النقد

الكتابـة بحزن خـــرافي

في نشيد حزين يثابر القاص “غازي القبلاوي” رصد لحظة الألم المحرّمة والقلقة بكل ما يعنيه الألم من مرارة وكبت وضيم، مستعيناً أو متكئاً على قاموس جيولوجي جغرافي على نحو فضيع؛ مشكلاً في الوقت ذاته جبهة فذة ضد ما هو مكاني وزماني في آن.. ولم يكتف عند هذه النقطة الحرجة، بل جاهد عبر خلق فني ليس بالشائه، أو المثير ليبرر سؤاله المكبوت ومن ثم جاءت بعض قصصه مضطربة وخانعة لرؤية مكرورة ملامسة في الكثير من الأحيان ما يعرف بالخواطر والصور القلمية..

إلى متــى

المجموعة القصصية الأولى لغازي القبلاوي، والتي صدرت عام 2001، تضم بين ضلفيتها أحد عشرة قصة، ومن عنوانها الذي هو عنوان إحدى قصص المجموعة، يتأمل القارئ إذا أراد ذلك معنى الانتظار بما هو بعيد وشاق وكأنه السؤال الذي يعلن عن نفسه بعد طول غياب أو كأنه الغياب في أحلك معانيه!!.

* الحزن دفعة واحـدة:

يهيمن على القاص شعور بالغ الكآبة واليأس ولست هنا مضطراً لبحث هذه الانفعالات الذاتية التي قد يعجز عن تفسيرها القاص ذاته، لكنني أجد لزاماً إثبات صحة ما أذهب إليه من زعم..

– القصة الأولى: “بدون جـدوى”:

ثلاثة أرادوا الذهاب إلى البحر ليتخلصوا من همومهم الكبيرة على حد تعبير القاص!!.. الأول استلقى فغاب عن الحاضر أما الثاني وقف أمام الممتد فشطح بدون أغنية، أما الثالث فدماء قلبه تنزف طازجة..

ثلاثتهم جلسوا أمام البحر بغية التخلص من همومهم، وفي الآخر المهمة لم تتم وبقيت همومهم معلقة!!

– القصة الثانية “إلى متــى”:

هذه مصطلحاتها “المظلمة، المهترئة، بكاؤها الحزين، خافت باهت، نسيج يمزق القلب، غرف خالية مظلمة، الأسود الكئيب.. الخ”… القصة تبدأ بـ “البكاء، البكاء، البكاء” وتحمل بين طياتها وصفاً رومانسياً عابراً.

– القصة الثالثة: “موعد لا يأتـي:

قصة تحمل نثراً إنشائياً لعاشقين تواجدا في نفس المكان، ولم يلتقيا أبداً، فترك كل منهما وردة، وانتهى الأمر..

– القصة الرابعة: “ذرة غبــار”:

ملخصها: بدون هدف يخرج من بيته يحمل حقيبة وقبعة مجهولة الهدف أيضاً، ثم يسير بلا هدف في اللازمان واللا مكان، وثمة سائل يخرج من أذنه والناس من حوله متعبين يترنحون متيامنين مستندين على الهواء يمسكون الخواء بطونهم منتفخة وجماجمهم رؤوس العصافير يتقيئون كتلة كبيرة ثقيلة يضعونها في الأرض فتبعث المرض ثم يصل المكان اللا هدف وعندما يقرر العودة لاسترداد أشياءه لم يعلق بجسده سوى ذرة غبار وأنه قد نزف حقاً والنزف كان حياته.

– القصة الخامسة “وأشرقـت”:

القصة الوحيدة التي تفردت بعنوان باعث للأمل والحياة وهي أقرب لصورة قلمية رومانسية تلوذ بها ذاكرة عاشق شاب.

– القصة السادسة: “ثلاثة رسائل إلى أسطـورة“:

وهذه مهداة إلى الأسطورة كما يروي القاص،… رسائل بمثابة تجليات داخلية لمعاني إنسانية في أسمى مفاهيمها، وذاكرة مجنّدة من الأخيلة والصور كسعي حثيث وشفاف نحو نقطة اللقاء الأبدي..

– القصة السابعة: “ومضات من ذاكرة فتاة أحببتها”:

في هذه القصة يتحدث القاص على لسان فتاة اسمها “مي” وهي القصة الوحيدة على الإطلاق في المجموعة التي يبرز فيها اسم علم وهي لا تختلف فنياً عن بقية القصص.

– القصة الثامنة: “حكايـا الشمـس”:

وهي عبارة عن ثمانية أجزاء تدور حول قرص الشمس يحاول خلالها القاص النهوض بفكرة البداية بالنهاية والانتهاء بالبداية، وهذا التكريس متمخض عن فكر أخلاقي حاولت تفنيده بعض الأساطير القديمة عن طريق فكرة البعث من جديد، أو كما جاء في الكتاب العزيز حيث انتزع فكرة البعث من أفواه المشركين أنفسهم رغم إنكارهم له في قوله “نموت ونحيا” في سورتي المؤمنون “الآية 37” والجاثية “الآية 23” لصالح فكرة الإيمان بالآخرة، والقاص أيما كانت ديانته أو عقيدته يشيع بدوره أفكاراً أخلاقية تؤكد مشروع الحياة بخصائصه الإيجابية..

نستعرض الحكايات واحدة بعد الأخرى ولنتأمل لبنة الصنعة القصصية بقراريها الإيجابي والسلبي:

– الحكاية الأولى: “لحظة احتضار”: يبحث هو عن الشمس ليقدمها لها، وعندما وجد الشمس وضعها في منديل حريري مطرز، ثم أراد أن يهديه لها فلم يجدها أبداً ماذا يفعل؟.. قرر أن يمنح ضياء هذه الشمس للجميع، عندما فتح المنديل وجد حبة خردل سوداء.

– الحكاية الثانية: “النفـي”: قصة خرافية حول الشمس تنتهي خلاله الشمس إلى هيكل أسود في أخدود سحيق.

– الحكاية الثالثة: “الكابـوس: تنتهي بانفجار ونيران ودخان أسود، وتمزق سرب الحمام واختفاء براءة الأطفال، وانتحار الحب، أما الشمس فاغتيلت بعد أن أصابتها قذيفة طائشة.

– الحكاية الرابعة: “رماد طفولـة”: الشمس يستوقفها طفل يحمل مسدساً أكبر حجماً منه، ثم يقتلها ليجري دمها البرتقالي الأحمر في البحر.

– الحكاية الخامسة: “فلتفرحوا أيها الوحوش”:            مختتمة بـ “فلتفرح الوحوش فقد ماتت الشمس ودفنت.. فلتفرحوا”.

– الحكاية السادسة: “الضوء الأخيـر”: مختتمة بـ “في اليوم التالي تشرق الشمس” ومن هنا ينهض بفكرة البعث.

– الحكاية السابعة: “حلم ليلة صيف باردة”: بعدما تشيع مراسيم دفن الشمس تبعث من جديد زاهية.

– الحكاية الثامنة: “لحظـة ولادة”: أبدع القاص ميلاد الشمس من جديد!!

– القصة التاسعة: “أهل الكهـف”:

يلجأ القاص في قصة أهل الكهف ويتخذ منها منطلقاً لبث نشرة أخباره عن السبعة الأشخاص الذين سيموتون شر موت ولكن كلاً على حدة حتى يتسنى للسادس والسابع أن ينهضا معاً ليموتا في ميدان المدينة، ثم يستحدث فجأة شخصية ثامنة …في إشارة إلى كلبهم كما هو معروف من القصة القرآنية… كانت قد دست منذ مئات السنين لتمارس دور الإخبار الأمني والذي كان السبب في نهايتهم المأسوية ثم يتقاضى هذا الثامن المخبر مكافأته والتي كلفته الموت والعمل مئات السنين في الكهف انتظاراً للحظة البعث المنتظرة، وهي قصة تبدو مغايرة لبقية القصص في احتوائها على مبدأ المفاجأة ولفكرة واضحة وجليلة في آن..

– القصة العاشرة: “الرماد لا يلد شيئـاً”:

القصة ذات هوس ذاتي متضارب ومتواضع فنياً

– القصة الحادية عشر: “العدم.. مشاهد مبعثرة من قيامة أخرى..”:

يفتتح القاص هذه القصة بملاحظة يقول فيها:

“هذا ليس نصاً وليس قصة قصيرة أو خاطرة.. ولن تكون شعراً أو نثراً أو ما شابه الأدباء إطلاقه من مسميات.. هذه صرخات روح تحتضر،.. إنها ما تبقى من الدمار”.

وما بين التنصيص يطرح بجلاء هذا الهم الكوني والغابر في ذاكرة القاص، حيث يشير صراحة بقوله “إنها صرخات روح تحتضر أنها ما تبقى من الدمار”..

فعلاً يبدو أن الأسلوب المميز للقصص والخواطر التي حوت المجموعة عبارة عن صراخ قاتم ومقيت في آن، لأن الحياة لا بد لها من الأمل ولا بد للقاص أن يعالج هذا المفهوم قارناً إياه بانفعالاته المأسوية الشديدة الصلابة، ولابد من الحب بوصفه المعادل الموضوعي للغة الحياة والبناء.

* عن الطرح الفني واللغة وجملة آراء تخص قصص المجموعة:

بالرغم من الإهداء المقدم عنوة من القاص للأسطورة إلا إن من الواضح أن لغة النص جاءت غير مبيّتة، ولم تحمل ذلك الرمز العظيم المتفاعل مع معطيات الحياة ومكوناتها بحيث نلحظ عدم توظيف لأساطير شهيرة من عالم الميثولوجيا الكوني فيما عدا قصة “أهل الكهـف” التي أكدها النص القرآني الكريم، ومن الملاحظ أن القاص قد شحذ مفردات بعينها، وفي أجواء بعينيها أيضاً نحو:

الشمس- الظلام- الضياء- الأشخاص المبهمون- بركان- زلزال –جبل- ريح- برد- برودة- موت- حياة ..الخ، وهي معاني طبوغرافية تصلح لكتابة أطلس،.. أقصد أن هذه المعاني الوجودية لا يمكن الانهمام بها بمفردها على طول خط الرؤية بمعنى إذا تم تركها بمفردها في دورق المجموعة القصصية بأسرها، فإن ذلك سيجعل القاص ينوء بأدوار إضافية حادة وقاسية لاسيما أن القاص في أول طريقه نحو عالم القصة المريب..

إن الكتابة بالمجرد أمر يدفع النابه إلى السؤال بالصيغ التالية مثلاً:

هل مكونات الحياة الراهنة أو السابقة لا تخص ذاكرة القاص؟

أو هل يريد القاص إقصاء هذه العناصر لإرساء ما هو أعمق؟..

وإن كان ذلك فليس ثمة رحلة إلى الجوهر إلا من خلال ما هو جزئي وضئيل؟!!

أما على صعيد الحوار الداخلي فقد ابتسر على حوار مجزوء بين اثنين من أصحاب الكهف.

.. إن الاندفاع في هذا الاتجاه، وبهذا النحو قد يأتي سلباً أو إيجابياً في القصة لكنه من غير المحتمل أيضاً أن أي اضطراب في معادلة الحبكة في مثل هكذا ظروف سيأتي مباشرة على حساب نجاح السرد القصصي وتفوقه.. ومن الملاحظ أيضاً أن القصص لم تكتب بلغة مضمرة كسولة عن ما هو شعري على طول خط السرد بل جاءت بعضاً من الجمل تحمل وصفاً جميلاً نحو:

” رأيت الحاضر يمارس انتحاره المعتاد والمستقبل نقطة نور دقيقة في ظلام الظلام” ص 38.

” لم يبق في داخل الجمجمة سوى الخواء وكتلة دقيقة بحجم ذرة غبار لم يطلها الذوبان” ص 40.

” أخيراً سأصل إلى الذي ليس هدفي” ص 40

” كان قلبي عصفوراً عجوزاً يمتهن جمع الدراهم المعدنية على تقاطع الطرق” ص 97

وبعـد..

ما الذي يقرضه النقاش الذي خضنا في لجته منذ البداية؟

لقد نجح “غازي القبلاوي” في توجيه منجزه القصصي نحو رؤية مكثفة الذي هو مشروع قائم بذاته فرضته ذائقته وبالتالي كان راءٍ بكفاءة.. لقد تجلى ذلك في تحويله البوح إلى مسرح حافل بالتصدع والحبور..

أجل.. لقد نجح في ذلك ورمى بكل نفايات الأسود الكئيب القاتم على مائدة غنية بالحشرجة ومن ثم الأسئلة المتتالية وفي طريقه إلى هذا، استطاع تماماً وبطاقة مرشدة ضبط معنى التوتر المتوطن في النفس البشرية.. وإنني أثق تماماً بقدرات “غازي” في تنمية مهاراته الفنية بتواتر أمين لخلق خطوة موالية أكثر صرامة وحدة في التعامل مع هذا القاتم..

30/1/2004

مقالات ذات علاقة

(مناكفاتُ الرُّبعِ الأخير) بين السيرة والحكاية

يونس شعبان الفنادي

كتابة التفاصيل الصغيرة والمعاني الكبيرة

المشرف العام

قراءة نقدية لقصص المرحومة نادرة العويتي عند مفترق الطرق

إبتسام صفر

اترك تعليق