة.. تحت باب (لكلِّ مقامٍ مقال).

هو رجل كل الأوقات.. كل الأزمات.. كل الظروف.. يلبس لكل حالةٍ لَبوسَها.. إنّه من ذلك النوع الذي يُشعِل النار في الخفاء.. ثُم يتساءل في دهشةِ: من أين يتصاعد هذا الدخان؟! والأنكَى من ذلك أنَّه يتحوَّل إلى إطفائي.. بعد أن تكون النار قد أتت على كلِّ شيء.. وهو يرى أنَّ من الحَصَافة أن يكيل المرءُ بمكيالين.. أو عدَّة مكاييل.. لذلك فهو (ياكل مع الذيب.. ويزمِّر مع الراعي).

عندما يمشي ينحني قليلاً إلى الأمام.. ويبدو في ذلك الوضع مع حركة يديه أنَّه على استعدادٍ للالتفاف والتكوُّر حول شيءٍ ما.

إن لم يستطع أن يكون في قائمة الحُجّاج.. فهو في البعثة المُرافقة للحجيج.. وإن فاتَه هذا وذاك فهو في لجنة إجراء القُرعة على الأقل!

تجد على مائدته في الصيف فواكه الشتاء.. وفي الشتاء أطايب الصيف.. يراه الناس في أماكن مختلفة في نفس اللحظة.. حتى أقسم بعضهم أنَّ المنجَل من (رِجال الخطوة).

إذا ظهرت إشاعة في قريتنا فهو مَصْدرُها.. أو هو من يتلقَّفها ويمنحها جناحين.. عندما تواجهنا مشكلةٌ ما.. نَفْزَع إلى المنجل.. فيكفي أن يضع يده في جِيبه ليُخرِجَ لنا حمامةً.. أو أرنباً.. أو شوال دقيق أو سُكَّر.. فهو قد تكفَّل بحلِّ جميع المشاكل.. ابتداءً من تكدُّس القمامة وطَفْح المجاري.. مروراً بالتصحُّر والاحتباس الحراري.. وانتهاءً بالنفايات النووية وثقب الأوزون.

يقوم بعقد الزيجات.. كتابة أوراق الطلاق.. الصلاة على المَوتَى.. قراءة القرآن في المآتم.. حلق المواليد وختانهم في اليوم السابع.. وإشعال القناديل في المولد النبوي الشريف.

الأمور تجري بين يديه بطريقة سحرية.. كأنه يملك مصباح علاء الدين.. ويعمل تحت إمرته فيلَق من المَرَدة.. وخلاصة الأمر أنَّ المنجَل مؤسسة كاملة في زمنٍ غابت فيه المؤسسات.

وهاكم مثالاً واحداً على أسلوبه في حلِّ المشاكل المُستعصية: فالمياه مقطوعة عن قريتنا منذ شهر.. أو منذ (ستين وَجْبة) حسب تعبير عجائزنا.. لكنَّ المنجل يوم الجمعة بالذات.. ومن فوق المنبر.. وجد حلاً سحرياً لهذه المعضلة.. وهو أن يُحيلَنا إلى أنهار الجَنَّة.. وعلى الأخصّ نهر اسمه الكوثر.. مَن يشرب منه مرَّةً واحدة لا يظمأ بعدها أبداً.

بعد هذه الرحلة السماوية.. يردُّنا إلى كوكب الأرض.. وبالأخصِّ إلى قريتنا التي تنقطع عنها المياه منذ شهر.. ليبتهل إلى الله ـ طالِباً منّا التأمين ـ أن يوفِّق وُلاةَ الأمور إلى ما فيه خير البلاد والعباد.. وهكذا.. بقليلٍ من البلاغة.. وبصوتٍ جهوري.. والاستشهاد ببعض الحِكَم المأثورة.. وحفنة من الأمثال الشعبية.. والأبيات الشعرية.. وغَناوي العَلَم.. وبثلاث شجرات خرُّوب ذَكَر هرِمة.. وبدون مياه.. استطاع المنجَل أن يجعل من قريتنا فردوساً على الأرض.. فالأمور تبدو من السهولة أحياناً بحيث يصعب تصديقها.

لكنَّ كل هذه الأمور لا تُعدُّ شيئاً يُذكَر.. بالمقارنة بما حدث يوم الفيضان..

… اجتاح الطوفان وادينا.. تصدَّع المسجد.. انهار الفُرن.. الْتهم السيل الضفاف.. دخل كل بيت.. جرف الزرائب بما فيها.. اقتلع شجرة الكرموس الضخمة.. وفي الوقت الذي كُنّا فيه نغرق.. ونحن نحمل أطفالَنا فوق رؤوسنا.. ونحاول الاحتماء بالجدران المُتصدِّعة.. والتعلُّق بالأشجار والصخور الناتئة على ضفَّتي الوادي.. ظهر المنجَل فجأة.. وسط دهشة المُحاصَرين بالسيل.. يمشي باطمئنان فوق الزَّبَد.. دون أن تبتلَّ قدماه!

مقالات ذات علاقة

الــــــــــكنز

محمد ناجي

انتظار

فتحي نصيب

قليل من الدفء

غازي القبلاوي

اترك تعليق