استطلاعات

القدس في وجدان ووعي الكاتب العربي

استطلاع / مهنّد سليمان

(سألت عن محمد، فيك وعن يسوع
يا قدس، يا مدينة تفوح أنبياء
يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء) نزار قباني

للقدس وقع المطر فوق الأديم على النفس فالقدس مدينة تحط فيها السكينة رحالها بخفق أجنحة الحمام ويضوع بَخور حكايا الماضي من شبابيك بيوتاتها العتيقة، ففي مهدها بزغ ميلاد المسيح ابن مريم وعبر أزقتها بشّر برسالته الخالدة في المحبة وذاق ما ذاق من عذاب وهوان، وعلى ظهر البُراق حلّق إليها سيدنا محمد ﷺ في ليلة عظيمة أمّ فيها الصلاة بالأنبياء والرسل، إضافة لذلك قد شهدت المدينة على مر العصور والحقب المختلفة أحداثًا جِسامًا جعلتها تحتل بؤرة الأحداث، وبذا شكلت القدس قلب فلسطين النابض التي لن يستقيم جسدها إلا برفع البيارق الخفّاقة عليه، لذلك كللتها القصيدة في متونها وزغردتها الأغنية بفم من ذهب.

يكثر الحديث عن القدس ويتجلى الغناء والحلم بالعودة إليها ومفتاح البيت القديم يترقب القفز من تجاعيد الزمن المشققة، وإن ما تواجهه هذه المدينة من تهويد وتهديد منذ ما يزيد عن الخمسين عامًا ونيّف يُضاعف من رصيدها لدى وجدان كل عربيّ ومسلم، ومن خلال هذا الاستطلاع نُبرز الضوء على منزلة القدس في وجدان المبدع العربي وضمير قلمه.

فاطمة ناعوت شاعرة ومترجمة مصرية:
فلسطين ليست اختراعًا، بل واقعٌ وحقٌّ ووطنٌ وشعبٌ

الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت

أكتبُ لكم من أرضِ القُدس الشريف؛ في باحة المسجد الأقصى، وأمامَنا صخرةُ المِعراج المُشيّدُ فوقها ثمانيةُ حوائطَ تحملُ قبّةَ الصخرة. ها نحن نرفعُ علم فلسطين على أرض القدس؛ حتى تظلّلُ رايتُه مساحةً منبسطة من النهر إلى البحر؛ فيراه كلُّ من يقفُ على وجه الأرض. ننظرُ يمنةً ويسرةً ولا نشاهدُ إلا وجوهًا تشبهنا. لم يعد من أثرٍ لأنفٍ معقوفٍ، وعيونٍ داهية، وقبعّاتٍ سوداءَ عاليةٍ فوق رؤوس حاخامات، ولا كيبا يعتمرُها مستوطنون يحملون نجمة مسدّسة. أخيرًا صَفَا ترابُها لنا، بعد سبعة عقود كدنا نفقد خلالها الأملَ لولا صوت فيروز الذي لم يكفّ يوما عن الترداد في أعماقنا: “القدسُ لنا”.

أنا أكذبُ؟ ربما. لكنَّ شيئا من الكذب الحالم النبيل لن يُفسدَ العالم. فكلُّ المستحيلات بدأت حُلُما! حتى المخترعاتُ هكذا بدأت. وفلسطينُ ليست اختراعًا، بل واقعٌ وحقٌّ ووطنٌ وشعبٌ، وحُلم لا نطرحه. ربما كذبتُ في رسم الصورة الحالمة، لكنني لم أكذب فيما يخصُّ مشاعري.

انتهاكٌ جديد مارسته السلطاتُ الإسرائيلية المحتلة ضدَّ أبناء فلسطين قبل أيام. انتهاكٌ جديد لقدسية المسجد الأقصى وترويع للمصلين العزّل في أيام رمضان المبارك، وقبل أيام من احتفال العالم باليوم العالمي “للعيش معًا في سلام”، يوم ١٢ مايو، كما أقرته منظمة اليونسكو، من أجل تعزيز قيم السلام والتسامح بين الناس والاتحاد رغم الاختلاف العرقي والعقدي.

عام ٢٠١٢، دُعيتُ إلى فلسطين للمشاركة في معرض الكتاب الدولي في “رام الله”. دخلنا عن طريق الأردن لكيلا تُوصَم جوازاتُنا بختم صهيون المحتّل. ذهبتُ إلى الحرم الإبراهيمي بالخليل، حيث ضريح أبينا إبراهيم، أبي الأنبياء.   كنتُ أضع حول كتفي “الحَطّة” الفلسطينية (الكوفية) المكتوب عليها: “القدسُ لنا”. هممتُ بدخول المسجد، فاستوقفتني المجنّدة الإسرائيلية؛ وطلبت منّي انتزاع الحطة وهي تحدّقُ في عيني بغضب وبرود. ابتسمتُ في سخرية وقلتُ لها بالإنجليزية: “ياه! ترتعبون من قطعة قماش، لا حول لها ولا قوة! تخافون من ’ رمزٍ‘ للمقاومة، لأنكم تعرفون أنكم لستم أصحاب حق! إنه شعور اللصّ الذي يختلسُ ما ليس له!” وقبل أن يحتدمَ النقاشُ بيننا، وتتطور الأمور لغير صالحي، جذبني الأصدقاءُ إلى داخل المسجد، بعدما نزعوا عني الحطّة وأنا أتميّزُ غيظًا من نزعها، لكن شعورًا بالفرح يخفقُ بقلبي لضعف بني صهيون وهشاشتهم.

قبل سنوات، اعتادت جريدة الأهالي وحزب التجمع دعوة شعراء وأدباء من فلسطين للاحتفال ب “يوم الأرض الفلسطيني” في ٣٠ مارس من كل عام. ما دمنا لا نستطيع زيارتهم في وطنهم المحتلّ، فإن اللقاء بهم في أوطاننا هو البديل، لأن أوطاننا وطنهم. فالوطن شِقّان. شقٌّ ماديّ هو الأرض، وشقٌّ معنويٌّ نحمله في قلوبنا. ولئن كان الشقُّ الأول مُغتصبا، فلا أحدَ بوسعه اغتصاب القلب. فثمة فلسطينُ في قلبِ كلِّ عربيّ، بعدسها وفومها وبصلِها وقثائها، لا تموت. تحية لهؤلاء الذين يقولون لبعضهم البعض قبل أن يذهبوا إلى فِراشهم: “تصبحون على وطن!”

حين تصدحُ فيروز “القدس لنا”، فهي تقرُّ بما هو حقٌّ. لنا في القدس المسجدُ الأقصى، قِبلتُنا الأولى، وثالث الحرمين الشريفين، الذي دأب جنودُ صهيون على اقتحامه والنيل منه. ولأقباطنا المسيحيين في القدس طريقُ الآلام وقبرُ السيد المسيح عليه السلام. لهم كنيسةُ “القيامة”، التي تحمل مفتاحها عائلةٌ مسلمة، ولنا مسجد “عمر بن الخطاب” الذي يجاور الكنيسة. لنا في القدس إذن أكثرُ مما لبني صهيون. نزور القدس في خيالنا، نحلم به متحرّرًا حرًّا عائدًا لنا.

“لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي، لأجلك يا بهية المساكن، يا زهرة المدائن، يا قدسُ يا مدينة الصلاة. عيوننا إليكِ ترحلُ كلَّ يوم. تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد. يا ليلة الإسراء، يا دربَ من مروا إلى السماء، عيوننا إليك ترحلُ كل يوم، وإنني أصلي. الطفلُ في المغارة وأمُّه مريم وجهان يبكيان. لأجل مَن تشرّدوا، لأجل أطفال بلا منازل، لأجل مَن دافعوا واستشهدوا في المداخل، واستشهد السلام في وطن السلام، وسقط العدلُ على المداخل. حين هوت مدينةُ القدس تراجع الحبُّ، وفي قلوب الدنيا استوطنت الحربُ.” وتظلُّ القدسُ جُرحَنا الغائر. وسؤالَنا الأبديّ.

فارس أحمد العلاوي كاتب وباحث سوري:
البيئة والعائلة ساعدتا على الرفع من مكانة ومنزلة مدينة القدس في وجداننا

الكاتب السوري فارس العلاوي

لا يمكن الفصل بين وجدان الكاتب العربي ووجدان المواطن العربي، وذلك لأن الكتاب قبل أن يكون كاتبا، كان موطناً، وبقي مواطناً، رغم كونه كاتبا، وجدان هذا المواطن تكون في بيئة إسلامية تعتبر القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين، ولذلك فإن مكانتها ومنزلتها لا ينافسها في وجدانه إلا مكة المشرفة والمدينة المنورة، ولذلك كان كل واحد منَّا يغضب وتنتابه حالة من الأسى حينما تتعرض المقدسات الإسلامية الموجودة في القدس للانتهاك من قبل المغتصب الإسرائيلي، وينتابه المشاعر ذاتها وهو يسمع محاولة ذلك المغتصب تهويد تلك المدينة المقدسة، وإزالة كل ما هو إسلامي فيها، وكذلك محاولاته المستمرة لطرد سكانها الأصليين وإحلال الاسرائيليين مكانهم، هذا من جانب، ومن جانب أخر تلعب العائلة التي ينتمي إليها ذلك المواطن ومن ثم ذلك الكاتب دوراً كبيراً تكوين ذلك الوجدان، فبالنسبة لي على سبيل المثال كان جدي أحد المجاهدين ضد الاحتلال الفرنسي، وشارك في كثير من معارك الجهاد ضد الفرنسيين، ولما انتهت تلك المعارك كان له دوره في نصرة فلسطين، وقد روى لي ولغيري كيف كان يقوم بتهريب السلاح إلى فلسطين، على الرغم من تشديد الفرنسيين في منع وصول تلك الأسلحة للفلسطينيين، وقد نشرت ما رواه لي في عدد من الصحف والمجلات والمؤلفات، وكان أحد أقارب والدتي ممن استشهدوا دفاعاً عن أرض فلسطين سنة 1948م، فالبيئة والعائلة ساعدتا على الرفع من مكانة ومنزلة مدينة القدس وفلسطين بشكل عام في وجداننا،  أضف إلى ذلك أنه بعد نكبة سنة 1948م، قدم إلينا مجموعة كبيرة من المهجرين الفلسطينيين، أقاموا بيننا، وكثير من أبنائهم كان زملاء دراسة لنا، وقد سمعنا منهم كثيراً من القصص عن الجرائم التي ارتكبها العصابات الصهيونية في فلسطين، وذلك لتهجير سكانها منها، كل ذلك كان حاضراً في وجداننا الجمعي الذي تكون نتيجة لكل ما أشرت إليه سابقاً، وما زاد على ذلك أن الكاتب بما يملكه من أدوات ومهارات في الكتابة تمكن من التعبير عن تلك المأساة التي تعرضت لها فلسطين بشكل عام والقدس بشكل خاص، وتمكن من استخلاص الأسباب والنتائج والعبر من كل ما حدث، وبذاك أبقى قضية فلسطين وعاصمتها الأبدية القدس في واجهة الأحداث، ورفع من مكانتها ومنزلتها في وجدان كل واحد منّا، إلى درجة أن كل محاولات إسرائيل ومن وراءها التحالف الغربي الأمريكي الداعم لها لم تتمكن من تغييب فلسطين وعاصمتها القدس من وجداننا ومن وجدان العرب والمسلمين.

أمامة الزائر كاتبة وشاعرة تونسية:
لا يمكننا ان نتخيّل في أكثر اللحظات سوادا وقتامة أن يتحوّل مبدع ما إلى “مطبّل” للقتلة الصهاينة

الكاتبة التونسية أمامة الزائر

إن المبدع في العمق لا يكتفي بالجمالي فقط.. فلا فنّ من أجل الفنّ في حقيقة الأمر، فهو في نهاية المطاف يصوّر واقعه ويخرجه من رتابته وجموده. “يحرّك الكأس”/ القاع..

يختار بدقة هندسيّ أدواته ومحامل عمليّته الإبداعية جلبا للسعادة، انتشاء بلحظة مارقة، تلويحا برفضه لما يحدث، مثل قدّيس يحمل ألواحه بين يديه ويبشّر بعالم آخر.

ولا يمكننا اليوم أن نتخيّل هذا الكائن الذي يؤمن بالفنيّ بمعزل عن قضايا الانسان، مغمضا عينيه عمّا يحدث من انتهاك صارخ للإنسانية.. لا يمكننا أن نتخيّل مبدعا لا تجفل روحه وهو يرى ما يحدث في أرض اغتصبت وقُتّل رجالها ونساؤها وأطفالها.. كيف له وهو يتغنى بالحب والحرية ألا يسجّل موقفه ضد الطغاة؟

لا يمكننا ان نتخيّل في أكثر اللحظات سوادا وقتامة أن يتحوّل مبدع ما إلى “مطبّل” للقتلة الصهاينة.

وبغضّ النظر عن الديني وحقائقه أو أساطيره، بغضّ النظر عن كونك عربيا أو افريقيا أو أوربيا… ستنطق فقط عن فكرة أنّ فلسطين أرض تمّ احتلالها في وضح النهار وأمام أعين العالم الذي يتبجّح بالحريات والحقوق والمساواة.. سترى أنّ القتل يوميّ وأن الكراهية تتسرّب من شقوق كل الجدران.

 وللمبدع أن يدين صلف هذا اليوميّ وتكراره، وأن يطرح أكثر الأسئلة الحارقة التي “ما من أحد يمتلك الجرأة على مراودتها” استفزازا للراكد والخامل. لا توقفه علامات المنع، ولا يصغي إلى عظات رجال الدين وقساوسته وشيوخه.

عليه ان يكون فقط مهموما بالحقيقة كما يراها بعين قلبه وعقله وخياله.  

محمد نصر كاتب وشاعر مصري:
الكاتب العربي ينظر للقدس بوجهتي النظر كقضية محورية وجزء أصيل من القضية الفلسطينية

الشاعر المصري محمد نصر

قضية القدس بين الحق والدين…
للحق إن قضية القدس اكتسبت على مدار تاريخنا الحديث أكثر من جانب لدي الكاتب العربي وتعددت وجهة النظر لها بين الدين وما تطلبه هذا الأمر، وبين الحق كجزء هام ومؤثر وبؤرة للحدث من دولة فلسطين. وفي ظني أن كلا الوجهتين صعب انفصالهما بالنسبة للكاتب العربي، فهو ينظر للقدس بوجهتي النظر كقضية محورية وجزء أصيل من القضية الفلسطينية. من منطلق ديني ومن منطلق الحق الأصيل لدولة فلسطين. ولهذا نرى أن الحكم المؤثر والغالب في رؤية الكتاب العرب هو البعد الديني حتى وإن حاول إظهار انحيازه للحق أولا. وفي رأيي الشخصي أن هذا التعاطي مع قضية القدس قد يضر كثيرا فلسطين المطلب الأهم وهو عودة القدس تحت اليد العربية مقابل محاولات كثيرة لتهويد القدس من الكيان الصهيوني.. إذن فقد تحول صراعنا اليوم إلى صراع ديني يحاول الكيان الصهيوني جرنا له بكل الطريق. وللحق هو نجح كثيرا في هذا وروج له عالميا كما روج للتيارات المتشددة والتخوف من الإرهاب والعمليات الإرهابية التي تضر بالقضية الفلسطينية ككل بالأساس وبالقدس كعاصمة فلسطين الأبدية ولهذا كان من الخطأ الانجراف الديني نحو مخطط يسعى له الكيان الصهيوني. نحن أهملنا البعد التاريخي الذي يثبت الحق وهم لجأوا بالأخير إلى تهويد القدس للعبث بهذا التاريخ. وهذا للأسف لم يكن الدور الوحيد الذي ساعد فيه الكتاب العرب الكيان الصهيوني، بل امتد الأمر إلى تطبيع بعض الكتاب العرب ثقافيا مع الكيان الصهيوني.. وبداية ترويج فكرة الترجمة لبعض الكتاب إلى العبرية هذا المشروع الذي تحييه بعض الكيانات الغريبة والتي تدعي فكرة التعايش مع الكيان والنظرة لهم كفكرة إنسانية وأن علينا أن نتعايش معهم إنسانيا في محاولة لمحو كلمة مغتصب للأرض من قاموس المقاومة وفي المقابل هناك الكثير من الكتاب العرب على امتداد الوطن العربي يقاومون فكرة التطبيع وهناك أمثلة كثيرة جدا لهذا.. وأتمنى حقيقة أن يستمر فعل المقاومة ثقافيا وهو للآن ناجح لدرجة كبيرة.   

مقالات ذات علاقة

الإعلام في ليبيا بعد الثورة بعيون شابة

المشرف العام

دليفري الكتب.. كتابك يصلك إلى بيتك

خلود الفلاح

البيت الأزرق يبدأ في تقديم قراءات مسرحية

المشرف العام

اترك تعليق