المقالة

الكلب والسيارة

وقعت الحادثة في أواسط التسعينيات. كنت أسكن في منطقة النجيلة وأذهب أحيانا إلى مدينة الزاوية لزيارة أنسبائي سالكا طريقا خلفيا زراعيا. ذات مرة كانت زوجتي تضع بقربها في السيارة كيس فضلات صغيرا للتخلص منه.

في الطريق كان ثمة بقعة بها تكدس قمامة. توقفت على جانب الطريق وفتحت زوجتي الباب وألقت بالكيس. حين نظرت في المرآة لأستطلع ما إذا كان ثمة خلفي سيارة قادمة قبل أن أدخل الطريق انتبهت إلى وجود سيارة شرطة نجدة!. تمت مخاطبتي عبر مكبر الصوت بجملة لم أتبينها، لكنني توقفت إلى جانب الطريق ونزلت من السيارة. وقفت سيارة الشرطة محاذية لسيارتي. كان بها شرطيان شابان. قال الشرطي الذي بجانب السائق ما فصيحه، هل لديك وثيقة ملكية في الأرض التي ألقيت فيها القمامة؟!

وحيث أنه داهمني من محور ملكية الأرض، وليس من محور النظام العام، استنتجت أن الأرض لعائلته أو لأحد أقربائه.

فتعللت بأنه لعدم وجود خدمات نظافة عامة فلابد لي من إيجاد مكان للتخلص مما لدي من قمامة. الليبيون كلهم تقريبا يلقون بقمامتهم في الشوارع، والدليل أكداس القمامة التي أمامنا.

وكان رده بأنه إذا كان ثمة أناس غير عقلاء ولا يفهمون فليس عليَّ اتباعهم!

فرددت عليه، بأنهم، على العكس، عقلاء جدا ويفهمون ومع ذلك يلقون بقمامة منازلهم هنا، لأنه لا توجد خدمات نظافة عامة، وأنا مثلهم لدي قمامة ولزاما عليَّ التخلص منها.

فجاوبني بأن هذه مشكلتي وعليَّ أن أتدبر حلها!

فقلت له، إذن فلقد تدبرت الحل وألقيت بها هنا، بسبب عدم وجود خدمات نظافة عامة.

قادت المواجهة إلى وضع شل حركة الملك، في لعبة الشطرنج، حينما لا تكون معه قطعة أخرى يمكنها الحركة stalemate فتنتهي المباراة بالتعادل!

عندها قال السائق، الذي ظل صامتا طوال فترة المواجهة، بكامل الهدوء، ما فصيحه: لا بأس. لو لم تكن معك زوجتك لملأت لك سيارتك قمامة!

فأجبته بأنه ليس من شأني ما الذي يستطيع، أو لا يستطيع فعله. ما يعنيني أنه لا توجد خدمات نظافة وعليَّ التخلص من قمامتي. وفي محاولة لكف أذاه عني أضفت بأنه يستطيع ذلك!

انتهت المواجهة عند هذا الحد. واكتشفت كم كنت محظوظا لأن زوجتي كانت معي وحمتني بمجرد وجودها دون أي تدخل. كما أنها، ولعل هذه هي المرة الوحيدة، أبدت إعجابها بموقفي قائلة لي بأني عرفت كيف أفحم الشرطيين.

لكنني ظللت محتارا. ما الذي جعل هذا الشرطي البسيط يتجرأ عليَّ ويهددني بأنه كان يمكن له، لولا حماية زوجتي، أن يملأ سيارتي قمامة؟؟!!. وغالبا كان سيأمرني أنا شخصيا بملئها لأنه لن يقبل بأن يلطخ يديه!

لقد كان موقفي قويا، وإلى جانب منطقيته وواقعيته، فهو موقف قانوني أيضا. ألم يفكر بأنني قد أكون شخصية على قدر من الأهمية، كأن أكون محاميا أو وكيل نيابة أو قاضيا أو ضابطا برتبة محترمة في الشرطة أو الجيش أو جهاز أمني؟!

لكنني تذكرت أن أبي كان يستشهد في سياقات معينة بمثل شعبي يقول:

ما تضربش الكلب لين تعرف مولاه!

فهذا الشرطي تجرأ عليَّ بما يمكن أن يكون معكوس هذا المثل. لقد لاحظ تواضع ورثاثة سيارتي التي لا يمكن أن يكون صاحبها شخصية على قدر من الأهمية!. وكأنه يطبق مثلا يقول:
لا تتجرأ على رجل إلا بعد التأكد من سيارته وحالتها!. في المثل الذي يستشهد به أبي كان الرجل، مالك الكلب، يحمي الكلب. كان الكلب يستمد أهميته من أهمية صاحبه. أما في حالي مع الشرطي فكانت أهميتي ترتبط بأهمية السيارة!

بعد ذلك بمدة عرفت من أين استمد الشرطي شكل ومضمون تهديده لي. إذ سمعت حكاية مؤداها أن جرافة كانت تغرف من كدس قمامة وتصب ما تغرفه في شاحنة، جاء رجل ونزل من سيارته ليضع كيس قمامة في غارف الجرافة. ولسوء طالعه كان عبد السلام الزادمة، الشخصية الأمنية المتغولة، الذي كان حينها عميدا لبلدية طرابلس، جالسا في سيارته يتابع العمل. فنزل من سيارته وطلب من العمال أن يضعوا غرفة جرار من القمامة في سيارة الرجل!

مقالات ذات علاقة

محمد الزواوي .. المدرسة الليبية

منصور أبوشناف

الوسطيّة المفترى عليها

المشرف العام

وين ثروة البترول.. الحبوني وحِقبة الاستقلال الليبية

محمد دربي

اترك تعليق