تشكيل

الرسم التوثيقي

يوسف باشا القرامانلي


في الرسم أيضاً، هنالك بحث في المراجع وتدقيق وإعداد، فحتى يرسم الفنان موضوعا معينا يحتاج إلى دراسته بصريا، خاصة إذا ما كان المشهد المراد تصويره بالرسم غير متاح في الواقع ولا توجد صور فوتوغرافية كافية للاستعانة بها، وهنا يضطر الفنان إلى الاجتهاد والبحث في المراجع الورقية وعلى شبكة المعلومات العالمية وحتى عند أهل الاختصاص أو الشهود ممن يمتلكون فكرة عن الموضوع، مثل أن يستعين الفنان بالشيوخ وكبار السن من الرجال والنساء لتوثيق مشهد أو تقليد من الموروث الشعبي القديم الذي لم يعد له وجود.

ولوحة ” بائع الحلوى ” للفنان جمال دعوب خير مثال على هذا الاجتهاد، فعندما قرر الفنان رسم هذا المشهد البسيط في شكله العميق في معناه لم يجد نموذجا جاهزا يمكن النقل منه وانتهى الأمر، بل كان عليه أ يصنع ويخترع نموذجه، وهذا ما قاده – كما أتصور – إلى البحث في المراجع المختلفة والاستعانة بكبار السن والمختصين حتى خرج علينا بهذه التحفة الفنية التراثية المتكاملة والتي لن تعثر على مثيل لها لا في الصور ولا في الواقع، لأن هذه العادة اندثرت منذ زمن طويل مثلما اندثر الكثير من الأشياء الجميلة في حياتنا قبل أن تحظى باهتمام مصوري ذاك الزمن، ولاقت اللوحة فور نشرها على إعجاب الكثيرين من رواد الفيس بوك ووجدت صدى لدى المتلقي الذي حركت بداخله مخزون الذكريات ونفضت عنها  الغبار المتراكم بفعل الزمن وهذا ما عكسته التعليقات الكثيرة التي وضعت على هامش المنشور  .

أيضا هنالك تجربة أخرى للفنان صلاح الشاردة لم تكن لتتحقق لو لم يبحث الفنان ويجتهد في لملمة تفاصيلها من مصادر عدة، ونحن هنا نتحدث عن لوحته التي صوّرَ فيها شخصية مهمة من شخصيات مدينة طرابلس ونقصد بها شخصية ” يوسف القرمانلي” التي جسدها في لوحة تاريخية لم نجد لها شبيه في أي مكان آخر، فلرسم  صورة تقريبية ومرجعية للشخصية التاريخية الطرابلسية الشهيرة التي سطرت اسمها في تاريخ طرابلس قديما وأثرَ وجودها في مسارات السياسة الإقليمية تطلب الأمر من التشكيلي صلاح الشاردة أن يستعين بصور لأحفاد الشخصية والعودة إلى بعض المراجع التاريخية المخطوطة بهدف الاقتراب من حقيقة الشخصية وتجسيدها كما هي في الواقع، واستلزم هذا الأمر التواصل مع بعض محبي التاريخ الطرابلسي من الدارسين والباحثين حيثُ أثمرت هذه الجهود في إنتاج اللوحة، وقد بادر بعض الباحثين في التاريخ بالاستعانة بنسخ الكترونية منها لتعزيز معلوماتهم التاريخية في إحدى المحاضرات التي أُلقيت بدار حسن الفقيه حسن وتمحورت بعض أجزاءها حول هذه الشخصية الطرابلسية المؤثِرة.

وفي سياق حديثنا عن البحث والاجتهاد لا بد من أن نشير إلى تجربة الفنان عبدالرزاق الرياني المتخصص تقريبا في رسم التراث الطرابلسي كأزياء وكمعمار وكعادات اجتماعية وأجواء عامة وغيرها، حيثُ الفنان لا يكتفي برسم ما هو جاهز من المشاهد الموثقة بالصور أو الموجودة في نطاق بصره، بل أنه يصنع مشهده بيديه قبل تصويره فالفنان يؤلف ما يريد رسمه وفقا لرؤيته الفنية تماما كما يحصل في السينما ومن ثم يقوم بتصويره وتوثيقه بصرياً على سطح اللوحة ويمكن أن نستدل على هذا النهج بلوحته الأخيرة التي صوّرَ فيها بواقعيته المفرطة مجموعة من الأطفال وهم يمارسون لعبة الكرات الزجاجية الصغيرة ” البطش ” فيما إحدى الأمهات تطل برأسها من فتحة الباب الموارب بإحدى زوايا أو أزقة المدينة القديمة بطرابلس، فمثل هذا المشهد يتعذر رؤيته في الواقع اليوم أو في الصور ما لم يقوم الفنان بتأليفه من الألف إلى الياء ثم رسمه ليأخذ مكانته كعمل فني جمالي ومرجع بصري لظاهرة اختفت أو تكاد أن تختفي عند أطفالنا بعد أن تحولت اهتماماتهم إلى أشياء أخرى تقف على رأسها تطبيقات الهاتف المحمول وبرامج الأجهزة الإلكترونية اللوحية.

الذي نريد التنويه إليه هو أن الرسم وإلى جانب المتعة الناجمة عن ممارسته ومشاهدته يمكن أن يتحول إلى أداة توثيقية مهمة وجزء من المراجع التي قد يستعين بها الدارس لموضوع معين، وهذا العمل الفني مثلما يؤدي مهمته في الحاضر يُعول على دوره في المستقبل كونه أرث بصري بالإمكان ضمه إلى ما هو موجود في أرشيف الأمة، فلطالما اتجه علماء الاجتماع والتاريخ والأساطير إلى رسومات الإنسان الأول على جدران الكهوف لدراسة  الحقب الزمنية المختلفة واستخلاص النتائج التاريخية والاجتماعية منها، حدث هذا قبل اختراع آلة التصوير، وشكلت لوحات الرحالة وفناني عصر النهضة وما بعده وثائق تاريخية مهمة لدراسة المجتمعات القديمة في كل جوانب حياتها.

والبحث والدراسة والتنقيب في المراجع أمر لم يكن ضمن اهتمامات الفنان الليبي فيما أتصور ولكن ليس بعد هذه الأعمال وغيرها، وهذا يضع الفنان في تحدي مع ذاته ومع أدواته ويشكل انعطاف في تجربته الفنية التي ينبغي أن تأخذ أبعادا عدة ولا تكون ساكنة.

مقالات ذات علاقة

معتوق أبوراوي “اللوحات الغرناطيه”

منصور أبوشناف

قراءات تشكيلية.. في مديح الأسود والأبيض

ناصر سالم المقرحي

حدائق البهجة

ناصر سالم المقرحي

اترك تعليق