قراءات

الصادق النيهوم الفتى الذي أضاعته ليبيا

الفيلسوف والأديب الصادق النيهوم كان ينطلق عبر تحليلاته إلى عوالم رحبة من المعاني الخلاقة لفكر إسلامي جديد قائم على النقد المنطقي للنصوص المقدسة

العرب: تدرك حجم ألمه عندما تقرأ أي سطر خطته يمينه. حمل تراث مئات السنوات من الظلم باحثاً عن جواب في جنباته. جواب يعين على شفاء العقول المحمومة بآلام المخاض الفكري الثقافي العربي الإسلامي. قالوا إن قيمة الإنسان بسؤاله، فسدد مئات الأسئلة العميقة والقاسية لهذا التراث. نقد المسلمات نقداً منطقياً عقلانياً هادفاً. قال للكاتب إبراهيم الكُوني عندما حاوره، يوم كان الكُوني صحافياً، “أكتب لأنني أؤمن بأن التعامل مع الأفكار لا يمكن أن يؤدي مهمته إلا إذا تم داخل إطار العمل المحدد، وذلك يشبه التعامل مع الثروة فأنت لا تستطيع أن تضع نقودك في الخزانة ثم تفرض أنها ذات قيمة حقيقية على الدوام، إنك لا بد أن تضعها في السوق لكي تعرف قيمتها على وجه الدقة، والكتابة نوع من وسائل العرض لتحديد قيمة الفكر”. طرح الفيلسوف والأديب الليبي الصادق النيهوم كل نتاجه في سوق الأفكار طوال عمره الذي لم يتجاوز 57 عاماً. أعوام قضاها باحثاً بصبر معالجاً بعقله لا بقلبه جميع ما يراه ويقرأه. وبما أن قطرة من ماء النهر تمثل النهر برمته كما عبر يوماً في كتابه “نقاش” فإنه كان يرى نفسه ابن أمة مثخنة بالجراح والمصائب ويتوجب أن نعامل “المشاكل مثل الأمراض فلا يمكن علاجها بالنوايا الطيبة أو الخطب الفصيحة”.

الصورة للكاتب سالم الكبتي
الصورة للكاتب سالم الكبتي

إسلام ضد الإسلام

أعطى لأمراض هذه الأمة كثير اهتمام. فبحث عن سر خيبتها وتخلفها وغرقها في ظلمات لا قرار لها. واستنتج مجموعة كبيرة من الأسئلة التي حاول الإجابة عنها بصبر لا مثيل له. ولكنه انطلق دوما من قاعدة تقول إنه “رغم لساننا الواحد لا نتكلم دائما لغة واحدة”، ولذا يجب تفصيل كل شيء وشرحه ليكون واضحاً ومفهوماً، ربما هذا ما تسبب بتكرار بعض مواقفه في العديد من مؤلفاته. تساءل في كتابه المتأخر “إسلام ضد الإسلام”، “كيف يأمر الله بالعدل، من دون أن يأمر بسلطة الأغلبية؟ كيف تصبح الدعوة إلى “حكم الله” فريضة ما دام الحكم نفسه في يد شخص أو عائلة أو طائفة أو حزب؟ كيف يُكلف الله الإنسان بأن يكون مسؤولاً عما كسبت يداه من دون أن يوفر له الوسيلة الشرعية لحمل هذه المسؤولية؟ كيف يكون الله عادلاً، إذا لم يضمن للناس شرعاً عملياً؟”. بعد سلسلة الأسئلة هذه عالج النيهوم طروحات تقليدية كثيرة ونقدهاً منطقياً وقرآنياً ووصل إلى أن “حزب الجامع يستطيع أن يعيد للإسلام وجهه الجميل، وينقذه من عبودية التاريخ والفلسفة، ويكسب المعركة الصعبة ضد الإقطاع والأصولية، ويمنح أمتنا أول تنظيم سياسي قادر على ضمان صوت المواطن شرعا وعملياً”.

الشعائر أم العدالة

 فكك النيهوم مسلمات القول وغاص فيها عميقا. هل “اقرأ” هي ذاتها التي نعرفها؟ أجاب النيهوم بكل جرأة مُرجعاً الكلمة إلى أصلها العربي القديم أي الإعلام والإشهار رابطاً إياها بأصلها الكلداني “قرا” المنسجم مع ذات المعنى، وانطلق النيهوم إلى عوالم رحبة من المعاني الخلاقة لفكر إسلامي جديد قائم على النقد المنطقي للنصوص المقدسة بهدف فهمها لا هدمها، بهدف إحيائها بعد موات، لا تركها على رفوف المساجد وزينة للمنازل والسيارات. خلص إلى أن الإسلام ليس فقهاً بل سياسة تهدف إلى بناء مجتمع قادر على احتواء الخلاف الفقهي، باعتماد مبدأ “مسؤولية المواطن عما كسبت يداه”، وهذا المبدأ غير قابل للتطبيق إلا في مجتمع قائم على الاقتراع الحر الذي يضمن لكل مواطن حق المشاركة في اتخاذ القرار السياسي، أما في تعريف المواطن في الإسلام فهي عبارة لا تعني المسلم أو النصراني أو اليهودي فالخليفة لا يدعى أمير المسلمين بل أمير المؤمنين أي أمير جميع المؤمنين.

من سرق الجامع

أما حكاية الجامع فيأتي الجواب عليها تفصيلاً في كتابه “الإسلام في الأسر”. هنا يعطي النيهوم تعريفا ثورياً للجامع. فيقول: “كان بيت الله هو بيت الصلاة قبل عصر الرسول، كان بيت الله عاجزاً عن ضمان عدل الله على الأرض، والرسول (ص) هو من استكمل هذا النقص الأساسي في تاريخ الدين وأضاف للبيت تسمية الجامع للاجتماع كل أسبوع لحساب حكوماتهم مباشرة، وطور العمل واعتمد الحوار السياسي، فأعلن للناس أن أفضل الجهاد عند الله كلمة حق في وجه سلطان ظالم، وألزمهم بالجدال بالحسنى من خفض الصوت إلى تحريم الغمز واللمز والتنابز بالألقاب، وفي هذا الجامع اكتسب بيت الله وظيفة سياسية لأول وآخر مرة في التاريخ، فلم يعد بيتاً مقدساً للصلاة وحدها، بل صار بيتاً للحوار السياسي والمحاسبة والمراجعة كل أسبوع ودون انقطاع”. في ظل هذا الظرف الثوري ولد “المواطن العربي الفريد الذي هز أرجاء الدنيا قبل منتصف القرن الثامن الميلادي، وتعود العرب أن يفاخروا فيه في كتبهم المدرسية، ولم يكن يختلف ذاك المواطن عن السلف والخلف في شيء سوى أنه كان أول مواطن عربي وآخر مواطن عربي له صوت مسموع، صوت أحاله من رجل واحد إلى زلزال”، هذا المواطن هو عشق النيهوم الفكري ورغبته بأن يكون المسلم اليوم كذاك الذي “قال لعمر بن الخطاب لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا” وكذاك المواطن الذي “حاسب عمر على متر من قماش الصدقة وجلد ابن العاصي بالسوط وثار على عثمان وفرض الزكاة على الأثرياء وأقر قانون الضمان الاجتماعي وقاتل الأفيال بيده دفاعاً عن حقه بالجامع”.

حلم النيهوم كان قد سُرق بعد وفاة الرسول (ص) بحسب قوله وأصبح “أقصر طريق يسلكه الحزب السياسي لكسب المعركة على السلطة، هي أن يلبس جبة الدين، ويطالب الدولة بتطبيق قوانين الشريعة. لكن مشكلة هذا الطريق القصير، أن قوانين الشريعة بالذات، لا تطبقها الدولة بل يطبقها المواطن. فإذا مرّت المغالطة، ونجحت الأحزاب الدينية في مسعاها، وتمّ تطبيق قوانين الشريعة في دول الوطن العربي، حتى صار لكل حكومة بوابة رسمية على الجنة، فإن المواطن العربي شخصياً، سوف لن يشارك في هذا العرس، ولن يؤدي فيه دوراً نافعاً، سوى أن يحمل الطبل والحطب. إنه لا يستطيع أن يطبق الشريعة حتى بمعونة من فقهاء الحزب”. واقع الأمة ذاك الممتد إلى اليوم لم يترك النيهوم غارقاً في يأسه. أعطاه ذاك الواقع دافعاً كبيراً للكتابة والبحث والاستمرار بالعمل الذي جعله سعيداً بطرح بضاعته الثورية، التي لم تقتصر على الدين ومقارنته وهو موضع بحثه الرئيس بل تعدته لمواضيع فلسفية كثيرة ومواقف فكرية متعددة.

محنة ثقافة مزورة

إن العقل حياة أخرى. حياة أرقى من مرحلة الحياة الدنيا المقامة على حلول الغرائز. إنه مرحلة أعلى وأكثر فعالية لنفس الظاهرة المدعوة باسم “الحياة”” هذا ما قاله النيهوم في كتابه “نقاش”، ولكن ذات العقل نقده في كتابه “العودة المخزية إلى البحر” حيث قال “إن التطور لا يحدث في داخل الإنسان إلا بمقدار ضئيل للغاية، ولكنه يحدث خارجه بوضوح يعادل الفرق بين عربات الفرعون رمسيس التي تجرها الأحصنة في مقدمة الجيش وبين الدبابات الفظيعة التي تؤدي الآن نفس المهمة في أدغال فيتنام. أما هدف الحرب نفسه لم يتغيّر”. ذات العقل الذي أوجد الحرب وطورها هو ذاته أرقى مرحلة في الحياة النيهومية ولكن العقل المقصود هنا هو العقل المؤمن بأن “الطريق المسدود لا يوقف سيرك فحسب بل يرغمك أيضاً على العودة إلى الوراء”. أكثر الطرقات المسدودة بفكر النيهوم هو طريق الحرب والقتل. “أنت -على عكس الله- تعتبر الإنسان جثة تزن سبعين رطلاً من اللحم والشحم. أنت -على عكس الله- لا يهمك شيء وراء الجثة ولا تتردد لحظة واحدة في أن تلصق بالإنسان أسوأ ما تعرفه من النعوت. أنت -على عكس الله- تحكم بالظواهر وتقاتل من أجل الظواهر وتعتبر جارك مجرد خنزير، لكنه -عندما يموت- تتراجع خطوتين وترفض أن تأكل جثته الطاهرة أنت في الواقع فكر متناقض إلى حد يدعو إلى الدهشة، والمضحك حقاً أنك تضع هذا الفكر في عداد الفضائل السماوية وتنسبه بالذات إلى الله”.

ذاك القول الثوري العميق الذي رسمه بكتابه “فرسان بلا معركة” لا يزيد شأنا عما قاله في حديثه عن المرأة والديانات. “إن أكثر البقرات غباء تعرف معرفة أكيدة أنها ليست تابعة لثورها بل جزء ضروري منه، وهي لن تطالب بالتحرر من سيطرته لأن ذلك الثور ليس فيلسوفا ولم يحاول السيطرة عليها. فالمشكلة لا تخص -الحرية- بل تخص أفكار الذكر، والمرأة ترتكب خطأ قاتلاً عندما تنسى ذلك لحظة واحدة، فهي تريد أن ترفض الاضطهاد، وذلك يعني أنها ترغب في أن يعاملها الرجل -كما يعامل الثور البقرة- دون فلسفة ويترك لها حق الاختيار والتصرف، تحت كل الظروف وقد ارتكبت المرأة خطأ متوقعاً عندما عبّرت عن هذه الأفكار بكلمة المساواة”.

إن النيهوم لم ير الرجل والمرأة إلا مجرد مخلوقين يكملان بعضهما ليشكلا دائرة كاملة أمام تجدد الحياة. المرأة النيهومية ليست الجنس وحده كما تريد الحضارة الأوروبية، وليست الخادمة والطباخة كما في البيوت العربية، إنها وجه الحياة الآخر الحافل بكل شيء والذي تبدو الحياة دونه مجرد عرض واحد مثل عالم كلي الظلمة، دون النهار أو عالم كلي السطوع دون ليل، ومن هنا تكون المساواة مسألة خرافية فلا تمكن المساواة بين المرأة والرجل ولكن لكل دوره بحسب المفهوم النيهومي العميق. انقلاب المفاهيم الثقافية انساق برأي النيهوم على الدين والفكر والسياسة “فلم يعد الكافر هو فرعون الذي طغى في البلاد، بل أصبح هو المواطن الذي يخرج عن طاعته، وقد اتفقت مذاهب الفقه على إهدار دم الخارج على السلطان، بحجة أنه خارج على الجماعة، من دون أن يهدر أحد دم السلطان نفسه الذي استباح حق الجماعة بأسرها”، في “محنة الثقافة المزورة” كتابه الذي بحث فيه سؤال “صوت الناس أم صوت الفقهاء؟”.

الإسلام في الأسر

محنة الثقافة المزورة التي أدت إلى أسر الإسلام ورهنه لمفاهيم خاطئة، أنتجت فقهاً دكتاتورياً لا فقه شورى، ولدت ثقافة عبودية لا ثقافة حرية، ولذا فإن النيهوم يرى بأن “الدين الذي لا يضمن العدل للأغلبية في نظام إداري محدد ببنود الدستور، لا يستحق اسم الدين.. وهي المشكلة التي عانى منها الإسلام منذ الانقلاب الأموي على الأقل”. هنا أصبح الإسلام ضد الإسلام وبدأت المعضلة الكبرى والمرض العضال. ذاك المرض العضال دفع النيهوم ليخوض بدراسة مقارنة الأديان. فبعد أن أنهى دراسته في بنغازي أعد بجامعة القاهرة لأطروحة الدكتوراه في “الأديان المقارنة” ثم انتقل إلى جامعة ميونيخ ليكمل ما بدأ. ومن ثم تابع دراسته في جامعة أريزونا في الولايات المتحدة الأميركية لمدة سنتين، ومن ثم درَّس مادة الأديان المقارنة في جامعة هلسنكي كأستاذ محاضر في فنلندا لعدة سنوات.

عائد إلى بنغازي

ولد الصادق النيهوم في منطقة سيدي حسين في مدينة بنغازي في العام 1937، و توفي في العام 1994 ودُفن بمسقط رأسه بنغازي، وأجاد خلال رحلة بحثه إلى جانب اللغة العربية، الألمانية والفنلندية والإنكليزية والفرنسية وكان ملماً بالعبرية والآرامية، كتب لصحيفة الحقيقة الليبية، وأول كتبه “الذي يأتي والذي لا يأتي” نشر في العام 1967 ومن ثم نشر كتاب الرمز في القرآن، وفي عام 1969 كتب دراسة “العودة المحزنة للبحر”، أقام في بيروت أواسط السبعينات حيث واظب على الكتابة أسبوعيا بمجلة الأسبوع العربي، كما أشرف على إصدار موسوعة “عالمنا – صحراؤنا – أطفالنا – وطننا – عالمنا”، ومن ثم صدرت له رواية “القرود”، لينتقل بعدها إلى الإقامة في جنيف عام 1976 وهناك أسس دار التراث، ثم دار المختار، وأصدر سلسلة من الموسوعات أهمها “موسوعة تاريخنا” و”موسوعة بهجة المعرفة”. صدرت له رواية “الحيوانات” وكتاب “صوت الناس”، وفي العام 1988 بدأ الكتابة في مجلة الناقد منذ صدور الأعداد الأولى منها في لندن، كما صدر له كتاب “محنة ثقافة مزورة” عام 1991 من لبنان ومنه صدر له أيضا كتاب “الإسلام في الأسر” وكتاب “إسلام ضد الإسلام”، وبعد وفاته صدر له عام 2001 كتاب “طرق مغطاة بالثلج”.

___________________________________

نشر بصحيفة العرب.. العدد: 9610 – 5/7/2014

مقالات ذات علاقة

عمر جهان يرسم الأمل والالم  والدخان …. !!

سالم أبوظهير

ثنائية الإنسان والمكان في (أفيكو) الزائدي

المشرف العام

عند أعتاب القصيدة

علي عبدالله

اترك تعليق