طيوب البراح

المطارق النحاسية..

عادل موسى

من أعمال الفنان المصور أحمد السيفاو


لا تكاد تدري هل البحر يعشق المدينة النائمة على شواطئه ورماله ام المدينة تتباهى ببحرها وهوائها وناسها.

منذ أن أبْصَرتْ عيناي الدنيا في أحد أزقة المدينة القديمة وقبل أن أبدأ مرحلة الادراك كنت أظن أن البيوت الملاصقة لنا ما هي الا امتداداً طبيعياً لبيتنا، وإن الكون ينتهي عند آخر بيت في شارعنا، فقد كنت اعتقد أن شارعنا هو نهاية الكون، وأن ما بعده مجرد فراغ ولا شيء.

تسمح لي أمي أحياناً ان أطل برأسي خارج البيت، وأحيانا يقف اخي بي امام الباب اراقب حركة الناس، وبدأت أتساءل أين يذهب يا ترى هؤلاء الناس ويختفون وراء آخر بيت؟ ماذا يوجد يا ترى؟

كان عمري وقتها لا يتجاوز السنتين والنصف او الثلاث سنوات على أقصى تقدير، يوم أخدتني أمي وهي تلتحف رداءً أبيضاً، تظهر من خلاله عيناً واحدةً تبصر بها الطريق، كطريقة كل النساء عند خروجهن. أخذتني من يدي وانطلقت مسرعة وأنا ابدّل خطواتي بسرعة حتى تتناسب سرعتي مع سرعة خطواتها، بدأت البيوت والنوافذ تمر بجانبي مسرعة حتى وصلنا آخر بيت في شارعنا فانعطفت أمي يساراً، فانعطفت معها وانا انظر بدهشة.. يا إلهي هناك بيوتاً اخرى غير بيوت شارعنا وهناك نوافذ كثيرة وأبواب خشبية مثبتٌ عليها كتل نحاسية تشبه اليد الصغيرة وهي التي حركتها أمي عندما توقفت أمام أحد الابواب لتحدث بها صوتاً متكرراً يتردد صداه وراء الباب (طق طق طق) ثم سمعت صوتاً قادماً من الداخل يقول: “هيا هي.. جاية جاية “….

كنت مندهشاً لهذا الاكتشاف وارفع رأسي عالياً لأتبيّن هذا الشيء الذي يحدث صوت الطرق المتكرر، ويبدو أن أمي لاحظت ذلك فانحت ورفعتني فأمسكت بتلك اليد النحاسية الصغيرة وحركتها كما فعلت امي، إلا أن الصوت جاء أضعف وبسرعة ابطأ (تك تك).

فتحت الباب سيدة، تبادلت مع أمي القبلات وحديثاً لم أفهمه ثم دَخَلَتْ وعادت وناولتني قطعة صغيرة حُلوةُ المذاق لا اذكر طبيعتها اعتقد انها بسكويتاً او كعكاً حُلواً.. أذكر أن تلك السيدة كانت تملك وجهاً طيباً وابتسامة دافئة ورائحة عطر جميل، أكاد أذكره حتى هذه اللحظات، والذي ملاء أنفي الصغير يومها عندما ضمتني اليها وقبلتني في خدي وانا ممسكاً بتلك القطعة الحُلوة حتى لا تسقط مني، ثم عدنا انا وامي الى البيت.

اكتشفت إن شارعنا ليس نهاية الكون وإن هناك بيوتاً أخرى بها نوافذ وابواب بها مطارق نحاسية تختلف عن المطرقة المثبتة على باب بيتنا، وأن باب بيتنا يختلف لونه على باب تلك السيدة الطيبة التي اعطتني شيئاً حلو المذاق، والتي يفوح منها عطراً جميلاً.. استنتجت بعد ذلك أين يذهب الناس عندما ينعطفون بعد نهاية بيوت شارعنا، إنهم لا يختفون في الفراغ، إنهم يذهبون ويطرقون باب السيدة الطيبة لتعطيهم بسكويتاً أو كعكاً حلواً ويعودن لبيوتهم.. فرحت بهذه المعرفة الجديدة.

كَبُرت قليلاً فخرجت مع أبي ذات صباح أركض بجواره وممسكاً بسبابته وأبدّل خطواتي بسرعة، فنظر ناحيتي ثم رفعني ووضعني على كتفيه واضعاً رقبته من الخلف بين ساقيّ ممسكاً برأسه منتشياً سعيداً بهذا الارتفاع الذي وصلت اليه فكل الناس أصبحوا أقصر مني، وصارت الأرض بعيدة عني وأنا أتحرك بلا أي مجهود واتهادى ارتفاعاً وانخفاضاً تزامناً مع خطوات أبي.. كل ما كان يضايقني هو الدخان المنبعث من فمه وهو ينفثه في الهواء، ولكنني لم أشاء أن أبيّن له انزعاجي حتى لا ينزلني وأفقد تلك المتعة وهذا العلو، وبالفعل ويبدوا أنه تفطن لذلك فأنهى سيجارته بسرعة ورماها ارضاً ودعسها بقدمه حتى انطفأت واستمر يمشي وأنا امتطي كتفيه بكل اعتزاز…

يبدو لي ان كل الناس تعرف أبي فكلهم يحيونه وبعضهم يقفون ويدردشون معه وآخرون يقرصون خدي ثم يقبّلون أصابعهم التي قرصتني وهم يبتسمون، وأنا أنظر اليهم بخجل فها أنا أمتطي ابي وكلني ثقة بأنه لن يدعهم يتمادون أكثر من مجرد قرص خدي بلطف، هكذا كنت أفكر!!

انتهت شوارع المدينة المتعرجة وخرجنا من زقاق تهب منه ريحاً قوية حتى رأيت شعر ابي يتطاير معه وكذلك أخد يعبث بخصلات شعري ويحدث ضجيجاً في اذنيّ، فأغمضت عيناي حتى انتهى ذلك الزقاق الذي يسمى بزنقة الريح التي عرفتها فيما بعد، وفجأة أبصرت كمية كبيرة جداً من المياه تنبسط أمامي ذات لون أزرق قاتم وتسبح فيه قوارب كثيرة.. يا الهي ما هذا؟!! فسألت أبي من فوق رأسه: ما هذا يا بابا؟ فقال لي: انه البحر..

البحر؟ لقد سمعت هذه الكلمة يرددها أخي الاكبر عندما يكون عائداً يحمل شورتاً مبللاً وشعراً أشعتاً مملحاً، وهو يجيب على تساؤلات أمي ومناشدتها بأن لا يتأخر مرة أخرى ولكنني لم اتوقع بأنه بهذه المساحة وهذا اللون.

وصلنا الى مراكب الصيادين المنتشرة بكثرة، فابتاع ابي منهم سمكاً كثيراً وعدنا الى البيت، وانا لا ازال ممتطيا كتفيه.

كبرت بعدها قليلاً وخرجت وحدي مع اقراني في الشارع لنلعب الكرة في الشوارع المجاورة، فرأيت احدى صديقات امي تطرق بيت تلك السيدة في احدى الايام، فخرجت تهرول مسرعة الى بيتنا يوم ان ولد اخي الصغير ففرحت بها وتركت الكرة وسبقتها الى البيت وفتحت لها الباب وقبلتني في خدي مرة اخرى، وانطلقت مسرعة الى الداخل ثم ما لبث ان انطلقت الزغاريد معلنة عن قدوم اخي الصغير. فعرفت ان تلك السيدة الطيبة ذات الرائحة الجميلة والتي اعطتني كعكاً حلوا ليست سوى القابلة التي تولّد الاطفال وتخرجهم من بطون امهاتهم المنتفخة، وكذلك كانت تعطي النصائح الطبية لسيدات، الحي وعرفت انها أم الجميع كما ينادونها.

تعرف هذه السيدة كل اطفال الحي وتناديهم بأسمائهم واحياناً بأسماء امهاتهم، والكثير منهم هي من اختارت لهم اسماءهم تقديراً لها ولمجهودها في إخراح الاطفال.

طلبت مني يوماً أن أوصل لها سفرة كعك مالح الى الكوشة ففرحت جداً، فتطوع صاحبي “سالم” ليضعها على رأسه فنهرته قائلة: لا لا يا سالم.. انت غير متزن وكثير الحركة دع عنك هذا، ويكفي انك اتعبت امك واتعبتني يوم مجيئك، وتريد ان تتعبني بأن تسقط الكعك من فوق رأسك؟ يكفي انك سلمت يومها فدع سفرتي تسلم اليوم من السقوط..

فضحك سالم وقبّل يدها فقبلت هي رأسه وضمته اليها ثم وضعت السفرة فوق رأسي وانطلقنا بها فسألتها هل ننتظرها حتى تجهز ونحضرها لكِ فقالت لا لا.. انتما فقط اوصلاها وسياتي بها عمك “العارف” وهو راجع من عمله..

عمي “العارف” هو زوجها صديق أبي الحميم له محلاً ينسج فيه الاردية النسائية “حوكي” جميل المعشر له حكايات مسلية وشخصية رائعة يحب الاطفال كثيراً ايضاً كزوجته ولكنه لا يتهاون مع من يدربهم على صنعة النول فهو كثير التعنيف وأحيانا الضرب على كل من لا يجده جاداً في التعليم، أمّا شخصيته خارج المحل فهو شخصاً آخراً كثير المزاح والضحك سريع البديهة يتحاشى اصحابه مضايقته لحدة لسانه وجاهزية الكلام في فمه.

أذكر انه رفض طلب أبي أن يقبل اخي في الفترة الصيفية ليدربه على النول حيث قال له: خلينا صحاب.. وخلي ولادك يحبوني هكي لاني زي ما تعرف واحد ثاني في الخدمة.

فقال له ابي: الولاد ولادك يا سي العارف.. انت الموس وحني اللحم.. اللحم ليك والعظام ليا.

فاصر عمي العارف على رأيه.

كَبرتُ اكثر ودخلت المدرسة وانتقلنا من بيتنا الى مكان بعيد نسبياً عن المدينة القديمة ولكننا لم ننس تلك الايام فقد كنا نزور بيت جدي كل اسبوع لنتنفس عبق التاريخ والذكريات ونتجول في مراتع الطفولة ومهد الصبى ونتنسم نسائم البحر ونمتع انظارنا بزرقته وامتداده وتداعب انوفنا رائحة السمك و الاكل المنبعثة من نوافذ البيوت ذات المطارق النحاسية حيث بيت تلك السيدة صاحبة الرائحة الجميلة ام الجميع التي كانت شاهدة على بداية الحياة في بيوت شارعنا الجميل الممتد الى نهاية الكون.

مقالات ذات علاقة

قيمة الحاضر

المشرف العام

لا أحد غيرك

المشرف العام

الولد الذي لم يسمع كلام أمه

المشرف العام

اترك تعليق