تجارب

الهروب للثمانينات.. الطريق المخاطر نحو السندباد

الشمعدان

لم يكن بالطريق الجديدة؛ شارع الجمهورية، و17 فبراير فيما بعد، أي محل، فالتجارة ممنوعه طوال عقد الثمانينات من القرن الماضي، فقط كانت بالطريق بعض محلات للتصوير الفوتوغرافي وتصوير المستندات، وأغلب أصحابها أناس طيبين، وعشرتهم بالجيران غاية في النبل، مع ذلك فقد كانوا (بوليس قديم)، الكل كان يعلم ذلك!!، فغالبية التراخيص الممنوحة لهم هي لرجال أمن، فإن تملك آلة طابعة للكتابة فقط، بثمانينات القرن الماضي وبليبيا، كان لوحده أمر يستحق السجن، فما بالك بمحل للتصوير، يحوي على طابعة مستندات. لكن رغم كل هذا كانت الأمور هادئة جداً، بل ولحد الضجر والملل في أغلب الأيام.
لذا كنا نفر بطفولتنا من زقاق بيوتنا للطريق العام. كنا ثلاثة ولتونا تجاوزنا سن الثالثة عشر، وكان لنا بسحر طفولتنا تلك، كل يوم شقاوة جديدة. أما الموعد فكان أن نستقر بعد الظهيرة في آخر الزقاق، وتحديداً عند تلاقيه بالطريق الرئيسي لنجلس على ركابة* بمواجهة الطريق الجديدة، الأمر ذاته نكرره قبل المساء، وبنفس التفاصيل والمواعيد، بغير ملل ولا كلل، فالأمر يقع تحت خانة اللعب، ولأنه لا يوجد قنوات فضائية في تلك الفترة من عمر الزمن، فقد كنا ملزمين بمتابعة ما تبثه القناة الأرضية الوحيدة، والتي كانت الرسمية أيضاً، فكان موعدنا مع شقاوة ما بعد الظهيرة، يأتي كسراً للوقت حتى يحين موعد بث حلقة جديدة من رائعة (السندباد)، ذاك القادم من بغداد ليزور الليبيين كل غروب، وبتوقيت واحد ويجمعهم جميعاً، كبارهم وصغارهم حول شاشة التلفزيون.
وحتى يحين ذلك الموعد؛ كنّا نجلس على تلك (الركابة)، وكلاً منّا يحمل قطعة من البسكويت الأشهر والأوحد حينها، الـــ(شمعدان)، كانت لحظات انتظارنا تلك فسحة للعب والمغامرة والمراقبة أيضاً، فنبدأ جلستنا بلعبة عدّ السيارات:

– داتسون، هوندا، ميتشي بيشي.

كانت هذه السيارات الأكثر حضوراً في ذاك الزمن، يختار كلاً منّا سيارته، و يبدا العد ويحتدم اللعب لدرجة أن أعناقنا تتعب من فرط تماهينا بالعد، كنّا كالهائمين (جدباً) بحضرة (عروسية)، فنحركها يمينا وشمالا كــ(زنبريك) ساعة صينية بحثاً عن هذه الاختيارات، كان لعبنا يحتاج للبحث والتدقيق في كل أنواع السيارات المارة والمتعددة الأسماء والاشكال والألوان.

(هوندا ميتشي داتسون)، هكذا كنا نردد همساً ثم فحيحاً ثم صراخاً، كنا فعلاً كالهائمين خلف إيقاعات حضرة (عروسية).

ويستمر لعبنا تصاعدي الوتيرة، حتى قدوم اللحظة المنتظرة، لحظة تطل علينا تلك البهية عروس لعبتنا التالية، بهامتها العالية وعجلاتها الثمان، شاحنة إيطالية كانت ملكة الطريق بذاك الزمن، وكان اللون الرمادي هو ما يميزها عن غيرها، كان اسمها عبارة عن منطوق ركيك لرقم ايطالي تعودنا كالليبيين على نطقه بـ(أوطانطا )، مزهوة بنفسها لكمال حضورها، خاصة وإن كانت قادمة من الاتجاه المعاكس للطريق المحاذي لركابتنا حيث نجلس، فالأمر لا يضر اللعبة بل كان على العكس تماماً، فهو يجعلها أكثر متعة بالتالي أكثر حماسة وإثارة من قدومها المباشر باتجاهنا، والذي يجعل من أرضية اللعبة واحدة غير متعددة، (لأننا كنا حينها سنلعب على طريق أحادي الاتجاه)، كان الأمر أكثر أماناً، لكنه بالمقابل كان أقل إثارة، وبالنتيجة تكون اللعبة مضجرة ومبددة لكل الوقت والترتيب الذي قضيناه بانتظار طلتها وقدومها.

في ذلك اليوم جاءت كما تمنينا، قادمة نحو ملعبنا من الاتجاه المطلوب، وكنا نستمر في جلوسنا حتى تغادر شارة المرور المقابلة لمسجد (مولاي محمد)، كانت ستأخذ طريقها نحونا لتنطلق بعدنا عبر جزيرة (أبو هريدة) القديمة، وتستدير باتجاه طريق المطار القديم، وقبل وصولها لتلك اللفة كان موعدنا معها.

رويداً، روايداً؛ أخدت تتقدم صوبنا يسبقها هديرها بالوصول، كان الوضع يزداد إثارة، فلونها المتعدد في درجات الرمادي يكاد يتوحد مع لون الطريق وقرب موعد الغروب،
وللحظة وصولها نكون في قمة الجاهزية، يزداد ضغط أصابعنا على قطع (الشمعدان) بأيدينا، وحين تقترب أاكثر لمواجهتنا نكون قد استنفدنا لحظات (صبرنا واستعدادنا)، فنغادر رتابة جلستنا على تلك (الركابة)، ونتجاوزها متجهين صوبها، عدداً من السيارات (لا يهم حينها ما هو نوعها فلقد تجازنا لعبة التسخين)، لنقف بوسط الطريق، حينها، يكون العد التنازلي لبدء اللعبة الأخطر قد انطلق.

في تلك اللحظة يصل ضجيج محركها لقمته، أما نحن فيغشانا سكون الريح قبل الإعصار.
نلتفت لبعضنا البعض وكأننا نعد بعضنا كي لا نتوه، ثم إن في الأمر مخاطرة، فنحن على موعد للقاء آخر خلف مرورها، كذلك يطمئن كل منّا على قطعة البسكويت بيده ومكانها الصحيح بين أصابعه، وأخيراً نتبادل غمزة المرور، ونندفع معاً في رمية واحدة كلا بالاتجاه الذي خططه ورسمه لنفسه، فمن يمر أمامها فتكون العجلة الأمامية من نصيبه، بالتالي الحس الاكثر بالمغامرة ومن يمرا من خلفها، فيكون نصيبهما أحد العجلتين الأربع المزدوجتين بالخلف، بالتالي علبتا الشمعدان الأكثر طحناً، وبنسبة طراوة الأكثر حلاوة.

ومع أن انطلاقنا موحد، إلا أن لكلا منا طريقته، وطريقة رميه للعلبة تحت عجلته، ونصيح معاً لحظة ارتمائنا نحوها باسمها ذاك الزمن (أوطانطا)، وكأنها صافرة حرب، ونتأكد من سلامة وصولنا حين نسمع كيف تتوحد نهاية صرخاتنا الموحدة، حينها نستعيد أنفاسنا ونظراتنا وثقتنا بأنفسنا، والتي انطلقنا بها، بعد أن يجتازنا هدير محركها نكون على الجانب الآمن من الطريق، حينها يتوقف انزلاقنا و بحرص خوف الوقوع في الهوة الكبيرة التي تبعد أشبار عن مكان مرور العجلات، تلك الهوة السحيقة تردد حينها إنه سيقام عليها أحد المؤسسات المصرفية، وانتهى بها الحال للمبنى المعدني، للمؤسسة العامة للصحافة المحترق والأيل للصيانة حالياً

بعد نجاتنا من كل هذا، نثب واقفين فالوقت قصير، لنكمل المهمة ونلتقط علب الشمعدان المتناثرة على الاسفلت قبل أن تبعثرها بعيداً عن أماكن وقوفنا عجلات السيارات الصغيرة.

آخر لعبنا يكون أسهل، وعبارة عن استرداد بعض الأنفاس، فنلتقط علبنا بثقة، لنعود بعدها لطفولتنا، لكن بصدور طواويس، فقد حزنا السبق، بل حزنا الدنيا كلها بمغامرة النجاة من عجلات الشاحنة.

نعود وبأيدينا ثلاث علب بسكويت أعدنا تدوير صناعتها وحلاوتها بفرمها، وبإطارات عربة بالطريق. وأيضا نعود وقد اقترب موعد ما كل عبثنا وطيشنا كان في سبيل انتظاره مسلسل (السندباد). في زمننا ذاك، يتأخر الجميع إلا على موعد بث حلقة من مسلسل السندباد.

حين ندخل لـزقاقنا (زنقة الشيخة راضية)، ندخلها قفزاً نأخذ الخطوة بثلاث، وفي قفزة موحدة نعيد تبادل النظرات، ونفتح العلب في توقيت واحد، وبعد أن نعد لرقم (3) تكون محتويات البسكويت قد اجتازت أعناقنا لمستقر لها بأجسادنا وبنجاح منقطع النظير، حينها نكون قد وصلنا لنهاية يوم من اللعب والعبث، وبطريقتنا فقد اجتزنا عجلات شاحنة، واجتزنا ملل الانتظار بعد كل العربات التي اجتازت الطريق الجديدة (شارع الجمهورية، لاحقاً)، بل وصلنا في نهاية الأمر للقضاء على انتظار يوم كامل، يبدأ من قبل الذهاب للمدرسة فقط لنصل لنتيجة واحدة، هي لحظة النصر والمكسب وكسب الرهان، فوصولنا عادة ما يكون على تمام موعد سلسلة (السندباد).

و(من الأخير)، إنها مشيئة الله (ع راي علاء الدين)، وهي (كساحة راس)، بمقياس طيش (علي بابا) لكن ما فعلناه لاوجود له بأحداث المسلسل، بل هو هامش له، نرتكبه ونعيد مشاهده كـ(كومبارس)، كل يوم ليصل لقمته ونحن نمر كانتحاريين تحت عجلات شاحنة (فقط)، لنطحن علبة من بسكويت (الشمعدان)، لا لشيء إلا لكسر رتابة الانتظار وملل النهار، ولكي يمر الوقت سريعا لينتهي لساعة زمن نقضيها امام تلفاز لنشاهد حلقة من رائعة (السندباد).

لا تستغرب (أيها القاري)، فنحن ليبيون، وكنا حين الحكاية نقع حسب التوقيت المحلي لعقد الثمانينات.

 

مقالات ذات علاقة

والمغرب مرة اخرى (2)

سالم الكبتي

ذكرى صغيرة وعهد كبير..

عبدالله الغزال

الغرفة الرابعة بالقسم الرابع

منصور أبوشناف

اترك تعليق