الشاعر: محمد المغبوب
النقد

الواقعية السحرية في رواية الفينكس

قراءة د .دينا نبيل ، مصر

الشاعر: محمد المغبوب
الشاعر محمد المغبوب

توطئة: قد يُظن بالأعمال الأدبية التي تدخل في نطاق تيار الواقعية السحرية أنّها تلك المتضمنة لحكايات الجن والعفاريت، والحقيقة فإنّ المسألة أعمق من ذلك بكثير؛ إذ إنّ الفنتازية وحدها لا تكفي كي تقدّم فن الرواية المعقدّ الذي يجسّد ملحمية الحياة البشرية . فلا تقتصر الواقعية السحرية على ما هو عجائبي على الرغم من كون العجائبية وشيجة رئيسة في هذا التيار ؛ فالجانب السريالي الباحث في الماورائيات والأغوار النفسية للإنسان وانعكاسها على نظرته لما حوله ركيزة رئيسة لهذا التيّار أيضاً، ليس ذلك فحسب ولكن وعلى حدّ قول الأديب الأرجنتيني خورخي يوليوس بورخيس: ” إنّ الأسطورة تقع في بداية الأدب وفي منتهاه “، فإنّ الجانب الأسطوري يعدّ كذلك بعداً محوريّاً في الواقعية السحرية .

*يجمع تيار الواقعية السحرية بين القديم والحديث ؛ (القديم ممثلاً في العجائبي، والحديث ممثلاً في استخدام الأسطورة بالمفهوم الفني والأدبي والثقافي، والسريالي أو ما فوق الواقع والبحث في الجوانب الباطنية للإنسان وانعكاساتها على الواقع […] وتأثيرها على وجوده ورؤيته للعالم وللكون)[2] . لذا فعند النظر إلى أجواء الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية – قارة الصدامات الزمنية -* وظهور الأوضاع المتناقضة التي نجم عنها الدكتاتورية وتفشّي الفساد، يتضح سبب ازدهار هذا التيار الذي يربط الماضي بالحاضر ويغوص في أعماق الزمن البدائي ليخرج بأبطال الأساطير الذين يحيلون الواقع المرير إلى جو غرائبي ؛ يجسّد الكاتب فيه عالماً أفضل ممسكاً بالسراب على أرض الواقع . وعند النظر إلى واقعنا العربي المأزوم، نلحظ خصب الأجواء التي أدّت إلى ازدهار الواقعية السحرية في الرواية العربية الحديثة ؛ فالمنطقة العربية متشظية بين بلدان واقعة تحت نير الفساد والدكتاتورية بعد نيل استقلالها السياسي، مما أدى إلى ظهور المعتقلات والحجر على حرية التعبير بشتّى أشكاله، بينما صارت مجتمعات أخرى فريسة لاستغلال الغرب لثرواتها لاسيما النفطية . فغدا المجتمع العربي على شفى الثورة بين ليلة أو ضحاها ؛ ومن ثمّ يتضح سبب توجه الأدباء – المسرحي والشاعر وكاتب القصة القصيرة – إلى كتابة الرواية ؛ لأنها الأقدر على (تصوير المجتمع والتعبير عن ضمير الإنسان وأشواقه ومصيره واستيعاب التاريخ والتنبؤ باتجاهات المستقبل)[3]، بل ويمكن من خلالها رصد وضع الأمة وواقعها المأزوم في مواجهة آمالها وتطلعاتها .

وفي رواية ” الفينيكس ” للكاتب الليبي محمد المغبوب يلحظ المتلقي ملامح الواقعية السحرية بدءً من العنوان ” الفينيكس ” أو الفينيق – الطائر الأسطوري، ليتوازى بدقة محسوبة الجانب الواقعي الممثل لأحوال ما قبل الثورة من أوضاع فساد متفشية، جنباً إلى جنب مع عوالم ماورائية تتبدّى في الأحلام والتخاطر والأحوال الصوفية والعالم العجائبي الذي يزوره البطل فضلاً عن الدلالات الأسطورية ذات المحمولات الرمزية المنسوجة حول بطل الرواية الذي يشترك مع طائر الفينيكس في كثير من الملامح، حتى إنّه من الممكن إطلاق اسم ” الرجل الفينيق ” عليه . فيضع الكاتب روايته التي تمسك بخيطي الواقعية – التي (لا ينفك أدبها يلازم المجتمع وحياته في مشكلاتهما وأحداثهما)[4] – مع السحرية بجوانبها الأسطورية والسريالية والعجائبية لينطلق بها مؤثثاً فضاءات الثورة وكيفية تولّدها من رحم المعاناة الإنسانية التي تهيم في شتى العوالم متخبطة في حياة بينية بين الحياة والموت بحثاً عن الحياة الحقيقية .

*

المعلومة السردية:

تقع الرواية في تسعة فصول يشترك في روايتها بالتناوب أربعة رواة هم: (الدكتورة وُدّ – راضية – سارة – البطل)، بينما ينفرد البطل ووُد برواية الجزء الأخير من الفصل التاسع ” طريق آخر ” . فالرواية من ثمّ رواية بوليفونية أي متعددة الأصوات والمنظورات السردية تتنقل بين عوالم عدّة ما بين الواقعي والعجائبي والسريالي والأسطوري . تدور أحداث الرواية عن حادث شاحنة يقع لأحد المثقفين الذين تعرضوا للاضطهاد في بلادهم فاختاروا المنفى في تونس، مما أدى إلى إصابته البالغة ومن ثمّ دخوله في غيبوبة طويلة . تظهر على صعيد حياة البطل ثلاث نساء يتبادلن الأدوار بين ظهور واختفاء لتتضح لهن حقيقة مشاعرهن تجاه الرجل الفينيق الذي كان محوراً في حياة كل منهن . تختفي كل النساء من حياته وتبقى وُد حتى إفاقته من الغيبوبة لتبدأ معه رحلة العلاج، مما يصادف اندلاع الثورة في بلاده فكان قراره بالعودة إلى الديار مجدداً . تبدو المعلومة السردية الرئيسة حول الرواية واقعية ممكنة الوقوع لاسيما عندما يعرض الكاتب أحوال المثقفين وأهل الإبداع وسط أجواء الفساد المستفحلة في مجتمعاتنا العربية والتي هي أصدق الواقع بلا مواراة، يقول:” أنا جثة تمشي على الأرض يريدونها أن تسير على أسنانها كي يضحك منظرها ويشبعوا نهم سلطتهم، وفي أحسن الأحوال يا سيدتي لست إلا وليمة شهية لأسنان الزمن الردئ الذي نعيشه بزعامة الغلمان الذين يسيرون بنا إلى هاوية لا قرار لها / 131 – 132 ” ولكن الكاتب يدمج مع تلك الواقعية المريرة عوالم سحرية ليعطي مستوىً جديداً للعمق الدلالي والجمالية البنائية لعمله الأدبي .

*

المحاور:

1- الملمح السريالي

2- الملمح العجائبي

3- الملمح الأسطوري

4- الحياة البينية

*

1- الملمح السريالي:

يلجأ الكاتب في رواية ” الفينيكس ” للمزج بين العالم الواقعي والسريالي، فقد ( يبلغ النفور ببعض النفوس حداً لا تستطيع معه أن ترى ما في الواقع من قبح، فتظن أن باستطاعتها أن تحيله جمالاً إذا مسته بجناح الخيال)[5]، أو إضفاء ما يعطي للأشياء روحاً جديدة تشجع النفس على رؤية واستنباط الخلل والسعي نحو تغييره ؛ لذا فيعتمد الكاتب السريالية ركيزة رئيسة في واقعية روايته السحرية. والسريالية ( ترفض التسليم بما هو واقع ومألوف وتقليدي وتعيد اكتشاف الأشياء في نقاء وتلقائية وبكارة وفطرية، بما يعيد للأشياء نضارتها وطزاجتها)[6]، فيبحث الكاتب في الماورائيات وما فوق الواقع ويستخدم تقنيات تساعد على هذا المزج بين الواقع اليومي الآني والعالم السريالي . ولعل أشدّ ما مكّن الكاتب من استكناه عالم الماورائيات هو اعتماده لتقنية ” تيار الوعي “، وهو (أحد أنماط الخطاب المباشر الحر […] الذي يحاول اقتباس مباشر للذهن […] بالتركيز على التدفق العشوائي للفكر [… فـ] يمكن لـ” تيار الوعي ” أن يقدم كلا الانطباعات والأفكار)[7] حال ولادتها ويرصد تداعيها . مثال ذلك* تقاطع السرد مع ذكر وُدّ لانطباعاتها نحو راضية وتداعي أفكارها وتدفق مشاعرها المتضاربة حولها بحسها الأنثوي ثم التعريج للحديث عن رجلها الفينيق الذي يستحيل بشخصيته أن تكفيه امرأة واحدة ثم الانتقال لبعض الاسترجاعات الخاصة بها أو بالبطل وربطها بالتاريخ ثم العودة إلى الواقع . وهكذا أفاد الكاتب من نوع هذه الرواية – الرواية البوليفونية في رسم استقلالية الشخصيات النسبية للقفز بالقارئ إلى عوالم الشخوص الداخلية وولوج خباياها وتعقيداتها حد التناقض .

يستعين الكاتب في رواية ” الفينيكس ” بتقنية الأحلام التي تمثل في حد ذاتها ( صورة مختزلة للواقع أو هو اختزال للعلاقات الاجتماعية عبر الرموز)[8] ذات الإحالات التي ترتبط بالواقع . يأتي الحلم في خمسة مواضع متفرقة على لسان الرواة (راضية – سارة – ود) وكلها تدور حول ” الرجل الفينيق ” . تستعرض راضية حلمها مبتوراً ثم تكتمل صورته في نهاية روايتها، تقول: ” جاءني يرتدي ثوباً أبيض ويضع على رأسه لحافاً يظهر وجهه الوسيم بلحية بيضاء أيضاً ساهم الطرف في هدوء كبير يكتسي الجلال والوقار / 48 … كأنني كنت عارية وجدته يضع اللحاف على جسدي، ويمسح بيده جبهتي، وأنا أحاول أن أكلمه، فلم تخرج الحروف حلقي وهو يبتسم لي .. وأنا التي فرحت بلقياه حتى وجدته يبتعد عنّي خلف المجهول فلا أجده / 67 – 68 ” يمثّل هذا الحلم المليء بالرموز حقيقة بواطن راضية التي تقول عن نفسها أنها قريبة للبطل . إن الجدلية بين التعرية والتغطية في الحلم على المستوى المجازي وثيقة الصلة بدواخل راضية وباستشراف نهاية علاقتها بالبطل الذي أسهم في تعرية ذاتها أمام عينيها، تقول: ” لقد اكتشفت نفسي من جديد وكان هو من نزع الغطاء عن جهلي وجعلني أراني في مرآة ذاتي على الشكل الذي أنا عليه / 76 ” فقد كان للبطل دور كبير خلال مدة تعرفها إليه في تنوير عقلها وتبصرتها بحقيقة الحرب الدائرة في بلادها الجزائر وصراعها الداخلي بين البقاء في المنفى أو العودة إلى وطنها المشتعل ؛ فليست الحياة هي الشهادات العليا وإنما هي العودة إلى الوطن وربط مصير الإنسان بمصيره ليشعر أنه يحيى من أجل قضية جليلة.

*تأتي سارة كذلك بحلم مبتور تستأنفه في الجزء الثاني من روايتها، تقول: ” هيئته كانت على صورة شيخ جليل يرتدي ثوباً ناصع البياض، بوجه له عينان قلقة تحملقان حولهما وتصيبني بسهام نارية .. يقول: تبدين كأنك لست أنت وفي الوحل تمشين بصعوبة بالغة / 94-95… كما عهدته واثق المشية يكسوه الجلال اقترب مني ومسحت يده اليمنى شعر رأسي ومضى / 150-151″ . إن رمزية هذا الحلم لا تقتصر على استخراج بواطن سارة وإحساسها بالذنب بسبب خيانتها للبطل الذي تدعي أنها كل ما لديه ولا ينازعها فيه أحد، على الرغم من أنها خانته مع صديقه زهران، فقد أفاقت إلى نفسها ولم تكتشف سوى أنها كانت تلبي نزواتها الداخلية وأدركت خلال غياب البطل البرزخي أنه كان حاضراً بقوة ينير طريقها في الوقت المناسب، تقول: ” سأعود إلى النقطة التي انطلقت منها بمسوح ناسك وثياب راهبة / 256 ” وهكذا رجعت كما تقول إلى وطنها.

يختلف حلم ودّ اختلاف دورها عن سائر نساء البطل ؛ فهي المتحملة للمسئولية حتى النهاية والمتابعة إياه في مرحلة الغيبوبة (البرزخية) حتى استجاب لمؤثراتها الخارجية وأفاق نتيجة لذلك، تقول في الحلم: ” وجدته بجانبي نتمرغ على رمال الشاطئ خال إلا منّا ولا من صوت غير شهقاتنا نطارح غرامنا كما ينبغي لتا وكأنني شجرة يقتطف من خوخها وعنبها وكرزها وتفاحها وأوراقها تظللنا وأنا أشرب من جدوله كأن عطش السنين كان يسكنني حتى ارتويت / 183 ” ؛ فيجتمع الضدين في رجل واحد – العربيد والناسك – ولكن عمق دلالة هذه الثنائية يكمن في التكامل ؛ الناسك كما ظهر في حلميّ راضية وسارة كالشيخ العارف الذي يبصرهما بحقيقة الطريق الذي يسلكانه ووجوب تعديل الطريق عن اللزوم . أما في حلم ودّ فلم يكن نقيضاً ؛ إذ تكمن دلالة اللقاء الحميمي بين ودّ والبطل الذي لا تفتر عن تسميته بـــ” رجُلي ” في التكامل بين عنصري الخليقة (الرجل والمرأة)، وتوحد الكون بين قطبيه السالب والموجب ؛ وعلى حدّ قول ابن عربي أن (أتمّ وأكمل شهود الرجل الحق إنما هو في المرأة فالرجل كما قال صدر عن النفخة الإلهية والمرأة صدرت عنه فهو فاعل منفعل في وقت واحد)[9] ؛ تقول ودّ: ” هكذا أنا ورجلي هذا كل منا يريد أن يكون للآخر، وصرنا أكبر من أي شيء بيننا إذ اتحد قلبانا وعقلانا وجسدانا معا، دون أن يلغي أحدنا الآخر / 286 ” وهذا الاتحاد مرمى خلاصة الفكر الصوفي . وهكذا تعبر وُدّ جسر التخاطر بينها وبين البطل وتبعث إليه إشارات تجد آثارها في استحلامه في اليوم التالي وسط اندهاش من طبيبه المعالج لمصدر تلك النداءات.

*تتبدّى من خلال الأحلام ملامح الصوفية بأكثر من شكل كما أشرنا ؛ وفي الحقيقة فإن للصوفية في هذا العمل بالتحديد دور هام ؛ فالصوفية دخلت (ساحة الإبداع الأدبي بوصفها أحد العناصر المهمة في التيارات الحديثة وخاصة السريالية)[10] . تصل الصوفية المادة بعالم الروح، بل وتهدف إلى سمو الإنسان بروحه فوق المطالب الدنيوية ( فيشف البدن وتتحرر الروح وتتصل بأصلها الإلهي مما يمكّنها من تكشّف المستقبل والرؤية السليمة)[11] لمجريات الأحداث حولها، يقول البطل: ” يبصر الصوفي جلال الله ونوره يرى به ما لا يراه غيره، لهذا فهو مكتفٍ بعبادته ولا شغل له إلا المزيد من العبادة حيث تقربه إلى مولاه الذي يهديه إلى المعرفة وفك طلاسم كل شيء / 217-218 ” . يأتي دور البطل في الرواية كما أشرنا للمجسّد لدور الصوفي المكاشف لحقيقة الآخرين أمام ذواتهم ؛ فأبصرت شخوص الرواية كل منها حقيقتها الغائبة عبر تراسلهن معه روحانياً، إلا أنّ أكثر ما تتجلى فيه الصوفية عند آخر الرواية هو مشهد قيام الثورة وعقد المقارنة بين البطل الفينيق وصديقه زهران الحمادي . يؤثر زهران الديمقراطية (الجاهزة) في المنفى على العودة إلى الوطن لمعاركة الفساد وتحقيق الرخاء كما يعزم البطل أن يفعل، تقول ودّ: ” زهران بغربته انفصل عن مجتمعه فلم يعد يتعرف عليه، أما رجلي هذا فإنه حمل هم الوطن وما وعى وهو يغادره لا يلوي على شيء تاركاً قلبه يقوده وأحسب أنه قارب على الوصول / 300 ” . وبناءً عليه يتضح للقارئ كيف أن جوهر الصوفية يدعو إلى التجرد من المطالب الشخصية ونبذ الدعة والخمول في سبيل إعلاء الروح الإنسانية والثورة على شتى أنواع الجواذب الأرضية التي تحط من شأنها وهذه هي المبادئ الأولية للثورة في كل مكان أيّاً كان نوعها ؛ فالبطل الفينيق لم يكن شيخاً، وإنما كان صاحب قلم ثائر ورسالة ترك من أجلها فراش المرض وتعافى كي يعود إلى وطنه مقاتلاً على طريقته .

*فالاعتقاد أنّ الصوفية هي الانقطاع عن الدنيا اعتقاد خاطئ، وإنما هي التجرد من مطالب الذات الشخصية من أجل الذوبان في الكل واستبصار حقيقة واقع الإنسان بغية تغييره دون التعذّر بأعذار واهنة . ولعل أكثر ما يجسّد قضية ” وصول ” البطل الفينيق لمبتغاه كما ذكرت وُدّ، هو أحد الاقتباسات الميتانصية التي تكلمت عن طائر ” السيمُرغ ” الذي ذكره الشاعر الفارسي فريد الدين العطّار في ملحمته الشعرية ” منطق الطير ” . إن هذا الطائر يربط بين ملمحي الصوفية والأسطورية في آن واحد، فطائر السيمرغ طائر أسطوري يمثل إله الطيور الذي خرجت من ظله أشكال الطيور الأخرى، وهو يرمز لطريق السالكين من الصوفيين إلى طريق الله ويعرض للصعاب التي تواجه الطيور / الآدميين والأعذار التي يتحججون بها في طريقهم إلى عالم الروح بينما لم يفلح من أمة الطير سوى ثلاثين فقط من الوصول إلى آخر الطريق، فإن طريق الوصول جدّ طويل وشاق ومليء بالاختبارات التي تنقح وتمحص الصادقين من الأفاكين . وهكذا مكنت الصوفية شأنها شأن السريالية من الوصل بين العالم الجواني والبراني ؛ الجواني باستكناه خباياه النفسية واضطراباته وصراعاته الباطنية التي لا تنفك عن الواقع الخارجي المحيط، والبراني في استبصار حقيقة مجريات الأمور والسعي نحو تبديلها إلى الأفضل .

*

2- العالم العجائبي:

** يمتزج في رواية ” الفينيكس ” العالم الواقعي بالعجائبي – أحد الركائز الرئيسة في تيار الواقعية السحرية ؛ والعجائبية هي (شكل من أشكال القص، تعترض فيه الشخصيات، بقوانين جديدة، تعارض قوانين الواقع التجريبي)[12]، فتقدم بعداً دلاليّاً جديداً يتآزر مع الواقع (غير أنها تنضاف هنا وبصورة أساسية أيضاً إلى تفاصيل الواقع إذ يرسم القاص رسماً موغلاً في البساطة والألفة مما يزيد من حدة الاصطدام بالغريب والمستحيل الحدوث حين يجاوره ويتداخل فيه)[13] ؛ فيذكر الكاتب على سبيل المثال معلومات علمية عن المخ غاية في الدقة يعقبها برحلة البطل البرزخية العجائبية التي تأتي بدورها في سياق قصة واقعية لمعاناة أحد المثقفين ممكنة الحدوث كما أسلفنا بالذكر . فالبطل الفينيق يدخل في غيبوبة لم يستطع العلم تفسيرها وينتقل خلالها إلى عالم جديد، لا نستطيع القول أنه حلم لأنه ليس نقلاً لبواطن الذات أو استشرافاً لواقعة ستحدث ؛ وإنما هو انتقال روحاني إلى عالم برزخي بين الدنيا والآخرة، يقول البطل:” شعرت أنني بين فضائين، أحدهما كأنني عشته وآخر أعيشه الآن، والأكثر من ذلك أنني أراني أتواصل مع عالم خارجي بحواسي وعدة وجوه تطفو على حيز مرئي من خلف ضباب خفيف / 235 “، وهذا العالم تعبر عنه ودّ بقولها: ” تخوم الآخرة ” ويسميه البطل نفسه بـــ ” مدينة النفق ” التي يمتد السرد عنها عبر فصلي (الهوة – ولوج النفق) .

*

*يتبدّى للقارئ أن ” النفق ” كوحدة لغوية تحمل دلالات سيمائية تدور حول البينية بين بداية وغاية، كما أنه ليس عالماً حقيقياً يعيش فيه الإنسان بل هو منفصل تحت الأرض، يقول:” وجدتني من فوق سحابة في القطب الشمالي معلقة في سماء الرحمن، تنزلني كآخر حبة ثلج أنزلتها، منزلقاً إلى فوهة أرض تبتلعني كلقمة سائغة دفعة واحدة ./ 205 ” . يسيطر اللون الرمادي على المشهد والذي هو بصفته لونٍ بينيّ بين الأبيض والأسود يمثل أجواء هذا العالم الضبابي الغريب. تظهر في ذلك العالم متناقضات وفوضوية عمرانية وكلاب ذات أجنحة وأشباح وكائنات خرافية غريبة، يقول: ” على مدى البصر كان النفق يمتد أمامي، إلى ناحية اليمين كائنات شبه بشرية، بقامات طويلة ورؤوس بشعر كثيف وأعين حادة خضراء اللون وآذان متوسطة وأفواه بشفاه حمر بصفوف أسنان ناصعة البياض … ولم أر أي امرأة، وهو ما استغربت له ./ 207 “. لا يوجد في هذا العالم شيء مطلق وإنما كل ما فيه نسبي يتغير، فالرجال يختفون ويحل محلهم النساء العاريات في قصر الحاكم الطاغية الذي يستعبد شعبه ويحوله إلى أشباه بشر يستمتع بشذوذهم في سبيل الحفاظ على كرسيه.

*ومن هنا تتبدّى علاقة الصوفية بالعجائبية حول قضية النسبية، تقول ودّ: ” مع أن الأشياء ليست على ما تبدو عليه فأنت باسمك وصورتك لست أنت بل شيئاً مفترضاً ويمكن أن تكون محض كذبة فكل ما يمكن أن يعبر عنك لدى الآخر ليس كما تبدو له / 172 “، فكل ما في الكون صور متباينة من أصل مطلق . وإن كانت الصوفية في جوهرها هي الوصول إلى الثورة، فإن العجائبية قد جسّدت الواقع بشكله الغرائبي المشوّه الملامح، وهذا على حد قول ماركيز رائد الواقعية السحرية أنه لا يكتب شيئا منبت الصلة عن الواقع . فإن ما عاينه البطل في مدينة النفق هو الحياة البينية التي تعيشها المجتمعات العربية حالياً فهم أنصاف أحياء، يزجّ بهم في السجون وتقيّد أفكارهم وتقهر أحلامهم وتضيع حقوقهم أو ينفوا من البلاد ؛ فتتشوه أشكالهم وأرواحهم ورغائبهم ويصيرون وسيلة لإمتاع الطغاة بينما يرتع أصحاب النفوذ في كل مكان.

*

3 – الملمح الأسطوري:

لا تمثل الأسطورة إحدى مفردات التراث وإنما هي جزء لا ينفصم عن اللاوعي الجمعي لدى الشعوب، ومن ثمّ فهي (تراث اشتراك لا تراث حكر، فلا يوجد شعب يزعم أن التعبير الاستعاري عنده لا مثيل له لدى الشعوب الأخرى)[14]، بل إن الأساطير تنماز بعالميتها وتلاقحها فيما بين الشعوب نظراً للتشابه النسبي بين المجتمعات على الرغم من تباين الطباع والأمزجة . والأسطورة* (سرد قصصي مشوّه للأحداث التاريخية التي تعمد إليه المخيلة الشعبية، فتبتدع الحكايات الدينية والقومية والفلسفية لتثير بها انتباه الجمهور)[15] . تشكّل الأسطورة ركيزة رئيسة في تيار الواقعية السحرية ؛ إذ يمزج الكاتب بين الواقع والأسطورة ؛ فيقوم بخلخلة هيكل الأسطورة ليعيد ربطها بالواقع مما يفتح دلالات جديدة للأسطورة وهذا ما يكسبها تجدداً ويمنح العمل الإبداعي حياة وقوة مستمدّة من الأجواء الأسطورية. يظهر الملمح الأسطوري في استجلاب مشاهد تاريخية إلى الواقع، تقول راضية: ” عندما تذرع أحد الشوارع في ليبيا أو هنا في تونس أو تمضي إلى الجزائر ثم المغرب حيث آخر أعمدة هرقل العظيم … فإنك تمشي في شارع أرضه مشى عليها من قبلك أقوام عدة … حتى الأوربيون من إغريق ورومان وجرمان وإسبان وليست قرطاج بعيدة عن هنا، وصدى سنابك جواد حنا بعل تتردد مع تيار الهواء وأخيرا اتراك خطت أقدامهم هذا الشارع او ذاك / 63 “، فالتاريخ يخلل ويوضع جنباً إلى جنب مع الحاضر للوقوف على أوضاع الحاضر وحال التدهور والكساد التي صارت إليها البلاد بعد أن كانت أرضاً لأعظم الإمبراطوريات، فاستحضار التاريخ تقنية يعتمدها الكاتب لتقديم وحدة الوجود الذي تنتمي إليه الإنسانية بأسرها، وهو ما قالت عنه راضية ” الزريبة الإنسانية “.

يتضح الملمح الأسطوري في رواية ” الفينيكس ” منذ عتبة النص الأولى ” الفينيكس / الفينيق / العنقاء ” وهو ذلك الطائر الأسطوري الذي ذكره تفصيلاً في اقتباس فصل ” العنقاء ” . وتأتي استعانة الكاتب بالأسطورة من خلال إسقاط سمات هذا الطائر على أحد شخوص الرواية وهو البطل الذي كما تعارفنا على تسميته ” الرجل الفينيق “، بل وإعطاء أبعاد رمزية يستشفها القارئ عند انتهاءه من قراءة الرواية .وهكذا يلجأ الكاتب المعاصر إلى (الرمزية للتعبير عن الحالات النفسية المركبة العميقة .. وذلك بفضل الخيال الذي يستعين به لتصوير رؤى شعرية تعبر عن مكنونات النفس وخواطرها)[16] ووسيلة للبوح بالمسكوت عنه لاسيما في عصور الدكتاتورية والفساد التي تعاصرها مجتمعاتنا العربية . يلتجأ الكاتب إلى أسطرة البطل، فيجرده من الاسم ولم يحدد اسم موطنه، ويقرن صفاته بالفينيق ليصير رجلاً خارقا للعادة، تقول راضية: ” أ يمكن لهذا الصعلوك العربيد فاتن النساء بعسل كلامه، أن يكون في الحلم ناسكاً يغطي عرى الآخرين، أن يكون مفتتحاً لبرق يلمع حتى في وضح النهار وعند الليل البهيم يشق الظلمة بألف قمر وقمر حتى يغشى العيون فلا تراه / 69 ” فهو يهب الآخرين الحياة الحقيقية ويبصرهم بذواتهم ويشبع احتياجاتهم، كما أنه في كل مرة يكون فيها محاصراً من الموت، يفلت منه بأعجوبة، تقول ودّ: ” رجلي هذا كطائر الفينيق تماماً فأكثر من مرة يسحبه الموت إليه، ويلامس تخوم الآخرة، لكنه يعود به إلى حيث المكان الذي اختطفه فيه … ليس ترك الموت له يُعدّ ” فينيق ” بل قدرته على تحويل الخسارة إلى مكسب والقهر إلى كبرياء، والفشل إلى نجاح، وعلى أية حال فهو يمارس العودة من ثانية / 268″ أو أن الموت يكتفي فقط بمجرد زيارته وهكذا تضيف أعماله ومواقفه إلى عمره الزمني فكأنه يعيش ألف عام.

إن رحيل البطل عن موطنه ثم وقوعه في الغيبوبة ومن ثمّ عودته مجدداً للحياة* وقراره بالعودة إلى الوطن تتماهى مع أسطورة الفينيق ومراحل حياة الطائر الخارق ؛ ففي الاقتباس الذي يضعه الكاتب في مقدمة فصل العنقاء، يقول: ” وبعد ألف عام، أرادت العنقاء أن تولد ثانية، فتركت موطنها وسعت صوب هذا العالم واتجهت إلى فينيقيا واختارت نخلة شاهقة العلو لها قمة تصل إلى السماء وبنت لها عشاً . بعد ذلك تموت في النار، ومن رمادها يخرج مخلوق جديد .. دودة لها لون كاللبن تتحول إلى شرنقة، وتخرج من هذه الشرنقة عنقاء جديدة تطير عائدة إلى موطنها الأصلي /* 259″، فالكاتب لم يضع اقتباسات ميتانصية اعتباطيّاً وإنما كان توظيفها مناسب تماماً للنص وللفكرة الرئيسة فيه . فقد غدا (الرمز طريقة تعبيرية لا يستغنى عنها […] – والرمز هو الإيحاء – هو وسيلة للتعبير عن زوايا غامضة في النفس لا تقوى لغتنا أن تعرب عنها – هو صلة بين الذات والأشياء بحيث تتولد عن طريق الإثارة النفسية لا عن طريق التسمية والتصريح)[17] ؛ فالعنقاء رمز للحياة المتجددة، والبعث من الرماد، لذا فلم يكن عبثاً أن يأتي عدد فصول الرواية (تسعة فصول) وهذا الرقم في حدّ ذاته رمز للولادة والحياة الجديدة . وهذا ما ينطبق على البطل الفينيق الذي كانت حياته إحياءً لغيره وحتى غيبوبته البرزخية كانت تغييراً لحياة نسائه، وهنا تكمن الروعة إذ لا شيء عند المرأة أشد وطأة من شعورها أنها ليست الوحيدة في حياة رجلها وأن لديها ضرات، لذا فالكاتب وفق في اعتماد المرأة لتكون محور السرد الروائي في النص ؛ ومن ثمّ يدخل إلى خبايا مشاعرها لمعاينة كيف استطاع هذا الرجل تغيير نفسية وطبيعة المرأة الفطرية . كما يقف البطل الفينيق معادلاً موضوعياً للثورة وكيفية ظهورها ونباتها من الرماد وكيف تشتعل من الرماد بعد عدّ همم شعوبها في عداد الأموات ولكنها تنبت من جديد متحدية الموت الذي فرض عليها من قبل حكامها، فتشتعل نارها في الرماد لتؤذن بولادة حياة جديدة.

*

4- الحياة البينية:

يكثر في طيات النص الحديث عن البينية وكل ما يشبه المحطات، فالنص حافل بالترحال والسفر والتنقل بين المنفى والوطن وانعدام الاستقرار على صعيد حيوات شخوص النص. وقد أفاد مجدداً الكاتب من نوع الرواية البوليفونية التي تتسم بكرنفالية الفضاء ؛ فـــــــ(يمثل الفضاء ” الزمكاني ” للرواية فضاءً للصدامات والأزمات، ويتسم بالكرنفالية والتعددية حد التناقض، فتتنوع الأمكنة وتتحول إلي أماكن معادية تثير الاشمئزاز والقلق والموت، بينما يكون الزمن مهدمّاً مفككاً )[18] فالزمن واقع في النسبية فالرجل الفينيق تمثل سنوات عمره ما يعادل ألف عام، ولكن الاعتماد على المكان الروائي هو أكثر ما يحتفي به الكاتب باعتبار الرواية تقع ضمن الواقعية السحرية.

فالشارع مكان بيني بين رصيفين، تقول راضية: ” الشارع في أي مكان عبارة عن فضاء محصور بين صفين من المباني […] فالجميع لديه مارة يعبرون عليه أو يذرعون مسافته وهم يفكرون في شيء ما / 62 “، يتسم بالتعددية والمرور وتباين الأجناس والأقوام . وحتى المطعم يتسم باللا انتماء بل ويتحول إلى مكان مثير للقلق والترقب، تقول سارة:” كل من في المطعم جاء هارباً من أو فاراً إلى هنا حيث يجالس أحدنا وحدته مثلما أفعل الآن / 101 “، وكذلك الحياة البينية التي يخبرها البطل عند مروره بمدينة النفق ووقوفه في مرحلة بينية بين الموت والحياة . إن قضية الحياة البينية التي لا تجد الروح مستقراً فيها وتظل هائمة مترددة في الفضاءات بلا غاية أشبه بحياة الزومبي أو حياة أشباه الأحياء / الأموات التي يعيشها الإنسان العربي حالياً، فهو حيّ ولكن بلا حرية ولا حقوق ويعامل مهملاً كالميت . وقد تجسّدت تلك الفكرة عبر الفضاء الكرنفالي المليء بالمتناقضات لاسيما في عالم النفق العجائبي كما أسلفنا . فيطرح الكاتب قضية الوطن وحضنه الدافئ الباعث للأمان والاستقرار، فقد ظلت الشخوص على مدى الرواية بما يصورون مدى القلق النفسي الحاصل لهم بسبب الابتعاد عن الوطن حتى وإن وجدوا المعاملة الإنسانية والكرامة في المنفى، ومن ثمّ تلح الفكرة على القارئ، هل الوطن هو الذي يعطي الكرامة والحقوق للإنسان وإن كانت في بلاد الغربة أم أنه الأرض التي نبت فيها وعليه أن يتحمله ويبذل حياته فداءً لتخليصه من براثن الفساد .

*

خاتمة:

إن رواية ” الفينيكس ” رواية تنتمي إلى تيار الواقعية السحرية ليس لكونها تتسم بملامح سحرية فانتازية وإنما لتعانق ثلاثة جوانب ترسم ملامح هذا التيار وهم: السريالية والعجائبية والأسطورية . وقد نجح الكاتب في نقل هذه الملامح باستفاضة مستعيناً بجنس الرواية البوليفونية التي كانت أداة طيّعة في يده تمكنه من ارتياد فضاءات الواقعية السحرية المتباينة ؛ حتى أنه عند نهاية الرواية تتبدّى إمكانية الكاتب في التحكم بالخط الروائي على الرغم من ظهور قصة كل راوية كأنها قصة قائمة بذاتها لها استرجاعاتها وتشعباتها الخاصة . وهكذا فإنّ رواية ” الفينيكس ” تتماس مع الواقع وتنقله إلى القارئ بمرارته أحياناً وبمتناقضاته التي تصل حدّ العجائبية ليوصّل الكاتب إلى القارئ رسالة جليلة تتمثل في كيف تُولد الحياة من رحم الموت وتتأجج الثورة في الرماد وتحدث المعجزة نبذاً لحياة بينية لا يرتضي عيشها إلا أصحاب الشذوذ أو الأموات .

مقالات ذات علاقة

عن رواية (إيشِّي) الاستاذة عائشة الأصفر

عبدالحكيم المالكي

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (9) .. فاعلية بناء الإيقاع المعنوي

المشرف العام

الرمزية السحرية ترسم هوية الكائن والكيان في رواية (الكلب الذهبي)

أحمد الغماري

اترك تعليق