القاص: محمد الأصفر
حوارات

الروائي الليبي محمد الأصفر: الهاشمي يدوّن متن الرواية الليبية المعاصرة

حاوره: كمال الرياحي

«الطفل لا حاجة به إلى الكتابة، فهو بريء، أما البالغ فيكتب ليطرح السم الذي راكمه بسبب أسلوبه الزائف في الحياة. إنه يحاول أن يسترد براءته، ولكن كل ما ينجح في فعله (بالكتابة) أن يطعم العالم بفيروس إحساسه بخيبة الأمل»..

بهكذا كلام فلت لسان ميللر ذات لحظة، وبهذه العتبة نلج غرفة كاتب ليبي استثنائي بتمرده، يسرح بقلمه في عوالم الدهشة والجنون، يركب اليومي والمتروك ليحوله إلى عالم سردي غريب تتقاطع فيه هموم الذات مع أوجاع الجماعة، كاتب يحمل لعنة دون كيشوت، يقود حصان وهمه نحو اللامعقول بحثا عن معنى للكتابة، شاعر ظل طريقه إلى القصة، وقاص شنق قصصه مرات على بوابات الرواية، وروائي يخون روائيته مع الفلسفة أحيانا، وفيلسوف مفلس يمارس تيهه في أزقة بنغازي، في أطراف ليبيا، كل حلمه أن يفشل. يعشق الفشل بجنون المازوشي، يتلذذ بجوعه، يحلو له أن يتسول كي ينشر غسيل روحه على الملأ.

القاص: محمد الأصفر
الروائي.. محمد الأصفر

التقينا نصوصه صدفة تتسكع في أحد مقاهي تونس، استعرناها وعدنا. وجدناها مستعرة بهموم رجل «مشوي» من الدنيا وما جاورها، بحثنا عنه فوجدناه ينام تحت بريده الالكتروني المنسي، لم ينتبه الى رسالتنا إلا بعد شهر أو أكثر، كان الدب السردي يمارس سباته السنوي في عزلته البنغازية. واندلع هذا الحوار..
حوار يتحدث فيه عن طفولته الاستثنائية، وعن بنغازي حبيبته وملهمته الأولى والشاهد على عبقرية فشله. وعن اعتزازه بكتابة الهامشي، فالهامشي من وجهة نظره هو المتن الأصيل للحياة و«الإبداع الحقيقي هو الهامش ». ينسى أحيانا انه بصدد حوار فتنثال من بين شفتيه مقاطع من روايات قادمة أو قصة منتحرة أو قصيدة متشردة.

محمد الأصفر، كاتب نبت من عرين اللعنة، يقول إنه يكتب نتيجة إحساس بالرعب ولكنه رعب من اللاشيء، ومن كل شيء…و كأني به يردد خلف ميللر.. «كي تغدو فرحا يجب أن تكون مجنونا في عالم من الأشباح الحزانى».

بعد رحيل محمد شكري ومحمد زفزاف، وبعد تراجع أقلام المهمشين بعد أن تركوا الهامش ليسكنوا المتون الوثيرة نحتاج اليوم إلى كاتب مثل محمد الأصفر يعمل منجله في ذاكرتنا السردية ويوازن ذائقتنا الأدبية لنتخلص من أدران الحبر الصيني الرفيع ومن ورق الطباعة المصقول، نحتاج إلى غرور محمد الأصفر الذي رأى نفسه فيلسوفا وشاعرا وروائيا عظيما…نحتاج إلى حساسيته من نزل الخمس نجوم، نحتاج رفضه لنواميس اللغة والنقد وجماليات الكتابة التقليدية المتمدرسة.. نحتاج خوفه، وجوعه، ووهمه وانتحاريته.. نحتاج جيوبه الخاوية وكفه الممدودة تتسول حبرا وورقا.. نحتاج صعلكته العذبة حتى يكون لنا كتاب يشبهوننا ونشبههم، يشربون ماءنا ويأكلون خبزنا، يحسدون ويكرهون، يتسولون ويمرحون ويضحكون ويبكون وينامون على إسفلت الشوارع… كتاب جديرون بنا وببيئتهم وبشوارعهم وببيوتهم وبأقلامهم وورقهم!

ولد الأصفر في العام 1960 وصدر له:

«حجر رشيد» مجموعة قصصية عن منشورات مجلة المؤتمر ليبيا 2003، «المداسة» رواية، صدرت عن مركز الحضارة العربية القاهرة 2003، «تقودني نجمة» رواية، القاهرة 2004، «نواح الريق» رواية القاهرة، 2004، و«شرمولة» رواية ليبيا للنشر القاهرة 2005.

لنتحدث عن الطفولة أولا، أوتراها كانت سعيدة هذه الطفولة أم تاريخا للبؤس؟

لم أقسها بهذا المقياس المعروف.. الجميل فيها التنقل من مكان إلى مكان.. من حي إلى حي.. من مدينة إلى مدينة وريف إلى ريف.. كل عدة شهور ننتقل من كوخ ونسكن كوخا آخر.. لعنة الرحيل مازالت تلاحقني حتى الآن.. أحيانا نسكن في غرفة في بيت عربي كبير مع عدة أسر أخرى.. دائما أطفال جدد ألعب معهم.. وجدات جدد تقص علينا الحكايات.

مكثنا في طرابلس حوالي خمس سنوات بعد ميلادى.. درست فيها في الجامع شهورا فقط.. بعدها انتقلنا إلى الخمس حيث أرضنا وعشيرتنا.. كان جدي لأمي فقيها يحفظ القرآن في مدرسة قرآنية درست عنده لا أذكر كم شهرا، عموما كنت صغيرا وكنت طالبا غير نظامي.

جدي عطوف.. لا يضرب أحدا.. يمنحني الحلوى والشطائر ولا يطلب مني الحفظ.. كنت أحفظ له وآتي لأسمع عليه فيبتسم لي.. جدي لأمي صدمته سيارة ذات فجر وهو في طريقه للصلاة.. حزنت لموته كثيرا.. ولم نمكث في الخمس.. عاد بنا أبي إلى طرابلس من جديد.. إلى الظهرة.. لكن كان أبي حزينا.. لم يجد عملا.. وقاسينا كثيرا..

لا استطيع مرة أخرى أن أحدد طفولتي سعيدة أم شقية.. سأقول أنني عشت طفولتي حسب.. بالنسبة للخجل والانطواء فهما يلازمانني حتى الآن.. أحب الوحدة.. والخجل دائما أريده في.. والاختلاط بالناس أفعله كلما احتجت مالا فقط.. فأطلب من الأصدقاء بعض الدنانير القليلة مقابل منحهم رواياتي وقصصي مجانا.. بقية الوقت أجلس وحيدا وأكثر الأحيان أتمشى بلا هدف.. وحتى وإن جلست قرب أناس فلا أسمعهم.. سمعي ضعيف بعض الشيء.. ودائما زوجتي وأصدقائي يلحون علي أن أضع مسمعة أو أعالج.. لكنني دائما أرفض وبشدة.. أحب الصمم.. أحب كل شيء يجعلني أغيب.. يجعلني أبتعد إلى هامش تائه لا متن له.. أحب العزلة.. أحب أن لا أرى أحدا ومن الأفضل أن لا يراني أحد.

أريد أن أشرب القهوة في مقهي صغير..

أريد أن أتأمل دون مقاطعة..

لا أريد تحمل المسؤولية..

لا أريد مخالطة البشر..

زوجتي فقط أحب أن أحيا معها في صخب..

لذلك سمعي ضعيف وبصري كليل.. وفهمي بطيء.. مشيتي هي السريعة فقط؟!.

هل يمكن لبنغازي أن تكون سرة عالمك الروائي دائما؟ هل يمكنك أن تتخلى عن هذه المدينة كليا في عمل ما؟

بنغازي ومراكش وبانكوك ودرنة مثل زوجتي آمال.. مثل ابنتي مهجة.. لن اتخلى عنها أبدا.. أي شيء أكتبه لابد أن أضع هذه المدن فيه.. لا يهمني أن يخرب النص أو ينجح.. بنغازي بالنسبة إلي مثل «باهيا» لجورج آمادو و«طنجة» لمحمد شكري.. عندما أضع حروفها على الورق تتفتح لي وردة الجنة… وتهيمن بنغازي (رباية الذائح) على مداركي وقلبي.. حللتها صغيرا فمنحـتـني الوفـرة..

احـتضنـتـني كبهرة نور التجأ إليها ظلام.. مـنحت برودتي دفئا لا ينتهي.. وأحزاني غطستها في رحيق الابتهاج.. تربتها تبتسم لي.. ابتسامة التراب أبهج من ابتسامة الحظ.. دائما تواسيني بهمسة في أذني

– (خليها على الله) وتغني لي:

«هي فانية واللي عليها فاني.. وما يوجعك غير الحبيب الداني»..
وأسألها والحبيب البعيد ألا يوجعك؟..

فـتـجـيـبني:

بنغازي ليس لها بعيد..

بنغازي طاهرة من الصديد..

كل العالم يسبح في ملحها..

وملحها في قلبها..

وقلبها وريد..

أقول لك إن بنغازي ليس عالمي الروائي حسب، إنما حياتي كلها.. ولا يمكنني أن أتخلى عنها.. حتى لو جاءني إلهام يمنحني جائزة نوبل بشرط أن لا أضع في النص بنغازي.. فسأضعها وأقهقه.

قليلون هم الذين كتبوا الهامش، والمهمشين لعل أكثرهم وضوحا محمد شكري ومحمد زفزاف من المغرب. هل انغماس محمد الأصفر في كتابة الهامشي يرجع كذلك إلى تجربة شخصية ام هي استراتيجية كتابة واختيار فني؟

بالدرجة الأولى تجربة شخصية.. حكاية الإستراتيجية والاختيارات الفنية في الكتابة لا أتبعها.. أنا لا أقرأ النقد بتاتا.. ولا أتبع الخطوات الواجب إتباعها لكتابة نص جيد.. لأنني لا أسعى إلى النجاح.. أحاول دائما أن أصنع مسوخا سردية أو شعرية.. أصنع تشوهات.. عطسات روائية.. مفهومي للجمال يكمن في التشوه.. أحب الحروق والندوب.. أحب العلب المطعجة.. أحب الصدوع..

أحب الظلام الدامس وأكره الليالي المقمرة.. لا أحب الاستماع إلى فيروز.. أو أم كلثوم.. دائما أستمع إلى الأغاني الشعبية التي تؤديها فرق غير نظامية.. حتى عندما تجد في كتاباتي أسماء لنقاد كبار مثل رولان بارت ودريدا وفوكو وغيرهم فأنا أعرف أسماءهم فقط.. لكن لم أقرأ لهم أي كتاب.. فقط رولان بارت قرأت له كتابا صغيرا اسمه «الكتابة في درجة الصفر» تقريبا أعجبني العنوان ليس إلا.

عندما أقرأ النقد رأسي يتصدع.. وإن رغبت في تصديع رأسي فلا أريد لرأسي أن يصدعه شيء اكرهه.. النقد قراءته متعبة مثل الرياضيات والفيزياء.. انغماسي في كتابة الهامش هو عن قناعة.. أي كتابة تلقائية.. أتناول شخصيات واقعية أعرفها شخصيا.. هي مهمة بالنسبة إلي.. شخصية المطرب الشعبي عبدا لجليل عبد القادر في رواية «شرمولة» هي شخصية حقيقية.. شخصية تحمل أبعادا إنسانية ثرية.. مطربو الإذاعات والفضائيات مشهورون لكن تافهون.. فنهم ميت.. مصطنع.. معالج تقنيا.. هذا المطرب البنغازي في صوته بحة عذبة تطير اللب.. أنا لا أسمع.. لكن مثل هذه الأصوات الإنسانية تصلني جلية.. الهامش والسطحي بالنسبة إلي هو لب الوجود.. أكتب عنه دون أن أشعر.. وعندما أكتب لا ترد إلى ذهني كلمة هامشي أو غير هامشي.. أكتب ما يرد إلى خاطري وما أريد.. ولأنني عشت في أحياء شعبية فقيرة ومازلت.. تجدني أكتب عن هذا المكان وأعتبره عالميا.

عدة أدباء ليبيين يقولون إنني متأثر بمحمد شكري وجان جنيه، ولكي أريح ذكاءهم وأدبيتهم ونقدهم الراقي أعترف لهم أنني متأثر بمحمد شكري وجان جنيه وهنري ميللر وكونديرا والخراط والمسعدي وحتى زفزاف وكولن ويلسون وغيرهم من الكتاب العالميين لكن لم أتأثر بأي كاتب ليبي قط.. والمشكلة أن أحكامهم مبنية عن جهل فمنهم من لم يقرأ لشكري سوى كتاب واحد وهو «الشطار» ( زمن الأخطاء) ولم يقرأ لجنيه ولا لهنري ميللر، وحتى وإن قرأ فأعتقد أنه لم يفهم شيئا..

ألم تسأل نفسك لماذا يقولون لك ذلك؟

لم أسأل نفسي.. ولم أتعود سؤال أحد.. وبالعربي الفصيح إنني لا أكترث بهؤلاء لأنهم ليس لهم علاقة بالكتابة.. نقول في ليبيا عبارة ( خلوة نجع ) أي المكان فارغ.. فبإمكان أي شخص أن يكون كاتبا وشاعرا وناقدا في رمشة عين.. وعندما يخرج خارج ليبيا مثلا في معرض القاهرة للكتاب يجلس في آخر الصفوف ويديه خلف ظهره كتلميذ ولا يتفوه بأي كلمة. يستمع فقط..

لدينا مشكلة كبيرة اسمها الادعاء لا ندري ممن ورثناها.. هم كلما وجدوا في نصوصي خمرا أو حشيشا أو جنسا يقولون شكري وكأن شكري هو الوحيد على وجه الأرض من يقترف مثل هذه الحيوات.. ومنهم من يقول ان السيرة الروائية شكري هو أول من كتبها.. متناسين جيمس جويس في «صورة الفنان في شبابه» و«سومرست موم في عصارة الأيام» و«مذكرات فتاة رصينة» و«قوة الأشياء» لسيمون دي بوفوار وجان جاك روسو في «الاعترافات» وأيضا هنري ميللر الذي كل كتبه الخمسين سيرة ذاتية..

عموما أنا أعتز بالهامش وبالكتابة عن همومه والتغني بحبه والتأثر بمن كتبوه قبلي، وأنا معهم كأنني في سباق تتابع.. أي أنني أقف كما يقول امبرتو ايكو في روايته «اسم الوردة» على اكتافهم لأرى أبعد في الأفق.. أحب الهامش لأن الهامش هو الإنسانية المعذبة الحقة.. والهامش من وجهة نظري هو المتن الأصيل للحياة.. والإبداع الحقيقي هو الهامش.. والهامش هو الرحم.. والخلق هو المتن.. والهامش في الورقة أطهر من المتن المفضوح المؤذي.. الهامش هو شفا جرف الإبداع.. هو الصراط الذي لا يسقطنا.. هو حواف الرغيف المحترق الذي أعشقه.. الهامش طويل وشاسع ومحتمل لكل خربشاتنا البريئة وابتساماتنا الصادقة..

في الهامش أجد من يحتضنني.. أجد الذاكرة التي أعيش في نسيانها المضيء.. حتى في بانكوك لا أدخل المناطق الفخمة رغم رخصها وأجدني مندسا حيث الشقاء.. في المغرب أيضا.. وفي بنغازي أمرض حين أدخل فنادق الخمس نجوم.. وأنا أدوس على الدواسة الوثيرة المطرز على ظهرها خمس نجوم.

ما الذي يحرض محمد الاصفر على الكتابة؟

الرعب.. دائما أعيش حالة رعب.. أكتب أشعر بالاطمئنان والسكينة.. الكتابة هي العزاء بالنسبة إلي.. إن لم أكتب أختنق.. القراءة هي كتابة بالنسبة إلي.. أقرأ كثيرا.. يوميا أقرأ كتابا تقريبا.. أحيانا أقرأه برجلي.. أو بنومي.. أو بسرحاني.. لا أهتم بشيء سوى الكتابة.. حتى الآن لم أستخرج دفتر عائلة.. ولم أجدد أي بطاقة شخصية أو جواز سفر.. ليس لدي وقت لمشاغل الحياة وللإجراءات.. عندما لا يكون لدي مال لا أعمل.. أتسول من الأصدقاء.. أي مبلغ مالي أتحصل عليه من الكتابة أدفعه للمطبعة لنشر رواية لي.. الآن لدي أربع روايات صادرة على حسابي الخاص.. كلها صادرة في مصر.. الطبعة دائما خمسمائة نسخة.. لم أبع أي نسخة حتى الآن.. أي نسخة تصلني من مصر أهديها لصديق.. لا أستطيع أن أبيع.. جربت أن أبيع لكن تألمت لذلك.. أنتظر أن تطبع رواياتي في ليبيا.. أو توزع جيدا بحيث تصل إلى القراء.. نقاد عرب وصلتهم رواياتي صدفة وكتبوا عنها كلاما جميلا أسعدني.. أنا واثق مما أكتب.. وعندما يصل إلى القارئ.. أي قارئ فسوف يسعده ما أكتب..

إذن دافعك للكتابة هو الرعب؟ أي رعب هذا؟

أجل المحرض الأساسي للكتابة لدي هو الرعب.. الرعب مم لا أدري.. لكن كلما خفت كتبت.. أحيانا أخاف من زوجتي فـأكتب عن الحب.. في رواية «سرة الكون» وهي تحت الطبع لدى مؤسسة الانتشار العربي كنت قد وصلت منتصف الرواية.. وكنت قد أمضيت ثمانية أشهر في مدينة شحات الأثرية.. وكانت زوجتي معي وكنت خائفا وأكتب بسرعة.. كانت زوجتى تعاني الوحم.. عدت بها إلى بنغازي.. تركتها في بيت أبيها.. ثم هربت إلى طرابلس.. مكثت فيها مختفيا أربعين يوما حتى انتهيت من الرواية.. وآسف لما سببته لها ولوالدها من ألم وقلق.

في الأربعين يوما مدتني شاعرة ببعض المال.. كلما ينفد تقول لي ابق سوف أحضر لك مالا غدا.. والذي يبقيني آنذاك ليس المال وليس الحب.. لكنها الرواية.. الرعب.. الهرب من الجميع..

هل تكتب لتواسي نفسك الجريحة أم لتعاقبها؟

نفسي مشوية وليست جريحة.. مرحلة الجراح تجاوزتها منذ قطع سرتي وختاني عنوة.. أكتب من أجل نفس أخرى.. نفس شفافة لا تجرحها الحياة ولا يخدشها الموت بنقطة انتهاء..

هل تعتقد أن نجومية ابراهيم الكوني حجبت الشمس عن بقية المبدعين الليبيين؟

بالعكس.. نجومية إبراهيم الكوني ومن قبله الصادق النيهوم سلطتا الضوء على الكتاب الليبيين.. عرفت العالم بأن في ليبيا إبداع.. وهناك أدب ليبي حقيقي يعول عليه.. وأنا شخصيا سعيد بإبراهيم الكوني وأدبه الصحراوي الجميل.. وأعتبر الكوني من الكتاب الكبار وقوة الكوني حسب وجهة نظري تكمن في اللغة.. حيث لن تجد أي جملة في كتبه الستين متكررة.. وهذا إعجاز في حد ذاته.. وليس صحيحا ما قاله عنه الناقد جابر عصفور والأديب أحمد المديني من أنه يكرر نفسه والأصح هو أنه يعمق نفسه.. الأجواء متشابهة والشخصيات نفسها.. لكن في كل رواية يبحر في الأعماق أكثر وتتفرع عروقه أكثر.. وتبقى روايات «نزيف الحجر» و«السحرة» و«المجوس والتبر» و«يوم في الدنيا» و«يوم في الحنين» من روائع الأدب العالمي..

وبالنسبة إلى الرواية الأخيرة «يوم في الدنيا» و«يوم في الحنين» اعتبرها من أمتع الروايات التي عشت فيها.. والكوني فنان الصحراء العالمي دون منازع.. واستطاع بجدارة أن يكتب رواية ليبية محلية متمثلة في قبيلة من قبائل الشعب الليبي الطوارق منتجا عالمها الروائي بكل تداعياته وأساطيره ليعبر بها إلى العالمية.. والحقيقة أنني قرأت روايات الكوني بمتعة في بداياتي واستفدت منها الكثير وأكيد أنه توجد عدة عبارات في لا وعيي مازالت محتفظة بطزاجتها لكن ولأن الكوني ليس من كتاب الهامش فلم أتأثر به.. وعالم الطوارق الذي أنتجه الكوني عالم جميل ساحر مبهر وجديد بالنسبة إلى الأدب العربي والعالمي.. لكن ليست هذه الميزة هي التي جعلت الكوني يرتقي الشهرة ويصير من الروائيين العالميين.. إنها وكما قلت اللغة والإصرار والتراكم وعدم الالتفات إلى شيء سوى الكتابة.. وباختصار شديد.. الصوفية الأدبية.

يقول عنك خالد النجار في روايتك تقودني نجمة «أنت خلاف أغلب الكتاب، لا تستمد مادتك الروائية من البلاغة الخاوية وعرض العضلات اللغوي والتخييل المريض».. هل يعني هذا أن محمد الأصفر لا يهتم باللغة الروائية وأنه يتعمد الكتابة بلغة بسيطة تكاد تلامس القاع؟ هل كتابة القاع والهامشي تتطلب من الكاتب أن يكتب بهذه اللغة؟

لا أهتم بشيء سوى بخيالي وعلى من سيحط بي وأقول لك مجددا إنني لا أضع أي معايير للكتابة وأبدأ النص ناشدا الفشل..

الفشل؟

نعم الفشل.. الفشل هو أستاذي الأول والأخير.. كلما فشلت لا أجلس على خازوق القمة المدبب وأظل أتسلق وأعلو وأهبط وأرقص عرضا وطولا ووترا.. الفشل كالمرأة القبيحة متجاوبة أكثر مع الحياة.. عندما أنتهي من النص أقرؤه من جديد وأغير بعض الكلمات والجمل ثم أعرضه على أساتذتنا الأعزاء.. ويبدأ الفعل النقدي.. لو فعلت كذا.. لو أضفت كذا.. لو سميت هذه الفقرة.. هذه ليست رواية.. هذا عبث.. هذا نص مفتوح.. هذا نص يتلصص.. هذا نص كافكوي.. الخ..

وكيف تكون ردة فعلك عادة؟

آخذ رأيهم بعين الاعتبار.. أي أحترم آراء الجميع ولا أغير حتى فاصلة.. مع العلم أنني أستخدم النقاط للفصل بين الجمل وليس الفواصل.. أما لغة الكاتب فتحددها كما يحكي ماركيز جارسيا الجملة الأولى في النص.. لغة شخصيات الهامش معروفة.. ولغة المدعين معروفة.. ولغة القانون معروفة.. ولغة الأوباش معروفة.. لكل كتابة لغتها.. أنت لا تبحث عنها.. هي تأتي صاخبة بنفسها.. ما إن تحل المكان حتى تستقبلك لغته.. اللغة هي شراب الترحيب.
وهناك حقيقة دائما أمارسها وهي عندما أنتهي من كتابة نص أعطيه لزوجتي لتقرأه بصورة متواصلة أي نفس واحد ثم تخبرني برأيها كقارئة عادية.. تقول لي النص دمه خفيف كنسيم أم ثقيل ككيس حلبة.. ورأيها آخذ به في أكثر الأحايين.. فأحذف جملا وأحيانا فصلا بكامله.. وأضيف أشياء جديدة ما كانت من قبل في النص..

ولكن ما لاحظته شخصيا أنك ترتقي بلغتك أحيانا إلى مستوى الشعر، وكثيرة هي المقاطع الشعرية التي تخللت نصوصك.و رغم انغماس نصوصك في عوالم الحشاشين والسكارى والمومسات الا أنك تطرح أسئلة ثقافية وفلسفية معقدة وتحشو نصوصك بمصطلحات نقدية وفلسفية كالحديث عن التفكيكية.. هل نكتب القاع لنتوجه به نحو المثقف أم نحو القاع نفسه؟ هل نكتب للمقهورين والمنسيين ام نكتب عنهم فقط.. بمعنى هل يتمعش قلمك من لحمهم المفروم؟

لن يصدقني العالم لو قلت لهم إنني شاعر وفيلسوف أيضا… أنا على ثقة بأن شعري راق وسردي أرقى من شعري.. وفلسفتي ذات معنى.. ولا أكتب اعتباطا أو عبثا.. فكل كلمة في الرواية لها جنونها.. وعندما يقرؤوني سيفهم القراء والأدباء في العالم أنني كاتب كبير ولي منجل إبداعي سيحصد كل الجوائز بما فيها نوبل.. فالأدب هو حياتي وعبره أقفز إلى مناطق ما بعد الجنون.

هل تتعيش كتاباتك من الفضاءات المنبوذة؟

كتابتي لا تتعيش على البؤس أو تتكسب منه.. لكن هذه مناطقي التي ألعب فيها.. أنا من كتاب الضد، أي كاتب مهاجم، وحتى عندما كنت لاعب كرة قدم في النادي لم ألعب مدافعا أو حارس مرمى.. كنت دائما مهاجما.. أو لاعب وسط.. لا أعرف كتابة الأدب المخملي.. لا شيء أحلى من القاع.. أنا مهاجم.. وهامشي هامش مهاجم وليس هامش مستسلم.. في عدة أماكن من الورقة يتوغل حتى المنتصف.. المتن غير متساو أمامي.. أنتشه كلما حلا لي ذلك.. أحب كشط الشياط الذي في طنجرة المعكرونة.. المسألة مسألة حب ليس إلا.. والمثقف لا أتوجه إليه بشيء سوى بأن يتركني في شغلي وليواصل استرزاقه وتملقه لمصادر القوة المحلية أو الدولية أو الميتافيزيقية.

تذكر في كل نصوصك الروائية أسماء المثقفين بشكل صريح وتكاد تسجل جلساتهم الخاصة والعامة كمن يلاحق غنيمة. هل تعرضت إلى احتجاج من هؤلاء الذين حولتهم من كائنات حية إلى كائنات ورقية؟

هناك أسماء أدباء عالميين وعرب لم التقيهم وأحبهم من خلال إبداعهم فأضع أسماءهم مثل ادوار الخراط وخالد النجار وفهد إسماعيل ومحمود البوسيفي ونبيل سليمان وجمانة حداد وغيرهم.. وهناك أصدقاء ليبيون أضع أسماءهم وأحركهم روائيا.. في البداية اعترضوا لكن عندما تذوقوا رحيق الكلمات أو اللكمات صبروا واقتنعوا بأنهم مخلوقات روائية وتفهموا حالة الإبداع.. وهناك كتاب ليبيون أصدقاء يحبونني كثيرا ولا يعترضون أبدا حتى لو وضعتهم في نصوصي في مواقف مخجلة.. والحقيقة أنني لم أفكر في هذا الأمر..

من يأتي في رأسي أثناء الكتابة ويخدم النص أضعه دون تردد.. النص مقدس والشخوص أوثان لحمية ينهشها دودي.. لا أرى الشخصية كما هي في الواقع.. أراها حروفا تغزو حبري وتتداخل معه وتوسم هامش الورق الذي أمامي.. وهناك من يأتي الي ويقول لي حمادي ضعني في الرواية أرجوك.. أريد أن أدخل التاريخ.. ضعني في أي مكان.. فالطائرة تصل إلى المرفأ حتى بمن جالس في مؤخرتها.. فلا أخيب ظنه وأضعه بكل أريحية.. والطريف أن بعض الفتيات يطلبن وضع أسمائهن.. والأطرف من ذلك أن كل من وضعت اسمها وهذا بالتجربة خطبت وتزوجت سريعا.. كلماتي تظهر الجمال الذي يجعل الرجال يعشقونهن بجنون.. في الزمن القادم سأطلب مالا لمن يريد أو تريد اسمها تظهر في الرواية..

أنا حاوي كلمات هكذا أحس وأعتقد أيضا.. رواياتي تقبل أي اسم وتقبل أي شيء.. أضع قصيدة.. بعدها أضع استطلاع.. مقالة.. قصة.. أكتب بحرية.. بطريقة بسيطة.. أي قيد أحطمه.. أنشد الفشل.. أكتب دون تفكير.. أفك الحبكة.. أخرج من السوريالية وأدخل الرومانسية.. أقفز إلى الواقعية.. أي شيء.. لا تعقيد.. الكتابة كشرب الماء في القيظ.. لا أريد أن أكون بطلا.. أو كاتبا كبيرا.. أكتب برداءة وبأخطاء لغوية فظيعة.. لغتي لابد أن تكون فيها أخطاء.. الهامش ليس مستقيما.. متشرشرا كواد بين جبلين ملتويين في خيالي.

هل لمحمد الأصفر مشروع روائي واضح المعالم؟ وهل تعتقد أن سيرتك الذاتية قادرة على حمايته من الضمور؟

ليس لي أي مشروع.. متى ما حلا لي أكتب.. ومتى مللت أتوقف.. لن أحرر فلسطين.. ولن أفتح عكا.. ولن أقوم بثورة.. المشاريع الروائية والنظريات الأدبية تركتها.. لو صنع أي قارئ من كتاباتي شيئا فلست مسؤولا عنه.. أكتب من أجل الفشل.. من أجل المتعة التي تكتنفني كلما قرأت ما كتبت في عيون السماء.. وما اكتبه ليس سيرتي الذاتية..

الذي يعيش الآن ليس أنا.. أنا أكتب من الموت.. من الماضي السحيق المسحوق كالأثمد.. هذا الآن سبق أن عشته من قبل..

عنونت روايتك الجديدة «اسمي أصفر» هل كنت متأثرا برواية التركي أورهان باموق صاحب رواية «اسمي احمر»؟

قرأت «اسمي أحمر» منذ سنتين وهي رواية جيدة قريبة من أجواء «اسم الوردة» لإمبرتو ايكو.. وأعتقد أن كلمة «اسم» أخذها باموق من «اسم الوردة».. الرواية رائعة قرأتها بمتعة.. أعجبني ما كتبه باموق عن النقش متمثلا العلاقة بين الشرق والغرب عبر المدارس الفنية وعبر تقنية المنظور الذي ليس له وجود في الفن الإسلامي.. وشدتني شخصية ابزاد النقاش الكبير.. وشدني أيضا كيف غرز في عينيه المخرز.. لم تعجبني فيها الحبكة البوليسية وجريمة القتل وتأثره الفظيع بفوكنر.. لو جعلها كلها عن النقش لكان أجمل.. «اسمي أصفر» عنوان روايتي الجديدة.. الاسم فلنقل إنني أخذته من اورهان باموق.. لكن الموضوع لا علاقة له بالنقش.. «اسمي أصفر» رواية ليبية تتحدث عن شاعر من يهود ليبيا اسمه كليمنتي أربيب وملقب بأبو حليقة.. عاش هذا الشاعر في ليبيا واختفى أثناء الحرب العالمية الثانية.. أيضا بها شخصية كوندليزا رايس وكيف أن أصلها ليبية من فزان وبها عدة شخصيات عالمية مثل مصطفي كمال أتاتورك وهتلر وغيرهم، وكي يرتاح العالم ولا يقول أني أتكئ على عنوان باموق فأنا قد غيرت عنوان الرواية وجعلت عنوانها ( يا نا علي ) ويا نا علي هي جملة بالدارجة الليبية تعني الألم وأيضا اللذة.. أي عندما ترى فتاة جميلة وتريد مغازلتها تقول لها يا نا علي منك.. وعندما تحس بألم فظيع تصرخ يا نا علي.. وعندما تنتشي أيضا تقول يا نعلايييييييي (تمد الياء قليلا) وهذه الرواية ستصدر نهاية هذا العام 2005 إبان معرض القاهرة للكتاب عن دار ليبيا.

__________________________________

نشر هذا الحوار اليوم الجمعة 7 تشرين أول 2005م في جريدة الرأي الأردنية

عن موقع ديوان العرب

مقالات ذات علاقة

رئيس اتحاد الناشرين الليبيين: بسبب الحرب يعيش الكتاب الليبي ظروفاً صعبة

خلود الفلاح

شاعرالمحكية الصيد الرقيعي.. الشعر الشعبي: وصل إلى طريق مسدود

المشرف العام

الشاعرة الروائية “عزة سمهود”: نحتاج للتخلص من المجاملات، وتغيير الدماء في شرايين و أروقة الثقافة

حنان كابو

اترك تعليق