المقالة

الذاكرة والرائحة…

حتى الآن ـ وبعد خمسين عاماً تقريباً ـ يُمكنني أن أتذكّر الأشياء في طفولتِي بالرائحة.. فلماذا الرائحة بالذات؟

حين أشمّ رائحة الشيح أتذكّر حادثة قبل أن أدخل المدرسة.. حيث وضع راعي أغنامنا ـ وهو من أولاد علي ـ الشيح في الشاي.. ونحن ليس من عادتنا أن نفعل ذلك.. بل نضع الزعتر والحندقوقة وأعشاباً أخرى.. حادثة بسيطة وعابرة.. لكنّ ذهنِي يستدعيها بِمجرّد أن أشمّ الشيح.

حين أشمّ رائحة الخروب أتذكر انّنِي وقعت من شجرة خروب تنمو في بئْر خربة.. ارتقيت الشجرة من أجل قرون الخروب.. انقصف غصن الخروبة فسقطت.. ثُم سقطت مرّة أخرى في البئر الخربة.. فقدتُ وعيي.. ولَم أفق إلاّ في البيت وهم يسقونني عسلاً.

حين ينزل المطر لأوّل مرّة في الخريف.. وأشمّ رائحة الثرَى.. أتذكر أنّ السيل اجتاح بيتنا ذات ليلة.. هربنا في آخر لحظة إلى مكان مرتفع.. وأخذ السيل بعض أغنامنا.

يُمكنني أن أسرد عشرات الحوادث المتعلّقة بالرائحة.. فكل شيء كانت له رائحة.. وكانت حاسة الشّم قويّة.. حيث إننا لَم نتلوّث بعد.

نقول في تعابيرنا: (يا خالتِي عليك بَنّة أمّي).. وحين نذم شخصاً نقول: (لا بَنّة لا صَنّة).. فمن لا رائحة له مشكوك في وجوده أصلاً.

وفي عالَم الحيوان تلعب الرائحة دوراً فاعلاً في تحديد الشريك أو العدو.. فالرائحة جزء من الهويّة.. إنّها (الكود).. وجواز المرور في كثير من الأحيان.

حين تنفر النعجة ولَدها.. أو يريدون منها أن تُرضع خروفاً آخر مع ولدها.. يقومون بتغيير الرائحة.. بأن يرشّوا عليهما ملحاً مذاباً في الماء حتى تتوحّد رائحتهما.. وإلاّ فمن المستحيل أن تتقبل النعجة الأم رائحةً غير رائحة ولدها.

(الشَّمّ هو حاسة الذاكرة) كما يقول مارسيل بروست.. ويعقوب ـ عليه السلام ـ قال: (إنّي لأجد ريح يوسف).. لا يزال يحتفظ برائحة ابنه بعد غياب أربعين عاماً..!

مقالات ذات علاقة

ليلةُ ربط الأمتعة.. والاستعداد للعودة إلى أرض الوطن

المشرف العام

الفنان علي ماهر.. ملحن ومؤدٍّ ماهر

زياد العيساوي

الملحمة الليبية

المشرف العام

اترك تعليق