تشكيل

الفكر الانساني كمنتج اساسي للفن

الفكر وتطوره كعلامة بارزة في الموروث الثقافي الانساني في الفن التشكيلي الحديث خالي من ابعاده الدينية والميثولوجيا القديمة بأساطيرها وطقوسها المختلفة والرسم من اجل تمجيد الملوك والقادة وتخليد الملاحم والانتصارات الكبرى قد بدأت تتجلى معالم قصته عند اهم المفاصل التاريخية لفن الرسم في اللوحة الصادمة لكلود مونيه “غذاء على العشب” إلى أخر ما أنتج في مختبرات وليم دي كونغ ومارك روتكو، هي في حقيقتها قصة انتقالات سلسة متصاعدة للفكر التشكيلي في الفن ومدى تطوره عبر رحلة مضنية لأكثر من مائة عام فالتطور في طريقة التفكير وبالتالي في التفكير نفسه يدفع إلى التخيل بطريقة أوسع واشمل لإنتاج مقترحات فنية غاية في الأهمية ومن مسببات هذا التغيير التطور التكنولوجي والاكتشافات العلمية والفكرية والاطلاع الواسع لكل ما إنتاج في السابق من حركات وتيارات فنية وأدبية أخرى وربطها بالحاضر ثم بالمستقبل مدعومة بحساسية الفنان المبدع في هذا المجال فخوض غمار تجربة فنية مختلفة تحقق المبتغى وتصل إلى حدود الكمال الفني في مرحلة ما هو عمل دؤوب وحرص مستمر على تقديم الأفضل كوسيلة للتعبير عن ما يعتمل في داخل الإنسان المعاصر والحياة التي تحيط به ولا ننسى الإدارة الناجحة لهذه الأعمال لتقديمها في أحسن صورها فبدون العرض على الجمهور الفني تبقى المقترحات الفنية كالخرائط المبدئية لمشروعات على ورق بدون تنفيذ نماذج تشكيلية عربية استفاقت من صدمة التيارات الفنية الحديثة في الغرب واستوعبت فلسفاتها وأنتجت ما يليق بها في محيط قابل للتطوير ذائقتها البصرية متماهية مع متطلبات العصر تدخل في المنظومة العالمية بحمولاتها التاريخية وموروثها الثقافي للتعريف بشعوب المنطقة العربية وحضارتها والمساهمة في الحراك الثقافي والفني العالمي .

اتجهت كل هذه التجارب إلى ” رسم الذات ” والتركيز على محليتها وخوض غمار التجديد دون أي تردد أو غفلة عن ما يحدث على الساحة العالمية فهي شديدة الحساسية بالمحيط ومتيقظة لكل الاتجاهات والتيارات الفكرية والفنية التي تم إنتاجها من الفن الجديد ومطلعة على الموروث الثقافي والفني بشكل خاص كأحد روافدها في هذا المجال
يتساءل الكثيرون أين الموروث الفني العربي الافريقي والإسلامي في هذه الفترة التي حددناها سابقا من كلود مونيه الى روتكو ونقول إن العديد من المفاصل التاريخية المهمة الموجودة بهذه المرحلة كان أساسها التأثر بهذه الفنون فتجارب بيكاسو مع الفن الأفريقي والفن الإسلامي والشرقي وكذلك بول كلي وتجاربه مع الخط العربي ولوحاته في تونس والعديد من التجارب الغربية المهمة قد مرت على هذا الموروث الثقافي واستعملت الكثير منه في منتجاتها الفنية. و الهولندي كيس فان دونغِن والالماني ماكه وتجاربهم الرائدة في التعامل مع العمارة الشرقية وتأثيرات الضوء عليها في كل من تونس ومصر.
إذا نحن أمام خلطة كونية لا يمكن فصلها وتحديد جنسها بشكل دقيق فالمشاعر الإنسانية واحدة والموروث الثقافي يمكن أن يتلاقح إلى ابعد الحدود فالقصص عن الجنيات والسندباد البحري وعلي بابا والأربعين حرامي وروبن هود وكليلة ودمنة وجحا أصبحت موروثا عالميا من حق الجميع وتبقى الخصوصية في تناول الموضوعات وطريقة معالجتها واستعمال المفردات المحلية والتي بدورها تبرز العمل وتضفي عليه شيء من التميز .
هناك اربع تجارب تشكيلية عربية يمكن ان تكون مثلا لهذا التطور في مخزون الفكر التشكيلي في المنطقة : الفنان سعد القصاب من العراق الفنان علي المنتصر من ليبيا والفنان محمد العامري من الاردن والفنان محجوب العوض من السودان.

الفنان العراقي سعد القصاب:

من أعمال التشكيلي العراقي سعد القصاب
من أعمال التشكيلي العراقي سعد القصاب

رغم حداثة المظهر في اعمال الفنان سعد القصاب فهو لم يخرج من حدود فن بلاد الرافدين وما تحيطه من اجواء مشرقية, زخارف وتنويعات هندسية بثراء لوني جَادَتْ به هذه الحضارة الرفيعة في فترات سابقة , فالفنان كان مدركا لما يحدث من تغيرات طرأت على الفن الجديد خصوصا “الفن التجريدي” بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية , اطلع واستفاد من هذه التجارب ورجع لينطلق من جذوره الضاربة في عمق التاريخ . فاغلب التجارب العالمية استفادت من الموروث الشرقي عموما والعراقي خصوصا من خلال نقل الخبرة البصرية في رسومات المستشرقين الاوائل وتحديدا في الملابس والمنسوجات والزخارف المعمارية من خطوط والوان تم استخلاصها في نصوص بصرية تجريدية بدأت منذ بدايات القرن العشرين في تجارب الروسي فاسيلي كاندينسكي والهولندي بيت موندريان وبول كلي وميرو فكل هذه المنتجات الفنية كانت تتكئ على موروث عالمي من بينها الفنون الشرقية بشكل عام .
اعمال الفنان سعد القصاب تتجه نحو التفكير العقلاني كتلك التي كان بيت موندريان ينتجها باختلاف البيئة والمنطلقات الفكرية التي يتبناها كل منهما, كانت المدينة والشكل الخارجي لخطوط العمارة وبنائها هو الاساس في منتج موندريان البصري بينما القصاب هدفه تفاصيل داخلية من هذه العمارة فالثاني كان ينظر من الخارج وبينما الاول واعني القصاب يحدق من الداخل وفي الحالتين كان للضوء وانعكاساته على اسطح المباني وحيطانها نصيبها كبيرا في اعمالهم . فالنوافذ عن موندريان تتخذ اشكالا مربعة تمثل كتل البناء والعمارة بينما عند القصاب كانت النوافذ مشرعة لجلب اكبر قدر ممكن من الضوء ينعش جسد اللوحة في ذاتها.

الفنان الليبي علي المنتصر :

من أعمال التشكيلي الليبي علي المنتصر
من أعمال التشكيلي الليبي علي المنتصر

التعبيرية التجريدية لغة رمزية لحركة الفرشاة والالوان المختارة وما تتركه من انطباع لدي المتلقي فعند الفنان الامريكي ويليم دي كونييغ اللوحة اشبه بحياة مهشمة بقايا انسان وخلفيات لزجاج مكسور و مُتشظّي , اطراف مبتورة وكائنات في وضع متشنج لا تعرف الراحة اما عند الفنان الليبي علي المنتصر فهو ينتهج نفس الالية في التعبير في مجموعته “الموسيقيين المحليين” ولكن تختلف الرؤية فهو قادم من زاوية اخرى حيث الانسجام والحنين فالعازف يلتحم مع آلاته الموسيقية مكوما مفردة واحدة في اللوحة بالكاد ينفصلا في بعض المناطق عند الضرورة الفنية فالعلاقة هنا انجذاب وتقارب بخلاف علاقة دي كوننغ فهي علاقة تنافر ونبذ من مفرداته التي تمثل الحياة المعاصرة والتي تتسم بالقلق الشديد لمعاصريها ف علي المنتصر يرسم الماضي بكل محاسنه وما يتخلله من حنين وألفة ودي كوننغ يرسم الحاضر بكل سلبياته وانتكاساته , تغير اسلوب المنتصر مع مرور الزمن فأصبح اكثر نضجا وإدراكا للمحيط فالحياة في ليبيا بدأت تقترب من الحياة في كل البلدان الغربية ومسببات القلق اصبحت متوفرة فمرحلة “الانسان المعاصر” التي كانت تخاطب الانسانية كلها لم تعد تتغنى بالحياة بل اصبحت شكوا منها . وكذلك مجموعته ” السلالم ” اصبحت تقترب من مزاج التعبيريين التجريديين بانها تعبر عن الفرد ولا تعني الجماعة وتقترب من الانفلات ولا تكثرت بالانضباط وتتبنى الاختلاف ولا تهتم بالتشابه, توحي بأمكنة مهجورة تتمثل في القبو والعلية , حيث الاتجاه الى الاسفل يمثل دواخل النفس البشرية بكل غموضها ومجاهلها والاتجاه الى الاعلى يمثل الخروج منها الى الحياة الواقعية ففي اغلب هذه الاعمال تسيطر عليها الالوان العميقة المائلة الى السواد مع تدرجات الرمادي و انبلاج ضوء خافة في الاعلى يعطي اتزانا معينا وأملا ما رغم ان اتجاه اغلب هذه الاعمال الى القبو فهذه النصوص البصرية تمثل فلسفة المفارق والتناقضات بين الاشياء . افكار الفنان كانت منسجمة مع افكار الكاتب الفرنسي غاستون باشلار في كتابه جماليات المكان حيث القبو العلية , النور والظلمة , الابيض والاسود , المتحرك والساكن.

الفنان السوداني محجوب حسن العوض :

من أعمال التشكيلي السوداني محجوب العوض
من أعمال التشكيلي السوداني محجوب العوض

مفردات تشكيلية مبتكرة في الفن العربي الأفريقي تضفي على المشهد التشكيلي السوداني الكثير رغم تأنقه المسبق بكل رواده الكبار , ألوان الفنان محجوب حسن عوض تتزاحم في أُلْفة , تتقارب – تتباعد – تتعانق وتتنافر في آن واحد داخل محيط من الالوان والمشاعر الانسانية الرفيعة, خطوط رشيقة تكاد لا تستقر على أسطح لوحاته , بناء محكم للمبنى وصياغات متنوعة وثراء في المواضيع في ظل نسق فني واحد يعبر عن خصوصية الفنان واسلوبه المنطلق من محليته في اتجاه عالمية الخطاب التشكيلي فالفنان بنصوصه التشكيلية يكشف حُجب المضامين , أعمال فنية في حقيقتها كاللاءات المتعددة في وجه القبح المنتشر في العالم بآسره من حروب ودمار , تهجير ومجاعات .
تغيير قواعد النحو التشكيلي السائد وإضافة مفردات منتجه من ثقافة الافروعربية ترتقي بالذائقة البصرية للمتلقي العربي وتتواصل مع المتلقي الغربي بصفته المتواجد على الضفة الاخرى كالمستكشف لكنوز مطمورة منذ الاف السنين, نبش عنها العابرين من فنانين وبحاث غربيين منذ عقود طويلة إلا انها مساحات كبيرة منها تحتاج الى حفر وتنقيب عن موروث يمكن تقديمة في اجمل الصور كالتي يعرضها علينا الفنان عوض في تجربته هذا.

الفنان الاردني محمد العامري:

من أعمال التشكيلي الأردني_محمد العامري
من أعمال التشكيلي الأردني محمد العامري

طزاجة المنجز الفني عند الفنان محمد العامري تتأتي من ديناميكية الرؤية عنده فهي في حالة تجدد مستمر من فعلا القوى والعزوم الداخلي ويتضح هذا الأثر المتروك على أسطح هذه الأعمال بتنوع واضح وزخم مثقل بمفاهيم الفن الجديد حيث أصبحت طريقة الاداء “التلوين” هي الغاية في الأساس قبل كل شيء من قوانين التكوين الفني القديم , لغة الخط عنده لا يمكن ان تفارقها الشاعرية فالفنان محمد العامري شاعر له تجارب حقيقية في كتابة الشعر وهذا من مصادر الالهام في اغلب اعماله , استبعد الشكل واستبداله بالحركة المفعمة بالحياة .
العامري يبدد الغموض بشاعرية اليقظة فاللوحات عنده قصائد مرسومة موشومة بالأصالة والمعاصرة معا ، نصوصه البصرية اناشيد مرتبطة بالأرض فلون الطين والتراب لا يفارق اسطح لوحاته مع تضمينات فكرية اخرى كالصناديق والأحجار وأجواء الامكنة التي مر بها في ترحاله وتجواله الدائم .
هناك وشائج مع رسومات الشاعر فيديريكو غارثيا لوركا المنطقة التي يلتقي فيها الشعراء باختلاف المهارة التي يمتلكها العامري فكلاهما يغازل الاشكال المرسومة بملامسات مرهفة على وَجْنَات الورق .
يقول عنه الناقد فاروق يوسف : “في حالة العامري فإن على مائدة الناقد الفني يجتمع الشاعر والرسام وهما يعيشان حالة، يصعب وصفها. فهما خصمان وحليفان في الوقت نفسه. يكيد أحدهما للآخر ويمكر به غير أنه في الوقت نفسه يطمع في القبض على شيء من خياله.”

الفنان الليبي احمد الغماري :

من أعمال التشكيلي الليبي أحمد الغماري
من أعمال التشكيلي الليبي أحمد الغماري

الفنان احمد الغماري يهتم بمدرسة الهابريالزم الواقعية الفائقة جدا ونجح في توظيفها لتمرير افكاره الخاصة والتي يظهر فيها اطلاعه الواسع على فلسفات ونظريات الفنون الحديثة يركز الفنان على التنافس مع الالة ويحاول محاكاتها في انتاج اعمال باليد توحي بالاقتراب من الكاميرا , رسم الناس العاديين وكان يركز على الحالة النفسية وابرازها في اغلب بورتريهاته المرسومة رغم اسلوبه البالغ الدقة في الوصف للملامح .
بورتريهات كأنها انتجت بالطابعات فالتقنية والإتقان يصل الى الانضباطية الرفيعة اعمال الفنان الليبي احمد الغماري تقترب من فن الفكرة لتحدد ملامح اخرى لموضوعات ما بعد الحداثة في تناول القضايا الاجتماعية للناس العاديين بل المصابين بالأمراض النفسية فالفنان تربطه علاقة وطيدة بأفراد من جيرانه الغير متزنين نفسيا خصوصا بعد الحروب الطاحنة التي مرت بها البلاد في موضوع واحد يرسم شخصية معينة ويصورها بالكاميرا ويتم عرضهما معا كعمل واحد في مقارنة تفسح المجال لتوالد الافكار والانطباعات عن ذوي الاحتياجات من الذين يحتاجون إلى الانتباه من المجتمع المحيط بهم.
الفنان احمد الغماري لا يقدم ابطالا اسطوريين منتصرين بل اشخاصا مهزومين بأرواحهم الهائمة بأعمال انيقة مستخدما الوان الاكريليك بلون مونوكرومي تميل الى القتامة في اغلب الاحيان مما تستدعى انزعاجا ما مرتبط مع بهجة النظر الى تقنية رفيعة في الاداء لرسم فن فوتورياليزم .

الفنان السوري ابراهيم الحسون :

من أعمال التشكيلي السوري إبراهيم الحسون
من أعمال التشكيلي السوري إبراهيم الحسون

خلطة لا يجيدها الا العارف بأسرار اللون ومتاهاته, تكوينات انيقة تنضح بها اعمال الفنان السوري ابراهيم الحسون ، توازن المبنى مع خطاب معاصر جدا للغة بصرية رفيعة تقف على ارضية صلبة من الفكر التشكيلي المعاصر، عند مشاهدة هذه الاعمال تثيرنا المتاهات وتستفزنا المفارقات وتسعدنا التدرجات وتستوقفنا التقطعات للخطوط والخربشات وتبهرنا الاشكال الغير مكتملة لسحب هاربة الى الشمال وبقع متناثر من بقايا دماء صغيرة في اعماله دائما وابدا تساؤلات مشروعة ولا تكف على الالحاح في استنطاق الاجوبة التي لا يمكن ادراكها اثناء المشاهدة ، عملية استمتاع بصري لعيون مرهقة جدا وقلوب واهية وارواح مكلومة .
ينتهى العمل الفني عند كل فنان بطريقتين لا ثالث لهما : الاولى المثابرة والعمل المستمر والجهد الاستثنائي واستخدام كل الامكانيات والمهارات التي اكتسبها الفنان من الدراسة والتجارب السابقة ويتحمل هذا العمل الحذف والاضافة ، اما الثاني فهو تكريس كل المكتسبات السابقة في ضربات سريعة خاطفة بما تعرف بالاقتناص وهذا ما نجح فيه الفنان ابراهيم الحسون الى حد كبير بملامسات عوالم سي توبلي و دي كونغ كمرتكز اساسي من مرجعيات التجريدية بفكر راق استطاع تكريس اسلوبه الفني المتميز بين الفنان العرب الشياب من الموجة الجديدة بعد التغيرات الكبرى في المنطقة العربية .
عدنان بشير معيتيق

مقالات ذات علاقة

“التسامح خير انتقام” وحروفيات عبد الرزاق حريز

المشرف العام

جماليات طرابلسية

ناصر سالم المقرحي

فنان في الظل 

المشرف العام

اترك تعليق