النقد

المحروق المنسي في جوف الطين !

(أتعلمون أن استخراج الراديوم وكتابة قصيدة سواء بسواء).. يفترض أن الشاعر اكتفى  بذلك، غير انه مثل معلم صبيان سرعان ما لزم نفسه بالشرح: (يكدح المرء سنة ليحصل على غرام واحد من المعدن، ومن أجل كلمة واحدة يقلب المرء ألف طن من معدن الكلام). كان هذا مفتاح الشاعر الفلسطيني “معين بسيسو” لدراسة الشعر الليبي في كتابه (عطر الأرض والناس في الشعر الليبي)، الذي نشره في الستينات عن دار نشر ليبية –دار الميدان– هذه الدار التي لم تنشر غير هذا الكتاب؛ الكتاب الذي أنكره “معين بسيسو” بعد ذلك وحتى يومنا هذا –وقد توفى منذ سنوات– وإن لم ينس هذا المفتاح الذي عاد وفتح به كتابا آخر عن ليبيا هو (كتاب الارض)!.

إنه كلام جميل على أي حال، ولابد لمن يقرا “سعيد المحروق” أن يكون مدخله للقراءة هذا التأكيد على إن البحث عن كلمة مثله مثل استخراج الراديوم، لأن سعيد المحروق الباحث عن قطرة ماء في عوسج الصحراء، الممحص الذي يتقلب كثيرا في صحراء الكلام لينحت  كلمة، الذي يقلب كل الأسفار ليستقر على اصطلاح، الذي تحرقه كل اللحظات ليمسك باللحظة، ولعل انشغال المحروق بمشكل اللغة بدأ، ثم الانشغال بالموروث الشفهي، ومن  ثم العناية المطردة بمشكل الزمن الحضاري؛ قد كان مرده هذا الإرهاق الذي يعانيه كابن لثقافة شفاهية المكونة لذاكرة حافظة واختزالية، ثم ثقافته المكتوبة بما تحمله من وهن  وعجز عن التحقق . وقد كتب مقالة نشرت في السبعينات بجريدة الأسبوع الثقافي بعنوان  ” اللحظة الحجرية ” تختزل مفهومه للزمن الحضاري باعتباره الزمن الذي يستمد زمنيته من الحجر؛ الحجر قادر على مصارعة الزمن المطلق وقادر أن يستمد منه شئ من رحيق الديمومة، وأن هذا الرحيق سيكون زاد لمن حفر واجتهد فكأن الزمن الحضاري مدسوس في غياهب الزمن وكأن لكل زمن حجر رشيد تستنطقه الحضارة الناهضة الغالبة. لهذا فإن جبرين حين كان دليل لوت مكتشف رسومات تاسيلي؛ كان دليل طريق يفتقد الطريقة ويفتقد معنى ما يدل عليه، حضارته الكامنة في الحجر ليست حضارته بل هي حضارة من  يستنطقها؛ فالوت هو من أنطق التمثال وان دل عليه جبرين، فإنه دل على أن هذه الأرض التي تمتد فيها جذوره، له من حيث الإقامة لا من حيث المعنى.

وحين جمع المحروق الخراريف أراد تثبيت الزمن، التدوين هنا ليس إحياء ولكن تشخيص يستدعى التأمل، فالخرافة الشفهية تكثيف للزمن والبنية السردية بنية الحياة القابلة للبقاء كما الحجر، فالروايات الشفهية روايات متجددة لحلاوة الروح التي تندس من لسان للسان ومن ذاكرة لذاكرة، وكل راوي مؤول وكل شغل أركيولوجى هو تأويل لتأويل كامن في الرواية ومن مخيلة الراوي الأخير، والمدون هو هذا الأخير. كأن المحروق محارب الزوال الذي ينهب لقمته من فم الذئب حيث زمن الشفاهي قد ولى وزمن التدوين محو لزمن الشفاه يجب ما قبله، لكن المحروق لم يسعفه الزمن ولم يتخذ من تدوين الخراف شغلا؛ لقد ضرب في كل فج وضربه كل فج عميق.

سعيد المحروق اللحظة الحجرية، الذي يقلب الحجر، حجر الصحراء كله ليحصل على وجه أكلته الشمس القائظة، امنا في ساعات غضبها التي لا حد لها في الصحراء الكبرى، صحارى ذواتنا.

سعيد المحروق يتقلب على لسعات حيات – حياة هذه الصحراء يمسك بحكاية صغيرة بددتها الشفوية، طارت من شفاه لم تسمعها أذن ولا عين رأت.

انه المستخرج لبواطن الكم، الكادح لسنوات ليحصل لنا– يحصل علينا – على (ال..) هاته الـ (ال) التي سقطت من لغة أجداده، هذه (ال..) التي تنكره هي (ال) التي تكتم أصواتنا. هذا الشفهي هو الشاعر الذي يبغض فصاحته وينحاز للسانه، فصاحته اللحن الذي لا يروم والقواعد التي أقعدته..

 قال: ” إن القول، أساسا، مكذوب “.

وقال: ” يستعصي عني تكييف الشفتين

ما بين

البين “.

وقال:

” الفتحة، مثلا، ترهقني

والضمة، والكسرة والتنوين “.

إن سعيد المحروق يحترق بتفاصيل الكلام، بكلام الكلام، بكلام ال … لهذا يبدو ضاجا في صمته، صاخبا في سكونه ويبدو شاعر الركن القصي، شاعر اللحظة الهاربة والوقت الهباء واللغة التي لا لغة لها، شاعر (بروست) الباحث عن الزمن الضائع، الزمن الذي لا  يعد بالآلف عام، شاعر اللحظة السرمدية، اللوحة التي تتقافز في مكانها في قلق صحارى تسيلى وقلق ثيران لوحاتها:

” فأنا أخشى أن ينصي الناس أفكر جديا

أو أعبس جديا

أو اضحك جديا

ويضايقني بقايا نعاس.

أو يفضحني

حب،

أو رعب أو

إحساس

الحاصل: اشى أن افرد عن قطعان الناس”.

وكان طرفة بن العبد قد افرد وصلب وهو الذي لم يقل بعد ما يرغب وما يجب أن يقال، وهو الذي جعل ناقته تخب في وجداننا القرون، القرون.. الحاصل ما لعلاقة ما بين الحاصل هذا والحكي الشعبي، أليست لازمة الحكاية الشعبية وخلاصة المحكي ؟.

بعد نشر ديوانه الأول (ال) والثاني (أشعار كاتمة) جمع سعيد المحروق حكايا شعبية   في كتاب ( أصوات منتصف الليل )، وقد اهتم بالأدب الشفهي لأنه شاعر يدرك أهمية هذا الأدب في تكوين تضاريس الذاكرة؛ ذاكرة الشاعر غير المثقوبة. ويمكن أن نتحسس   أن البنية الشعرية عند سعيد المحروق ترتكز على الشفهي، سوى كان ذلك في الصورة التي ترتسم حركة السرد الخفية، أو بالإيقاع الشعري في القصيدة الذي يجلجل بأصوات وإيقاعات الحكي، أوفي هذه الحوارية بين الذات والذات وبين الذات والآخر، والذات والأشياء،  والتي تجعل قصائده قصائد درامية؛ تستعير من الحكاية بنيتها وتتخذ السرد وسيلة للبوح. وان المحروق متململ من التقعيد الكامن في اللغة وفي بنية القصيدة العربية؛ حتى تبدو قصيدته نثرية رغم التفعيلة الظاهرة. ولا يهتم المحروق بقضية الحداثة الشعرية وقصيدة النثر إنما عمله المشغلي قائم في شكل آخر هو اللغة: ” عادة اللغات في الأزمنة الخوفية ؟ “.

ولعل وراء هذا المشكل تيه المحروق الذي هو ” الثور المنسي في جوف الطين “.

وقد يأخذه هذا المشكل عن الشعرية، إن حسه وحدسه هما تائهان في صحراء هذه اللغة/ القواعد التي لا حدود لها ولا حد، التي تزور الحس وتنتحل المنطق في مواجهة الحدس.

“.. وان أشباه الفراشات التي

قد زورت، وانتحلت..

هوية الفراشة الحقة، بالتحوير والتدوير

هي التي أتت

على قوت الفراشات الأثير

وأكلت في هذه الشموع، النور “.

وأحيانا يركن إلى ركن قصي ليمارس ” الحياة السرية ” بعيدا عن الأذواق الليبية وعن خطيب الجمعة، وفي مثل هذه القصيدة يسجل الشاعر تبرمه من اليومي القمعي والمكرور ويبدو هتافه محض هتاف..

” بالخلسة من كل التعليقات

علقت، ولكن بالمقلوب “.

وتبدو لغة الديوان في مثل هذه القصيدة؛ لغة مختصرة تضغط على الأحرف وتوالد المفردات وانبثاق السجع رغم أن: ” عزرائيل يبتكر فنون الموت في صمت “.

ولأن المحروق مشغول بالقول، مشغول بالبوح، مشغول بالإفصاح،فإن الموضوع  يكتم أنفاس الذات؛ الذات التي كأنها تستغيث الاستغاثة الأخيرة فتبدو القصيدة جملة واحدة ومقاطع مكررة وصورا مضغوطة وكلاما شفهيا..

أو كما قال: ” كل الذي كتبت، أو شطبت

لما يفك، بعد، عقدة اللسان “.

وهي جملة اللسان التي تحتضر في الحلق الجاف، وهي جملة حادة وقاسية لا ليونة لها: “يبهرني الجمال، مثلما يرعبني”.

والجمالية الشعرية تبدو ليست مشروعة في هذه القصيدة/الحكي

“فاجأني سؤالي الوديع:

_ لماذا لا اكتب (بيت شعر) في الذي

حقيقة يعجبني ؟

اجتبني:

جميع هذه الأشياء لا.. تهمني!”.

وتضيق وتضيع هذه التجربة بين الأسئلة الوديعة والأجوبة اللائية: يقظة نومية، أزمنة خوفية.. الخ.

“ومن بعد مانسوا … لكنتهم” بدأت لكنة هذه القصيدة هجائية لا تلبس “طاقية الإخفاء”   –كما يبدو للشاعر– ولا تخفي مكشوفا، ولا تعري حقيقة، فالشاعر يظهر هجاء تراجيديا، يهجو اضمحلالا ويكشف تراجيديا هذا الاضمحلال، وتبدو اللغة/لغة القصيدة قناعا  فيه “طواف الشارع كصعود القمة”. وتبدو القصيدة هامشا لشارح ولمتن مشروح.

“أطنب غير أنني

غنيت ما قد قلق فلتعربد الرياح”

“معذرة، معذرة، أطلق في العبارة

فاللقط قد

ينحل في السكون أو

ينحل في الإشارة”.

أن شغل الشاعر على المفردة وعلى المشكل الخارجي/الموضوع يشغل الشاعر عن   السياق، وعن مستويات الدلالة للمفردة في هذا السياق، ويظهر الإطناب وتبدو المباشرة مفعول التجربة الشعرية العربية الستينية متجلية في تجربة الشاعر. وتصير القصيدة   محمولا لموضوع هي في غنى عنه، خاصة وان سعيد المحروق نحات بارز وكشاف من نوعية أبى حيان التوحيدي في اللغة والمفردة والفونيم.

وقد جاء تناص المحروق مع الحكي والحكي الشعبي تناصا فاعلا غير أن السياق المنطقي جعل القصيدة محملة بالشرح والتكرار سمتا الحكي البارزتين، وهذا السياق النطقي لا يجعل الشاعر يقول نفسه لأنه يبدو مشغولا بالخارج، مشغولا بالدلالة ومشغولا باتصال عن القصيدة. ومن هنا جاء قولنا أن القصيدة تعلق الشعرية على القول و إبهام المشكل، فبدأ  عالم الشاعر ضيقا إلى حد كاتم الصوت.

الشاعر مشغول بقضيته عن قصيدته ومشغول بقصيدته عن الشعر ومبعد للذات هذه الذات التي تظهر محصورة في عالم ضيق وتبدو مستبعدة من العالم، عالمها اليومي والشفاف الذي لا شك محمل بالشعرية. إن هذا الاستبعاد القسري استبعاد للصدق وخوف من هذا الصدق..

“أخاف من الموت سرا، وحقا..

أخاف من الظل

والموت في اللحظات الظليلة”

فهل يطلق الشاعر سعيد المحروق من عقاله وهو الشاعر المفرد الذي يحتاج لقراءة في سياقه؟

مقالات ذات علاقة

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (6) .. ليل المتاه ومعراج الصمت

المشرف العام

جمالية المرآة وسحر الكتابة في (مرايا السراب)لـ: فتحي نصيب

المشرف العام

الواقعية السحرية في رواية الفينكس

المشرف العام

اترك تعليق