من أعمال التشكيلي الليبي .. الطاهر المغربي (السيدة والحمامة)
دراسات

المرأة فى البادية الليبية وأغنية العلم…نجوى بن شتوان

منذ القدم لم يكن تعليم المرأة فى ليبيا إيجابياً على الإطلاق، إذ أن الأمية كانت عادة سائدة ممجدة وتقليد غير مستنكر فيما يخص المرأة، بل أن من شذت من النساء عنها شذت عن المقبول المتعارف عليه، لكن الأمية التى تعنى عدم الإلمام بالفصحى قراءةً وكتابةًً، لم تقف حائلاً بين النساء ونظم الشعر، إذ لعبت اللهجة الدارجة كبديل، للدور الذى كان من الواجب أن يكون للغة الفصحى فى الحياة الشعرية للمرأة قبل انتشار التعليم، لهذا ليس من الممتنع تحرى الحقائق التاريخية والاجتماعية والثقافية للمجتمع الليبى فى الشعر الشعبى أكثر من الشعر الفصيح بشكل عام، ويبدو فعل ذلك أيسر فى نظم المرأة أكثر من نظم الرجل، إذ تلتصق التفاصيل الدقيقة بنظم المرأة أكثر من الرجل، لأن الشعر كان حدثاً يومياً ملتصقا بصغريات وكبريات الأمور، حد الإدمان على استخدامه فى مختلف الشؤون الحياتية، والإيمان به كرفيق وفى معالج، ومسكن نفسى قائم مقام الحب الراسخ، فهو بالنسبة لامرأة ما قبل التعليم موضوع بقاء وشغف وهاجس ومعين على الشدائد وملطف لقسوة الحياة حين تكب فيه آلامها ونجواها وسعادتها وأحزانها وشتى تقلباتها النفسية. وفى شعر “العلم” الليبى بشكل خاص حققت المرأة حضوراً ضخماً لم يكن بوسع الرجل الذى فرض عليها الأمية الأبجدية والتعبيرية أن يعتقلها دونه، بدليل أن ما أفرد لشعرها فى كتب تأريخ الشعر الشعبى “راجع مؤلفات أحمد النويرى على سبيل المثال” لم يفرد للمرأة فى ديوان العرب! وسطوة شعر المرأة العامى فى ليبيا”غناوة العلم” تجاوزت قهرها وقمعها، إلى أن رددها الرجال عنها، حتى باتت الناطق الرسمى عن الشخصية الليبية بكامل حالاتها، نظراً لسهولة إذاعتها وتفوقها فى التعبير الصائب عما تتطلبه دقائق المواضيع والأحداث مهما بلغت من التركيب والتعقيد، فهو نظم قد تعداها ليردد ويحفظ، لأن القول لا يعترف بجنس القائل متى أصاب الغاية المنشودة منه، حيث تصبح له سطوة العرف التعبيرى حر الانتشار غير المقيد.

ولما كانت المرأة والشعر رفيقين كان الأقرب إليها وكانت الأدنى منه، بالتالى كان شعر العلم هو النمط النهائى لتلك العلاقة، فسيطر النفس الأنثوى لتأتى قصيدة العلم بشكلها المعروف كثيرة الاختزالات مشحونة بالصدق مكثفة الصور معبرة غبير اصطناع. وفى تكوينها الفنى يقول د. خليفة التليسى ما معناه إنها قصيدة من قصائد البيت الواحد تشبه إلى حد بعيد قصيدة “الهايكو” اليابانية.

أما من حيث الشكل والمضمون فلها طبيعة مقاربة لطبيعة المرأة، وظروف ميلادها تتفق مع الظروف المحيطة بنسق حياة المرأة إلى الآن فى ليبيا أكثر من حياة الرجل. وهى قصيدة تعاملت معها وبها المرأة الليبية فى بيئة معينة من جغرافية ليبيا، وتميزت بها حتى صارت حكراً شعرياً عليها، بدليل محليتها العميقة وعدم شيوعها، فهى ليست مسبوقة ولا مفهومة خارج بيئتها الأم، بل وفى أنحاء من ليبيا نفسها! فى أغنية العلم رسائل وجد وشوق، برقيات خاطفة ومؤثرة كحرارة لجمر غير مرئي، إن حللتها أعطتك من المعانى ما تطنب اللغة فى تفسيره، إنها نقطة المطر التى تصنع السيل الجارف والشعلة المؤسسة لبركان.

رب سائل سأل لمَ هى قصيرة بالرغم من أن حياة البادية حين وحيث ولدت كانت واسعة والوقت مديد ولا عجلة على شيء ولا من شيء، وما من موانع تصرف عن النظم الطويل كما نلحظ فى مطولات وصف الإبل “البل” ووصف الخيل والصحراء والموت والحب بل ورحلة الغفران كذلك… وموضوع علاقة الوقت والرتابة بنظم الشعر موضوع آخر ليس هذا مقامه، يختلف عن موضوع نشأة “غناوة العلم” وتفسير قصرها وكثافتها. لأن “غناوة” أو قصيدة العلم ما كانت لتكون لو لم تصدر عن امرأة نسبة الحرية الممنوحة لها معدومة مقارنة بحرية الرجل، المالك والمعطى والمتصرف بقوة العرف، ولأن المجتمع القبلى فى ليبيا له أحكامه وخصوصيته فى التحوط على المرأة باعتبارها رمز شرفى مهم، تفسر هذه التحفظات مجيء أغنية العلم بهذا القصر المكثف، لأنها قصيدة تحينية محدودة الزمن، تحكمها مساحة الحرية المختلقة التى بثت فيها، سواءً كانت تلك المساحة مخصصة للرعى أو جلب الماء أو جمع الحطب أو الوقوف بتنور الخبز أو حلب الشياه أو قضاء الحاجات على اختلافها…

فهى فترات اختلست فيها المرأة فرصة اللقاء بمن تحب أو تبادلت الحديث مع من ودت أن توجد بينها وبينه صلة حب “غية فى الدارجة” أومن استغواها واستغوته، وتلك من الممنوعات التى يشجبها المجتمع ولا يرتضيها، لأن الحب فى ثقافة الأمس كان من الكبائر ومما يعيب ويعاب به لارتباطه بمفهوم الغواية فى الحياة اليومية لليبيين، بكلمات أخرى وكى لا نبتعد هى قصيدة سجنتها بيئتها، شابهت ظروف ميلادها ظروف نفق لابد أن يوجد فى قلب الكاترازا! يحدث فى البادية أن يمر الغرباء بالربوع والنجوع، ليلتقون الفتيات فى فترة تغيب فيها عين الرقيب أو تسهو أو تذهب لتفعل الشيء ذاته مع آخر!

فيحدث التقارب العاطفى والاستحسان للمرغوب الممنوع فيتم تعاطى الكلمات بسرعة وترسل الإشارات الرمزية لمعانى أكبر من حجم الكلمات يقوم الرجل -المتلقي– بتحليلها على مهل بعدما تكون قد وصلته وصارت عنده.

بذلك انتهت المرأة فى البادية الليبية إلى صناعة لونها وتصدير منتجها الشعرى من العاطفة إلى النواحى التى رحبت به وغنته.

فكان غناء العلم، الحل لمأزق الإفصاح فى زمن محدود، رسائل صوتية قصيرة سريعة، جامعة مانعة، سهلة الحمل، مليئة بالشحنات الروحية، توجز ما فى الباطن من اعتمالات، والأهم من ذلك أنه لا يمكن معرفة صاحبتها لتشريع نوع العقاب لها.

وقد تمثلت الحماية من ردة فعل المجتمع المشرع للأعراف والتقاليد فى ترك القول بلا قائل والقصيدة بلا مقدمة وعنوان وتوقيع. ثم كانت أنجع وسائل إذاعة تلك الرسائل الوجدانية، وسيلة ناسبت ظروف المكان والزمان، من سفح وجبل وواد، ألا وهى الطريقة التى غنتها بها حناجر الرعاة، طريقة لا يمكن صدها بحواجز صوتية أو ما شابه، فالاستماع يحتم لفت الانتباه لمصدر الصوت أولاً ثم التدقيق فى المعاني، كما يلحظ على من يغنيها وضع إصبعه فى الأذن لحفظ الوزن والموسيقى، والامتناع عن التعرض لمصادر التشويش المخلة بالإيقاع، بالإضافة لتغطية العينين بالكف مراعاةً للحياء، وخجلاً من بعض المعانى شديدة التصريح فيها، لاسيما إن غنى فى جمع من كبار السن، وكأن لغناوة العلم حياء أنثوى لكى يُجاد أداؤها ينبغى الدخول فى خصوصية وعزلة عن المحيطين.

ويتبع فى غناء العلم المواربة فى الأداء الصوتى حيث يبدأ من العجز وينتهى بالصدر، ليفرض على المستمع المتابعة حتى النهاية أو للتخلص من المجاهرة “أو ليست هذه مواصفات أغنية أنثوية وجلة؟!” فمن فهمها استمتع وله أن يمتع، ومن لم يفهمها عتقه عدم الفهم من فهم خاطئ يتبعه تداول يسيء للأغنية ولا يخدمها، فهى بالتالى فهم أو عدم فهم وما من وسط!

إن ديوان الشعر الشعبى حفظ قصائداً موغلة فى القدم بأسماء قائليها حتى تمكنت كلية الآداب بجامعة قار يونس فى العصر الحديث، من جمعها من صدور رواتها أو غيرهم وطباعتها فى مجلدات من منشوراتها.

فهذه القصائد التى قاومت الزمن وعاشت بأسماء أصحابها وأمكن تدوينها، تقابلها أغنية العلم المبنية أبدأ للمجهول فى مجتمع قادر على الحفظ ومقتدر عليه؟!

كما وُيغلبُ كونها قصائد نسوية التكوين والنشأة، أنها لا تلجأ لخدعة الأسماء المستعارة، تلك التى يسهل كشفها فى محيط بيئى محدود، ذاكرة أفراده كانت السجل المدنى للنفوس والأحساب والأنساب. بالتالى تركها دون استعارة أكثر حصانة ووقاية لشخص القائل. لكنها أغنية وهن وقوة، انكسار وتعالي، إذلال وتجبر، تكاد تقول اعرفونى ولا تتحروني، واعتقونى فى حناجركم عند كل حاجةٍ للقول. تكاد تقول ذلك فى صداها غير المسموع وغير المبحوث عنه أو فيه.

مقالات ذات علاقة

الدَّهْشَةُ الشِّعْرِيَّةُ في ديوان “أنا ليبيا”

جمعة الفاخري

الإطار الزماني والمكاني في القصة القصيرة

المشرف العام

الكتابة النقدية الساخرة في ليبيا منذ “أبوقشة” إلى “طرنيش”

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق