النقد

المقهور.. انعطاف في كتابة فن القصة القصيرة

القاص كامل المقهور.
القاص كامل المقهور.


بقدر ما تعكس قصص الأديب كامل المقهور (1935- 2002) روح واقعها وتلامس فيه مواضع القلق، نجد أن تلك الأعمال قد شكلت انعطافًا في كتابة فن القصة القصيرة، بمقاربتها الأنماط السردية الحديثة، من حيث الفكرة والقالب الفني، ابتداء من مجموعته الأولى «14قصة من مدينتي» العام 1965 إلى «حكايات من المدينة البيضاء» العام 1997.

صيغ أدب المقهور على وقع محطتين، الأولى بطرابلس حيث المولد والنشأة، الثانية هي القاهرة موطن الدراسة والعلم الذي مثل له رحلة البحث عن الذات، وظلت المدينتان في وعي الكاتب نافذتين في نافذة أو مسارين في مسار، نضجت بينهما نماذجه القصصية وأسلوب الكتابة عنها.

فكما ساهمت القاهرة في تشكيل ذائقته الإبداعية، وتعرف من ذلك على نتاج كتاب كبار كتوفيق الحكيم، طه حسين، الزيات، المنفلوطي، وبعض الأعمال المترجمة من الأدب العالمي، حاول إعادة إسقاط كل ذلك تخيليًا على بيئته، حيث تتحول أم حسين إلى حليمة ويصبح أبو محمود هو الحاج محمد، ويتصور ما يحدث في شوارع القاهرة على أنه يجري في أزقة المدينة القديمة أو «زنقة المحلة»، فالقاهرة بالصورة المتخيلة هي طرابلس.

إن القوالب التي يرسمها المقهور في صوره حافلة بالسلوكيات والأفكار التي يدينها المجتمع، وقد يمارسها في آن واحد ما يعكس استحكام ظروف معينة تولدت منها أنساق ثقافية شكلت روح السلوك العام للفرد، وبالتالي فإن شخوص المقهور تظل منشغلة بالهروب من واقعها، لكنها تتشابك معه في النهاية كمحاولة للبحث عن مخرج.

إضافة إلى أن شخوصه متحررة من رقابة الراوي لها فضولها الخاص في استيعاب كنه العناصر المشكلة لأي حدث، وتتجه للإجابة عن السؤال الظرفي المتعلق بالحالة أيًا كانت خلفياتها ودوافعها، وبذا فالنهايات جاءت كنتيجة منطقية لطبيعة الشخصية والموقف، ففي مجموعته  القصصية «الأمس المشنوق» الصادرة العام 1968 كان مصير عمار في قصة «عمار اللي شدوه» السجن لأنه أراد معرفة السبب الذي قاد الرقابة لمنع بيع الجرائد، وهو ما لا تسمح به سلطة الأمر الواقع ومع أن بيع الصحف هو مصدر رزق منصور صديق عمار، إلا أنه شعر في لحظة ما أن مسؤوليته تجاوزت شؤونه الصغرى إلى آفاق أبعد،  وأن «هناك أمانة ملقاة على عاتقه تجاه الناس، تلك اللحظة أنسته فضول مراقبة جوليا المرأة الإيطالية المقيمة بالحي، فرأسه الصغير بدأ يتسع لأشياء أكبر من قصتها آخر الليل وهي تقفل الشباك خلف زائر غريب» ص36.

ولربما أمن الدخول في سلك البوليس فرصة لأبو بكر للهروب من غول الفقر، غير أن ذلك وضعه في صراع بين أن يكون مع أهله أو ضدهم، وهو في النهاية «لا يحب هذا المشروع ولا أصحابه ولا ضباط حمر الوجوه الذين يخنقون أنفاسهم» ص128، كانت أمامه  مرايا محدبة زائفة الأبعاد ولم يكن بحاجة إلا إلى مرآة ينظر من خلالها لذاته وتنتشله من الضياع، وتجسدت أمامه عندما شاهد أهل محلته وأصدقاءه،  وشعر «أن عيونهم تلهب بذلته الصفراء وتخترق جسده»ص131، في مظاهرة ضد مشروع «بيفن  سفورزا» وتوجهت عصا أبو بكر في ذروة الاحتدام إلى الضابط الإنجليزي،  كانتصار على سحر المرايا المزيفة، في منعطف مثلت فيه لحظة الوعي، الزمن الحرج  لتهشيم  تحدبها المراوغ وصولًا للرؤية  العميقة.

وفي صور أخرى يفرض القهر الاجتماعي طوقه الخانق، بحيث لا يجد أبطاله بدًا من الرضوخ له، ففي قصة «الكرة» تمارس الأم البغاء للحصول على المال، وتتجلى المأساة عندما يسألها الابن «شن تخدمي يام» فتجيب بحزن «خدمة تجيب الفلوس، ياسر من أيام الهم» ص155، أو يصبح حلم البطل في قصة «بوخة» هو الحصول على ورقة للعمل في الميناء، وينتهي يومه بدفن بؤسه في الحانة التي أدمن عالمها، وتبدو الشخوص هنا حتى وهي تستسلم لقدرها تنتظر لشيء ما يلوح  في الافق البعيد.

بعد مرور ثلاثة عقود تصدر المجموعة القصصية «حكايات من المدينة البيضاء»، وإن ظلت الصور والأفكار والبيئة والشخوص منتمية إلى ذات العالم، إلا أن قدرتها على التمييز أو اتخاذ القرار تراجعت لحساب القلق الذي جعلها بعيدة عن فعل المواجهة، وظلت مسكونة بالتذكر، والبطل الذي يتناوب بين الراوي والأنا، يكتفي بتوصيف الحالة ولا يتجه إلى فهم محيطه.

إضافة الى أن مصير الأبطال في «المدينة البيضاء» الاختفاء أو الموت أو الانتظار الذي لا معنى له، اختفاء رباح وانتظار مصطفى، وموت الحاج الشريف الذي لم يحتمل صدمة بيع السانية للبلدية.

هذا الاختلاف في سلوك الشخصيات وردود أفعالها بين «الأمس المشنوق» و«حكايات من المدينة البيضاء» ربما يحيلنا لواقع زمن الكتابة في المجموعتين والذي مكن لشخوص الأمس المشنوق من التساؤل والاستعداد لتحمل الضريبة بينما عجزت في المدينة البيضاء، ولجأت للهروب والاختفاء.

إن الصورة الفنية في نتاج كامل المقهور تتجاوز اللغة السردية وتأتي لاحقة مقابل الفكرة، كما أنها تدشن لنثر المدينة بطقوسه وشخوصه ومناخه العام، وما يربط نماذجه هو بساطتها وتقارب مستواها المعيشي «الطالب المدرس، الجندي، البحار، بائع الخضار، الحائك، وحتى المتسكع»، تمارس حياتها بلا تكلف، ولا تقوم بوظائف ليست من طبيعتها وهي واقعية على النحو الذي لا يبحث فيه عن دور خارج حدود تأثيرها.

والسؤال هل لهذه الواقعية ارتداد زمني طبع به أدب تلك المرحلة من خمسينيات القرن الماضي، وأصبحت جزءًا من تكوينها؟ تقودنا الإجابة إلى أنه ربما اختارت هذه النماذج طريقها بالأسلوب الذي يمكنها من العبور بين اتجاهين، فهي لا تعتمد النفس البرجوازي، وليس مرتمية بالكامل في أحضان ما عرف بالواقعية الاشتراكية، إنها واقعية تروم لكشف المرايا المزيفة وكسر بريقها الخادع  في لحظة فارقة.

مقالات ذات علاقة

ما الذي يميز رواية “إيشي” لعائشة الأصفر؟

المشرف العام

المحروق المنسي في جوف الطين !

أحمد الفيتوري

الشعـرُ والمنطق

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق