من أعمال التشكيلي محمد بن لامين
قصة

الشعب سيد الجميع

 د. جمال عبد القادر أمهلهل

Mohammed_benLamin_02

بصباح يوم الاثنين، الأول من سبتمبر 1969م، تجهز الصغير للذهاب مع والده، أعتاد الذهاب معه للعمل، إنها العطلة الصيفية، يتمتعُ بالذهاب إلى مكتبات حَاضرة المدينة، يتصفحُ مَجلات الأطفال المُصورة، و يستمتعُ بحركة المارة المُتجولين، لا يشاهد هذه الحركة في حيهم، يدخر كل تلك الحكايات ليتباه بها أمام أقرانه في المدرسة.

حال وُصولهما لنهاية الشارع الكبير “شارع عشرين”، التقوا ببعض الجُند، أمروا والده بالعودة إلى البيت، لا عمل اليوم، قالها أحدهم بنبرةٍ ناهرة، أحتار الوالد لَمْ سمعه، وسط ذهوله و دهشته، قرر الانصياع لأوامرهم، جُند مُدججون بالسلاح، لوهلة تذكر تناوب الجُنود الطليان و الألمان و الإنجليز على الدخول و الخروج من مدينة بنغازي، يتذكر هذا جيداً، كان جندياً بالجيش السنوسي، لا يحب دخولهم للمدينة، فهي لا تعرفهم و لا يعرفونها، ترأت أسارير وجههِ المُتجهم لأحد الجُند، فقال له: الشعبُ قام بثورة، ازدادت حِيرته، هنالك سأل الصغير والده، من هو الشعب يا أبي؟ هل تعرفه؟ هل يعمل معك؟ أخذت الأسئلة تُراود بوتقة فِكر الصغير، أبي … أبي هل تعرف الشعب؟ هل يسكنُ في حينا؟ – أو في الأحياء المُجاورة!

حال وصول الأب إلى البيت، فتح الراديو، موسيقي عسكرية، أناشيد وطنية، و بين الفينة و الأخرى، يَصدحُ الراديو بالقول … جيشك البطل أيها الشعب قام بثورة، طوبي لهذا الشعب الكل طوع بنانه: همس الصغير لنفسه بها، الكل في الراديو فرحين، يكادون أن يخرجون منه، الشعب لم يتكلم بعد، أريد سَماع كلامه، حتى أميزه …!

يهتف الجميع للشعب، الشعب سيد الجميع، يتغنى الجميع به، لكم أغبطك أيها الشعب …! قالها الصغير يحاور أسارير نفسه، إنه سيد الجميع، يأمرهم و ينهاهم، لا أحد يُعارضه، إنه السيد … و هل يُعارض السيد؟ أسترسل الصغير يسأل عن الشعب، من هو؟ كيف هي هيئته؟ أين يسكن؟ هل هو الذي يخرج دائماً على شاشة التلفزيون؟ الكل يضحك عندما يوجه إليهم أسئلته …! لماذا؟ بكل حَسرة و ألم، بدأ الصغير يكظمُ غضبه، يتفرسُ جيداً في التلفزيون، ليتبين من ذا الذي يطلقون عليه … الشعب! لَمْ يشاهد على شاشة التلفزيون إلا المذيعين، و الكثير من مَسيرات التأييد، و الأغاني الوطنية، و الخُطب الرنانة.

جلس الصغير يُناجي نفسه: الشرطة في خِدمة الشعب، كم أغبطُ هذا الشعب و أحسده …! يتنادى الكل بخدمته، يُقدمون له الولاء و الطاعة، بدون حِساب، فيما مضي من الأيام، يقولون عنها البوليس، الآن أصبحت شرطة، لمْ يسمع الصغير بهذا الاسم من قبل، أدرك فيما بعد أنها تُخلف البوليس في عمله، تغير الاسم فتغير الولاء، البوليس على ما يبدو لم يكن في خِدمة الشعب، الشرطة فقط في خدمته، تلبي كل حاجاته، سَخر الصغير من نفسه، بدأت بعض مُصطلحات الصغير تتغير، السينما أصبحت داراً للخيالة! و بنصف قيمة التذكرة!

أستذكر في صغره، الورش الفنية الصغيرة، إصلاح الراديو و مُشغل الأسطوانات ” البيك آب ” هكذا يُكتب على صدر أبوابها، في غضون شهر من افتتاح التلفزيون الليبي 1968م أضيف إليها، و تصليحُ التلفزيون، كذلك الحال عندما شَاع انتشار الفيديو أواخر السبعينات، مُتابعة حَثيثة للتطورات التقنية!

البركة الحاضرة الاقتصادية الثالثة لمدينة بنغازي، السبعينات أوج نشاطها، ذهب إلى مكتبة الأندلس ليشتري مَجلة سُوبرمان، لا وجود لسُوبرمان بعد الآن! إنها الثورة الثقافية، ألم تسمع بخطاب زوارة … و إعلان الثورة الثقافية … أبريل1973م؟ قالها البائع! … تبدد استغراب الصغير بعد أن تدخل في الحوار أحد الزبائن قائلاً: سُوبرمان يطير … لماذا لا تناديه؟ سيأتي إليك لا مَحالة، رد عليه الصغير، لا أريد سُوبرمان، أريد أن أقرأ عنه فقط! رَحلت حَاضرته الثالثة، تغيرت مَعالِمها، من سيتذكرها يا تري؟ بميدان الثامن من أغسطس، شاهد الصغير لوحة إعلانية كتب عليها جريدة الشعب، الشعب له جريدة، قرر الذهاب إليه، سأقول له لماذا يا عم مَنعت مجلة سُوبرمان؟ ماذا فعل؟ سُوبرمان رجُل طيب … يُحارب الشر ليَنصف المَظلومين!

ببنات هُموم سبعينياته الشاردة … سُقوط طائرة مَدنية ليبية: فبراير/1973م … على شبه جزيرة سيناء! … أثناء العُطلة الصيفية بمدرسة غزة الإعدادية للبنين ببنغازي، صيف العام الدراسي 1972/1973م، أصطف التلاميذ وقوفاً في الشمس، لتدريب شبه عسكري، عاني من رعاف لازمه طويلاً، في تلك الفترة رأي أشياء غريبة، نائب مدير المدرسة برفقة بعض التلاميذ، يجرون خلف المدير! لماذا؟ إنه الزحف ! إنهم يجرون لا يزحفون، خذها أو أتركها، قالها له زميله في السنة الدراسية الأولي …! حِمار جُحا بدأ يتجول في المدينة، الكل يُريد ركوبه …! لا – لا – لا ليس الكل!

أضحى الصغير فتى يافعاً، تجلت له أحداث يناير 1976م، بنغازي في أعز حُللها، عاصمة للاقتصاد الليبي، أستذكر في فيافي ذاكرته المُضطربة، ذلك الطالب الجامعي، أتاهم في استراحة الإفطار، بمدرسة شهداء يناير الثانوية للبنين بالعام الدراسي 1975/1976م، يحثهم على التظاهر لمُناصرة طلاب الجامعة، كلام لا يعيه و لا يفهمه، الكل مُندهش، أجمع تلاميذ المدرسة على الخُروج للاحتجاج، لا بل للتظاهر، لا يهم، يُريدون أن يُسمعوا صوتهم و حَسب، بدأ تظاهرهم من مدرسة شهداء يناير الثانوية – فميدان الشجرة – فميدان البلدية … ثم الرجوع للوقوف بميدان الشجرة، هتافهم كان … لا إله إلا الله معمر عدو الله … إن أثمرت لكانت سَاحة مَيدان البلدية ببنغازي سَاحةً للحرية، لا – لا – لا … قد يكون ميدان الشجرة … قُطعت الشجرة … و الميدان تشوهت حَاضرته … فيما بعد، آه قالها بمرارة، عندما ثناها لسَماعِه المَارة يقولون مشاكل طلاب، أصحاب المحلات التجارية ينظرون من غير فضول، حَوصَلة العمل من أعلى، المَارة لا يرون من يعمل … على أسطح الأماكن العالية!

همس في طيات نفسه، تقليدية هي إذن، بداية و نهاية تلك التظاهرة، أجمع البعض …. أن الدولة الليبية تاهت – شَردت لأسبوع، لا يعلم أحد من يُسيرها، الصِراع دائماً في الأعلى، لملم ألقذافي شتاته …. وقبض على أركان الدولة و بقوة … نُصبت أعواد المشانق في ساحة الإتحاد الاشتراكي ببنغازي 1977م- و في الجامعات، طرابلس و بنغازي، عادة مُفجعة، لا يمر يوم الـ7 أبريل، إلا واستخفوا بالذات البشرية لطلاب تلك الجامعات، بدون مُحاكمات عادلة، عالياً في السماء استقبلوا بارئهم، عالياً كبدر يُنير ليل طويل مُظلم، تعمل النُخب دائماً في الأعلى، لا تهتم بالتواصل مع الشعب، الرياح دائماً قوية في الأعلى، تُبعثر الأفكار و الأوراق، لا نصير لأحد هناك، هل هذه هي إشكالية المثقفين؟ لماذا إذن أتينا لهذه الدنيا؟ أتيناها باختيارنا لنعيشها بملء إرادتنا، إلا إننا نعيشها تحت إرادة الآخر!

سبعينيات الأخوة الأعداء! حرب مصر و ليبيا: يوليو/1976م … لماذا؟ إعلان سلطة الشعب: مارس/1977م، أول جماهيرية في التاريخ، سياسة تسيير القطيع، حكم الجموع المُغيبة عقلياً، التوثيق الرسمي للحياة تحت إرادة الآخر …. أسرا الفتي اليافعُ في نفسه: أن براري … و فيافي نفسه رحِبة الأرجاء، لن يدخلها أحد!

شاهد سِتار سبعينياته القلقة يُسدل على إمارة … مملكة من التساؤلات، لا بل جمهورية، بالتأكيد ليست جماهيرية، ففي الجماهيرية يسكت اللسان عن الكلام المُباح، و النفس لا تبوح بأسرارها حتى لذاتها، و إلا … أخبره البعض: بأنه قد ترأى لأهل المدينة قردةً ثلاث، تجوب شوارع المدينة، رفقة حِمار جُحا! هنالك عانقت الأيام السكون، و هجر الزمن المكان، ترك الزمن جدرانه للعراء، ذاكرة لا تنسي، لبس الجميع لباس التُقية، ليُسمع الآخر ما لا يضمره القلب، و تلحف النظام عباءته … لا- لا – لا ليست عربية … إنها إيطالية فاشية.

أضحى الفتي شاباً غضاً، ألحت عليه براريه الشاحبة أن يزورها، ليروى عَطش الكلمات، ثمانينياتك بحر الظلمات، صَعب عليك أن تغوصه بمُفردك، قالها بحَسرة لنفسه، عصرُ الشقاء مع توافر النفط،، الجامعة الطلابية: 1984م، البدء الرسمي في تفكيك المنظومة التعليمية، عَصرُ الثكنات العسكرية، المدارس أصبحت ثكنات عسكرية، أقسم البعض أن ليبيا ستنظم لحِلف وارسو، أممت الدكاكين و المحلات التجارية و المصانع: ألغيت الملكية الخاصة 1978م، أنشئت السُوبر ماركات الفاخرة، نُهبت … دُمرت! لا بل أحرقت … لماذا؟ بدء عَصر تجارة الشنطه، أنشئت الجمعيات الاستهلاكية، العمل باقتصاد حرب لدولة غنية! لماذا؟ … الغارة الأمريكية: أبريل/1986م، اكتوى بنارها الأطفال، هزيمة وادي الدوم بحَرب تشاد: مارس/1987م، كاد أن يُرسل إلى هناك، الصُدفة فقط لم تسمح، نهاية المؤسسة العسكرية الليبية …! و إنشاء الكتائب الأمنية! عَصر الطرف “النكات” المُوجهة، و تلك النابعة من مرارة العيش، لمْ يسلم مجلس قيادة ثورته منها، استهزاء و سُخرية مريرة على أحدهم، أضحت ميادين المراكز التجارية ببنغازي و طرابلس ساحة أشباح، الأشباح تُلاعب القِردة الثلاث، و تتناوب على ركوب حِمار جُحا، فجأة جاء فجرُ كاذب، أصبح الصبحُ فلا السِجن و لا السَجان باقٍ: مارس/1988م، لا – لا – لا إنها نبؤةٌ لمُستقبل آت!

أضحى الشاب الغض رجلاً ناضجاً، سَطرت تسعينياته على جدار الذكريات لفحاتُ العُقود المَاضية … قضية طائرة لوكربي التي أسقطت على قرية لوكربي الأسكُتلندية في ديسمبر/1988م!، إتهام النظام و إصدار قرار الأمم المتحدة: رقم 748 مارس/1992م بحظر الطيران عن السماء الليبية و بيع المستلزمات الهندسية للطائرات، أستثمر النظام القرار في حصار اقتصادي على الشعب الليبي، تهاوت قيمة الدينار الليبي، وصل الغلاء لحدودِ فلكية، معناه شَغف العَيش للمواطن الليبي … تطاير لأثرها الكُحل من عُيون العَرائس! … إسقاط طائرة ركاب مدنية ليبية بالقرب من سماء مدينة طرابلس: ديسمبر/1992م، الطائرة آتية من مدينة بنغازي، الكل تهامس … على كراسي العزاء …! أسقطوها …! مَذبحة الرأي الغائب بسجن أبو سليم يونيه/1996م، قتل ألف و مئتى سجين في غضون ساعات قليلة، حَقنوا أربعمائة و ستة و عشرين طفلاً من أطفال مدينة بنغازي بفيروس الايدز، أخذت أحداث القضية ثمان سنوات: 1999م-2007م! لتستكمل نهايتها، إلا أن بدايتها و نهايتها غامضة حتى الآن، مجموعة أخرى من الأطفال حُقنت أيضا بفيروس سي الكبدي … تلك قضية أخري … لم تروى بعد! غطت ثروات الشعب الليبي سَوءات النظام، و أعادت صياغته أمام المحافِل الدولية!

نضح جدار ألفية الرجل الناضج أحرفاً … صَنعت الأحرف كلمات … بحثت الكلمات عن أسطر لتشكل جملاً – و فقرات، مازالت …! ما زالت … نشرات الأخبار التعِسة للنظام تجوب فجائع المَعمورة، تغرس الخوفَ في نفوس ضَمئه للحرية، انتشرت الفضائيات باضطراد، كاد الفرد أن يكون إحداها، و غطت الهواتف المَحمُولة احتياجاته، كثر عدد الذين خُيل إنهم يحادثون أنفسهم، تعاطي الصبية المُستقبل على الإنترنت، أقسم البعض للرجل الناضج أن القِردة الثلاث غادرت المدينة، البعض القليل … القليلُ – القليلُ – القليلُ منهم أكد أنها: شَاخت – هَرمت، لمْ تستطيع مُجارات حِمار جُحا القوى، الحِمار يتجول بكل رشاقة عبر شوارع المدينة و أحيائها، القلة القليلة – القليلةُ الصامتة، عَرفت أن الصبية أخذت تُضايق القِردة الثلاث، أما حِمار جحا فلمْ تستطيع الصبية رؤيته بعد!

رأى في فيافيه – و براريه العَطشى: إعصاراً يصلُ الأرضَ بالسماء، إنه تَملمُل – احتجاج – تظاهرة – انتفاضة – ثورة، تململا الليبيون أثنا و أربعون سنة … ثم ثاروا، كانت عجلة الثورة مُتحفظة في دورانها: عصر يوم الأربعاء السادس عشر من فبراير 2011م بمدينة البيضاء – عند تقاطع الطلحي المُروري “مفوز الطلحي” فجأة تسارعت في ربوع الوطن، ها قد ترك الليبيون ألقذافي ينتظرهم: ليحتجوا – ليتظاهروا – لينتفضوا، خَدعُوه و ثاروا … صُدور الشباب …! لا بل صدور الصبية و الشيوخ عارية، أمام رصاص مُضاد للطائرات، بخطوة واحدة وصلوا لدرجة الثورة، لا بل حرب الاستقلال الثانية … بقدرة قادر، سَكبت الأفواه الكلام، فاه و خمسة ألسن، لقد صاح ديك الحرية فجر الـ17 فبراير 2011م، أصطفى الله الشهداء و عَلم الصابرين.

جال في غياهب ذاكرته، عند كوخ صغير في براريه المتأججة، جلس يُناجى نسائم بحرٍ لا شاطئ له، رأى بدراً ينير لياليه، لا بل هلالاً، هلال يُعانق نجمة، الأمل و المُستقبل يتعانقان، الحَركة أساس الحياة، رحِمُ الطاقة، جوهر الكون، الكون في ولادة مُستمرة، صيحات هتفت: … يسقطُ النظام – أرحل – كلمات سِحرية، لا بل ربانية، هي تلك الكلمات، فتحت أبواب الحرية، طوبي لمن أبتدعها، و هل يُخفى على العرب أهل علي بابا سِحر الكلمات؟ أصحاب البلاغة في الكلام، جنان تونس الخضراء قطوفها دانيا: لكل هائم – تائه في بُحور الظلمات.

تغير اللاعبون، و المَلعبُ بَاقٍ، عُبدت السماء بالنجوم، النجوم تحمل الأمل، لكل من ليس له ماض، رؤى لا تنطفي لبصير، خرجت النفوس من غياهب دهاليز مُظلمة، ترسُم هلالاً و نجمة، لا دولة ..! لا شرعية …! يقولون الكل يريد أن يقضم من الكعكة …! لم يرى إلا عذابات، ألزم بها البعض، المجلس الانتقالي و المكتب التنفيذي، يُنظمون قهر السنين، أثنا و أربعون سنة مُفجعة، يُعانون ولادة أحلام، يراد لها أن تولد شابة، تكون أو لا تكون، إنها التجربة الأولي، بكل حلاوتها و مَرارتِها، استطاعوا تعبيد طريقاً في البحر، لماذا يُرصِفون البحر؟ و الصحراء مُترامية الأطراف أمامهم! إن الجهد العضلي يُثني صاحبه عليه، فكيف بالذين يُفكرون و هم نيام!

ناحت كلماتهِ هامسة: سكنت الثورة البلاد، هكذا تُنعت الحاضرة الاقتصادية الأولي لمدينة بنغازي، حاضرتها الثانية هي سوق الذهب – فسوق الجريد – فسوق الظلام – فالفندق البلدي، تُولد الثورات في الأحياء المُعذبة، لشوق أهلها للحرية، لا تسكنها، يُسطر الشهداء على شوارعها ملاحم الغضب الإلهي، سمع الجميع صهيل خيل أجدادهم، فتشمر الصبية – و الشباب – و الشيوخ دربهم، البعض أقفل الأبواب على نفسه، يصنعُ القبعات، هل أخذوا المقاسات؟ أقياسية هي؟ أحب القبعات، للونها – لملمسها – لتناسب ثوبي و قوامي، لا لكونها قبعة و فقط، ازدادت وتيرة همساته تتصاعد في تساؤلاتها: ترى أين ديكارت و قواعده الأربعة؟ من كل هذا، لا بل أين بيكون و أصنامه الأربع؟ أندوات هي؟ لا بل دورات تعليمية … لأشخاص مَعروفين مُسبقاً، مازال العمل في الأعلى، يَعرفون الشعب و عنوانه، و لكن يتجاهلونه! لماذا؟ إنه الحِصنُ الحَصين لكل حَبة عرق، فلماذا … لماذا يبخلون عليه؟ يُحركونه في المُناسبات فقط!

أستذكر تلك الورش الفنية الصغيرة، ها هي ورش أخرى تتعاطي شُجون شَعب في غُرفٍ مُغلقة، لم يكن لدينا دَستُور … سَمع كثيراً هذه الكلمة في المُسلسلات المصرية ” تستور يا أسيادي ” لا … لا ليست هي، لقد أصبح لدينا خُبراء في الدَستُور، و قوانينه أيضا، لا بل القانون الدولي و ألآمه، ألم تفتح بابه قضية لكوربي؟ كل هذا و طرابلس غائبة، طرابلس حَاضرة ليبيا، إنها الأمل، بعيدة عن العين، قريبةٌ للقلب، هل سَتكون نشاطاتها مُغلقة كتوأمها؟

كأنها هي، الولايات المتحدة، أحدهم يُضطهد بسبب انتماءه لأحد قبائلنا، قالها في نفسه، رآه من خلال شاشة التلفزيون: أسارير وجهه مُتجهمة – مُحبطة، يُكابر كِبر سَياسي عَتيق، لماذا؟ الكل يقول: أرفع رأسك فوق أنت ليبي حر! شِعار ينفى الواقع المُعاش، أرفض الشعارات، لا أستسيغها، تُجسدُ واقعاً غير مُعاش، كاد الرجلُ الناضجُ أن يُحادث نفسهِ، و يَسمعهُ من بالجوار! ماذا سيقولون؟

نفحات ألآم السنين، لا بل هديل همساتهِ تخبره: الشعارات تُؤد الأماني- تقتل الأحلام- تفطر القلب- تفكير بصوت عال – إنكار لواقع مُعاش – الحياة في عالم افتراضي – يَغيبُ فيه العقل – لا معني لها: إلا الرغبة في تغييب العقل، و إلا ما نفعها! هكذا كبرت الشعارات في نفسه: الشعب سيد الجميع – ولادة السيد – يسود السيد الجميع – طبيعي لا افتراضي: يأمر و ينهي – يحتقر الآخر – يُمجد نفسه – ذاته فقط!

من أحراش فيافيه أخذت كلماته الهامسة تحبوا: مُصطلحات جديدة دخلت القاموس اللغوي للمدينة، الانتخابات بدل التصعيد … ألا تهتم النقابات لشؤونها! إن كانت انتخابات، فأين العقد الاجتماعي؟ أين المناظرات؟ أين اللجنة العليا للانتخابات؟ النقابات المهنية جزء من المُجتمع المدني، أداة ضغط لمصلحة مُنتسبيها و أخلاقيات و مُستوى أداء مِهنتها، ليست أداة …! فجأة عانقت الصناديق فزعة و بغير شوق أصوات الناخبين، و الملائكة في ميادين القتال تزفُ الشهداء و تدعو للمجروحين، جلس البعض القليل – القليل … القليلُ منهم، ينتظر التكريم، صخرة كانوا في طريقِ سيلٍ عارم، أطيح بهم كالأزلام، ليس لشكلهم، لقبيلتهم … ربما! لتمسكهم باللوائح و القوانين، يبغضها الفوضويون! ألم يقل ألقذافي يوم أصبح الصبح: يقولون عنها جماهيرية! فوضوية ! لا يهمني ما يقولون …! الحمار ليس افتراضي، إنه لجُحا، طبيعي و ذو أربعة قوائم.

إذا حضرت المصلحة غاب العقل، المصلحة أساس المُلك، و المُلك لا رحِم له، من ذا الذي يهمسُ في ذهن الصغير الذي أصبح رجلاً ناضجاً الآن؟ ليس له قدرة عليه، ليس بشيطان بالتأكيد، ألم يثبت هذا ديكارت؟ ألم يقل أنا أفكر إذن أنا موجود، أنا مخلوق، فلابد من خالق، شككت في نفسي، وهذا نقص، أما الخالق فكامل، هكذا أبدع ديكارت مدرسة فلسفية جديدة، أين نحن من هذا؟ رددها الرجل الناضجُ بكل احترام و تقدير لفلاسفة العلم، ذاك الصغير الذي سأل يوماً عن الشعب … عرف الآن أين يَسكنُ العقل؟ العقلُ الذي حَيرت مَكنوناتهِ المُفكرين و الفلاسفة … العقلُ الذي لا يرى – و لا يسمع – و لا يشم – و لا يتذوق – و لا يحس … يتقبل الحِجة فقط، و يتغني بها … أشتاق أن تخضر براريه الجافة و الفيافي، ليبحث عن زهور، لا بل على أشجار مُثمرة، قِطافها دانيا للجميع.

المكاتب المُغلقة لا تصنع مثقفاً – أو مفكراً – أو فيلسوفاً … فهي تدوس على … المثقفين – و المفكرين – و الفلاسفة … لا أراهم … أين هم؟ حملة الشهادد…د…دات في بلادي أكثر عدداً من الذين قاموا – بحرب الاستقلال الأمريكية! – بالثورة الفرنسية! أخذ الرجل العاقل! … يُصارعُ أشباح فيافيه و براريه، أشباح تعاطاها مع الكتب و القصص و الروايات، ألم يقرئون عنها؟ ألم يتعاطوها في دراساتهم؟ لا – لا – لا لم يُكلم نفسه بعد! هذه خواطر نفسٍ مُتعبة فقط.

تناهت إليه همساته الحائرة تشاغله: أين جان لوك؟ أين ديكارت؟ أين جان جاك روسو؟ لثورة الـ17 فبراير، ماذا … ماذا عن توماس جفرسون؟ أثبت بما لا يقبله الشك أن جذوره شرق أوسطية! قد تكون ليبية! ألم يقل هيرودوتس، من ليبيا يأتي الجديد! … أين الصادق النيهوم؟ أين منَّا … كل هؤلاء المُفكرون و الفلاسفة في ثورتنا؟ لا أراهم … لا أجدهم …! أين جامعاتنا؟ لقد أختزلت ذاكرتنا علوم الأولين و أفكار الآخرين! لشعب بالكاد يقرأ مُتعلميه كتبهم المنهجية …. الدراسية … عرف أن منشداته …! جُحا لا زال يحكمُ المدينة.

أين ابن رشد؟ … لا بل أين الغزالي؟ ألم يقل الإمام الشافعي رأيي صواب يحتملُ الخطأ، و رأي الآخر خطأ يَحتملُ الصواب، أين كل هذا في ثورتنا؟ … كذلك قال الغزالي ما حاججني عالماً قط إلا غلبته، و ما حاججني جاهلاً قط إلا غلبني! أين نحن من إرثنا التاريخي؟ … من كل هؤلاء … لم يرى إلا ميكافيلي حَاضراً، راكباً حِمار جُحا!

الإنسان لا يعرف داخله، قد يعرف من يحركه، تبنى المصلحة الحضارات و تُهدمها، هل لنا في حَاضرة تُنير ليل هذا العالم المُظلم! … شمعة نداري الريح عنها، تراءت له غيوم، مُزنٌ مَاطر، يروى ضَما فيافيه اليابسة لتخضر، لتفصح عن أسرارها، تحيي أرضاً بعد موتها، صَحا من شروده، مَسح دمعة أخذت طريقها على خده، ترى كيف عرفت طريقها؟ الدموع لا تسقط! و إلا اكتشفت الجاذبية مبكراً! … تجري الدموع عبر مجرى إلهي، للدمع شجونه الكيميائية أيضا، فعلى أساس مكوناتها تُصنف: عرضية – أو انفعالية – أو عاطفية، ما بال دمعتي شاردة؟ … أتراها الرابعة؟

أخذ يُسامرُ نفسه، هاتفُ داخلي ألح عليه هامساً: لكل استبداد ثورة، و للثورة أطواراً ثلاث: ألم تثوروا ضد الاستعمار؟ ظـــلم الإنسان لأخــيه الإنسان، ضد الاستبداد السياسي، لتنالوا استقلالاً ضاع مِنكم، الاستبداد الاجتماعي شريعة القوى على الضعيف، ظـــــلم المُواطن لأخيه المُواطن، ظـــــــلم مُوروث اجتماعي، الكل يكرهه، و البعض يتعـــــــايش معه، لأن أموره هـــــــانئة! تلك المجتمعات لا يعيش فيها إلا من لا يستحق أن يحي بكرامة، ألم تعي أن الثورة الاجتماعية تجلت في حركة المُجتمع المدني! بقيادة مارتن لوثر كنج، الأسود الأمريكي أصبح الآن سياسياً – رجلُ مال – عَالِم، بعد أن كانوا عبيداً، الأمريكيون الآن، لا بل العالم كله: يتَململ – يحتج – يتظاهر – ينتفض- يثور … على سيطرة أسواق المال، إنها الطور الثالث للثورة … هكذا ولدت حركة الوول ستريت يوم الـ17/سبتمبر 2011م … ترى ماذا ستكون ثمارها؟ أستدرك قائلاً: شطحات لا نفع منها، صدرت منه ضِحكة داعبت أحلام يقظته … سَمع صِراخاً بداخله: شطحات! هه … شطحات! هه … هه … أتسخر مِني، أزداد عِتاب ذِهنه له، أتسخر مِني؟ بعد تعب السنين هذا، إذا سَخرت مني ثانية فلن أكلمك، رد عليه: لا بأس عليك، إنها الديمقراطية، الرأي و الرأي الأخر، أبدي رأييَّ فقط، رد ذِهنه قائلاً: هذا ليس برأي، أنت تتهكم عليَّ، لماذا لا تنصحني – ترشدني؟ ستكون عندها أقرب لحكيم من مُتهكم سَاخر.

ترآى طيف ذِهنه مُتجسداً أمامه، توجس خيفة لمْاَّ رآه، أستأنس بدفءٍ نَسج دِثارُ الطمأنينة على نفسه الغَضة، ربت الطيف على كتفه، حَادثه بنبراتٍ هادئة واثقة: كنت لطيفاً – كريماً – سَمحاً معي لما يزيد عن الخمسين سنة، الآن تُرسلني لغياهب جُبٍ تناسيته، تشغلني و تشغل نفسك بهموم الآخرين، عِش حَياتك، كلانا سيهنأ، الأنا و الأنت، إن تركتك سَتحاور الهواء! ماذا سَيقول الآخرون عنك؟ أمدد يدك لنتسامح …لنتصالح … الشمس التي أشرقت لا غروب لها، قدم السبت – تجد الأحد أمامك، عاملني أيها الطيب كما تُحب أن تُعامل، إن أبدعت بِدعة ستجني قطافها أيها الغالي، لا تلمني إن صدر مني ما لا تُحب، ألا تعلم أن النصيحة إرث الصابرين؟ – و الصبر باب الحِكمة – و الحِكمة لباسُ الأخلاق – و الأخلاقٌ تاجٌ على رؤوس العلماء.

نعم – نعم – يثري النُصح الآفاق، طُائر السماءُ الرحِبة، يجُوب أرجاء أرضها و بحارها، المُعارضة القاطعة، عناد يُحاصرك في شوارع ضيقة، لا مَارة فيها، يُجهد خلاياك … أسترسل مُستبشراً … في دردشةِ صَفاءَ مع ذِهنٍ فَرح، فجأة أخذ الرجل العاقل يتساءل: مَن هو هذا الجميع الذي سيده الشعب؟ أريد أن أعرفه … أريد أن أقول له: أن لا يترك الشعب يسُوده – يقُوده! الشعب بالكـ ــ ـاد يستطيع أن يقود نفسه …! أيها الجميع اجتمعوا على كلمة سواء… سواء … سـ ـ ـووواء، صَاح حتى حَسبِ أن الجوار شاركه الصيحة … قف – قف – قف عند هذا الحد، لا تتلاعب بي، لا تسخر مِني، لا تستهزئ بي … بنبرةٍ ناهِرة جَازرة خَاطبَ: ذِهنه المُسترسل في السُخرية … و بنبرةِ عطفٍ و إحسانَ توسل إليه: لا – لا – لا أرجـ ـ ـو ـ ـوك …. أرجوك … لا تعيدني إلى المربع الأول!

شحات/ليبيا 24/10/2011

مقالات ذات علاقة

غيهب

هدى الغول

أخلاق الغابة

عزة المقهور

شمروخ في بيتي

المختار الجدال

اترك تعليق