الشاعرة بدرية الأشهب.
دراسات

الدَّهْشَةُ الشِّعْرِيَّةُ في ديوان “أنا ليبيا”

الشاعرة بدرية الأشهب.
الشاعرة بدرية الأشهب.

منذُ أنِ اكتشَفَتْ ذَائِقَتي هَذهِ الْبَدْرِيَّةَ .. وَتَسَلَّلتُ إلى مَخْدَعِهَا الشِّعْرِيِّ الدَّفِيءِ ، وَأَنَا أَتَوَسَّمُ فِيهَا الشَّاعِرَةَ الْقَادِرَةَ على تقديمِ الدَّهْشَةِ الشِّعْرِيَّةِ في الشِّعْرِ العَامِيِّ لأنها تقبضُ على الحسنيينِ ، التُّرَاثِ وَالْمُعَاصَرَةِ .. الواقعيَّةِ الكلاسيكيَّةِ التي توفِّرُهَا العودةُ للمأثورِ ، والاعتِمَادُ علِى التِّرَاثِ بِكُلِّ تَسْمِيَاتِهِ وَوُجُوهِهِ .. وَالرُّومَانسيَّةِ التَّيَّاهَةِ المحلِّقَةِ بأَجْنِحَةِ الخيَالِ المضمونَةِ في عوالِمِ الحداثةِ بكلِّ جنوحِهَا وجموحِهَا .. ذلكَ منذ أن عَانَقَتْ قلبي قصائدُهَا في دِيوَانِهَا (نقطة ضعف) وما بعدَهُ من دَوَاوِينَ ، تعجبُني مُزَاوَجَتُهَا بينَ التَّرَاثِ وَالحدَاثَةِ .. فهي لم تنحزْ لهذا على حِسَابِ ذاكَ ؛ بل انبَرَتْ لتوظيفِ الاثنينِ لخدمَةِ النَّصِّ الشِّعْرِيِّ ، كما أنَّهَا لم تَسْجُنْ قَصَائِدَهَا في شَكْلٍ بِعَيْنِهِ .. فَكَانْتِ عَلَى الدَّوَامِ كَاسِرَةً لِلْقوَالِبِ الْجَاهِزَةِ .. بَاحِثَةً عنِ آفَاقِ التَّجديدِ .. مُوعِزَةً لخيَالِهَا الشِّعْرِيِّ بالتَّحليقِ ، وَلِشِعْرِهَا الرَّهِيفِ بالانْطِلاقِ إلى أَبْعَدِ الأَمْدَاءِ .. فما يُقيِّدُ شِعْرَنَا العَامِّيَّ هو الخوفُ منَ التَّجْدِيدِ ، والتَّوَجُّسُ من بَوَارِقِ التَّطوُّرِ ، ليبقى الاعتمَادُ ـ أبدًا ـ على الشِّكْلِ القَدِيمِ للشِّعْرِ المؤطَّرِ في قَوَالِبَ مَوْرُوثَةٍ مما يكسِرُ أجنحَةَ القصيدَةِ .. وَيُقَيِّدُ خَيَالَهَا .. وَيَئِدُ جُنُوحَهَا الافْتِرَاضِيَّ المأمولَ .. وهل يعيشُ الشِّعْرُ بغيرِ خيالٍ .. أم هل يصبحُ الشِّعرُ شِعْرًا من غيرِ أن يمتلِكَ جَنَاحينِ من خيَالٍ وحلمٍ ، بل هل كانَ الشِّعْرُ اِبْنًا لغيرِ الجنوحِ والجموحِ ..!؟

وفي ديوانِهَا ( أنا ليبيا ) سَعَتِ الشَّاعِرَةُ بدريَّة الأشهب إلى الوصولِ للمتلقِّي عن طريقِ التَّكثيفِ الشِّعْرِيِّ .. وإبلاغِهِ رَسَائِلَهَا الملغَّمَةَ بِالْعِشْقِ وَالْغَضَبِ وَالْحُلُمِ وَالضَّوْءِ بْوَجَازَةٍ شِعْرِيَّةٍ ، عبرَ هَذَهِ المثمَّنَاتِ التي تعدُّ تجربَةً شعريَّةً جديدةً تجمعُ بينَ لُغَةِ الرُّبَاعيَّاتِ ، وجموحِ الشِّعْرِ الرُّومانسيِّ وغنائيِّتِهِ ، وَقَدْ كانتِ الرُّبَاعِيَّاتُ الشِّعْرِيَّةُ مُنْتَجًا نِسَوِيًّا أَبْتدَعتْهُ المرْأَةُ اللِّيبيَّةُ الشَّاعِرةُ حينَ كانتْ تُدِيرَ رَحَاهَا لِتُحَرِّكَ الحيَاةَ من حَوْلِهَا .. تحييها لتحيَا .. فَتُعَاني جَرَّاءَ مُعَارَكَةِ ثقلِهَا مُعَانَاةً جَسَدِيَّةً فادحةً .. فتجنحُ للغنَاءِ تناسيًا للعذابِينِ الجسديِّ والنَّفْسِيِّ ، وقفزًا على الآلامِ والأَوْجَاعِ ، وَتَحَايْلاً على الْجِرَاحِ المتربَّصَةِ بأعماقِها ، هي نزهةٌ نفسيَّةٌ ذاتُ بعدينِ منفعيٍّ: لإِسْكَاتِ أنينِ الجسَدِ ، وترويحيٍّ لإخفَاتِ حنينِ الرُّوحِ .. فتذيبُ خلالَ دورَانِهَا الشَّاقِّ الشَّائِقِ جِبَالَ الآلامِ ، وتذهبُ غماماتِ الأحزَانِ والأدرانِ .. وتصنعُ لنفسِهَا فرحًا ـ ولو طَارِئًا ـ تهوينًا للعذابِ ، وتسكينًا للجراحِ ، لذا غَدَتِ الرَّحا قرينَةً للقصيدةِ ، وَشَاهَدًا على ميلادِها . وفي بعض الأحايينِ تغدو قابلةَ المعاني ، فبعضُ النِّسْوَةِ اعتدَنْ على نسجِ قَصائدهِنَّ على وقعِ ضَجِيجِهَا .. فلا يأتيهُنَّ الإلهامُ الشِّعْرِيُّ إلاَّ وَهْيَ تَسْتَلْقِي أَمَامَهُنَّ .. صَارَتْ مُسْتَحْلبًا لِلشِّعْرِ .. فَضْلاً عن أنَّهَا تَطْحَنُ بِدَوْرانِهَا المنغِّصَاتِ النَّفْسِيَّةِ كَالعَذَابِ وَآلامِ الْبِعَاد ِوالفقرِ والبؤسِ والفقدِ وغيرِها .. وَتَجْرَشُ بِفَكِّيهَا الصِّخْرِيِّينِ الْحُبُوبَ وَالْعُيُوبَ ، وتجرفُ الهمُومَ والأشجَانَ والأحزَانَ.

والمثمَّنَاتُ الشِّعْرِيَّة تَتَكَوَّنُ من أربعَةٍ أبيَاتٍ مُنْشَأَةٍ على طريقةِ القصيدَةِ البيتيَّةِ ، بتكوُّنِ كلِّ بيتٍ من صَدْرٍ وَعَجْزٍ ، وَهْيَ أَبْيَاتٌ سَرِيعَةُ الإِيقَاعِ بِسَبَبِ قُصْرِ بَحْرِهَا المنسوجَةِ عَليهِ .. فهيَ أشبهُ بهَمْسَةٍ عَجْلى .. أو قبلةٍ مختلَسَةٍ ، أو وَشْوَشَةٍ سَرِيعَةٍ خاطفةٍ ، أو شُرْبِ جُرْعَةِ ماءٍ لظمآنَ .. أو التهَامِ لقمَةٍ صغيرةٍ لجائعٍ .. ولطالما كانَ الإِيجازُ دليلَ إعجَازٍ ، وَسبيلَ إِنجَازٍ.
وفي قِرَاءَةٍ جَدِيدَةٍ لِعنَاقِ المرأةِ الشَّاعِرَةِ لِلرَّحَا تَرْسِمُ لنا بَدريَّةُ الأشهبُ هَذِهِ الْمَشْهَدِيَّةَ الْمٌدْهِشَةَ ، وَهْيَ أَشْبَهُ ما تَكُونُ بِقِصَّةٍ قَصِيرَةٍ أَوْ لُوحَةٍ مُعَبَّرَةٍ .. فَقَلْبُهَا يَنْبِضُ دَقِيقًا ، وَالرُّقْعَةَ الْمُمْتَدَّةُ تَحْتَهَا تَجْمَعُ ذَرَّاتِ الدَّقِيقِ المتنَاثِرَةَ ( ورقعة تلملم ابكاها ) ، وَهْيَ صُورَةٌ بَالِغَةُ الرَّوْعَةِ وَالإِدْهَاشِ .. وَمِنْ عَطْفِهَا وَحُنُوِّهَا عَليها وَهْيَ تُلْقِمُهَا الْقَمْحَ لَكَأَنَّها أُمٌّ حَنُونٌ رَؤُومٌ تُلْقِمُ أَبْنَاءَهَا بَأنَاملِهَا .. فَهْيَ تُمْسِكُ سَاقَهَا الْخَشَبِيَّةَ الْمُخْتَرِقَةَ عُمْقَ الرَّحَا بِيَدٍ ، وَبَالأُخْرَى تُطْعِمُهَا الحَبَّ بِقَدْرٍ في جَرَعَاتٍ صَغِيرَةٍ..
تمسك ( الشظّ ) في ليد
وبالأخرى تْطعم رحاها
تسرِّب لها القمح تسريب
( مينا ) اتوكِّل ضناها
الرَّحى حيط ( بركان )
لكن المولى عطاها
قلب ينبض دقيق
( ورقعة ) تلملمْ ابكاها

فَحِينَ نُنْصِتُ لَهذهِ المثمَّناتِ تعودُ بنا الذَّاكِرَةُ لأيَّامِ الرَّحا .. وتحملُنَا هِذهِ الأَشْعَارُ إليها ، ولعلَّ الموجَزَةَ الشِّعريَّةَ السَّابِقَةَ قد نقلَتْ مَشْهَدًا حَيًّا لتلكَ الحقبَّةِ الزَّمنيَّةِ حينَ كانتِ الرَّحَا ضرورةً من ضَرُورَاتِ الْبَيْتِ ، فَكَانَتِ اللُّقْمَةُ المعجونَةُ بالْعَرَقِ وَالْوَجَعِ وَالْكَدْحِ ، وَكَانَ الشَّجَنُ وَالْقَصِيدَةُ وَالغنَاءُ.

مثمَّناتٌ صُوفِيَّة /

وبدريَّةُ الأشهب تمتلكُ القدْرَةَ على السِّبَاحَةِ في عَوَالِمِ السُّمُوِّ وَالرُّقِيِّ وَالْبَهَاءِ ، وَتُجِيدُ التَّحْلِيقَ في فَضَاءَاتِ النَّقَاءِ وَالطُّهْرِ عَبْرَ مَقْطُوعَاتٍ تَنْضَحُ صُوفِيَّةً وَتَبَتُّلاً وَإِنَابَةً ، تَسْتَقِي نَقَاءَهَا من معينينِ رَائِقِينِ صَافِيِينِ هما الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ .. وَتَسْتَلْهِمُ سيرةَ الرَّسُولِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وَأَخْلاقَهُ وَسُلُوكَهُ .. وما فيها من مواعظُ ومواقفُ تدعو إلى الأعمَالِ الخيَّرةِ ، وتنفِّرُ من كلِّ ما يغضبُ اللهَ ويحبطُ العملَ ، وَيُبْعِدُ المرءَ عن خَالِقِهِ وَمُولاهُ.

وتنطقُ بهذه الصُّوفيَّةِ نصوصٌ كثيرةٌ مثلُ : ( القلم ، دعوة أمّ ، القضاء والقدر ـ الخمر ـ السِّرُّ ـ الرزق ـ الربَّان ـ القزُّون ـ الهلال ـ الحجُّ ـ دعاء ـ المهانة).

مثمَّناتٌ حِكْميَّة/

لحكمةٍ ما تكثرُ الشَّاعِرَةُ مِنَ الاتِّكَاءِ عَلَى الأَمْثَالِ وَالتَّعَابيرِ الشَّعْبِيَّةِ السَّائرَةِ ، وهْيَ تَمْتَلِكُ مقدرَةً على توظيفِها في كثيرٍ من نُصُوصِهَا ، تزجُّهَا في أعمَاقِ أبياتِهَا ، فمثمَّنَاتُهَا مُكْتَظَّةٌ بالأَمْثَالِ الحكيمَةِ الْوَاعِظَةِ .. مَأْهُولَةٌ بِالْعِبَرِ .. والأمثالُ الحكيمةُ مُنْتَقَاةٌ من تَراكُمِ خِبَرَاتٍ بَشَرِيَّةٍ عَبْرَ أَحْقَابٍ مُخْتَلِفَةٍ فَاضَتْ بِهَا تَجَارِبُ الْحُكَمَاءِ ومواعِظُ العقَلاءِ .. وقدِ اسْتَطَاعَتِ الشَّاعِرَةُ توظُيفَهَا في نُصُوصِهَا بِقَصْدِيَّةٍ مُوَفَّقَةٍ بُغْيَةَ إِيصَالِ حكمٍ بليغَةٍ مؤثِّرَةٍ .. عبرَ رَسَائِلِ شِعْرِيَّةٍ شَدِيدَةِ الأَثَرِ .. فعَّالَةِ التَّأْثِيرِ أيضًا ..
فَفِي قَصِيدَةِ ( تمرُّد ) تقولُ ( خارج أسرابي نغرِّد ) وهذا منِ التَّعَابِيرِ السَّائِرَةِ المعروفةِ.

وفي قصيدَةِ ( الشِّمْلة ) ( وكل ينهض بثقله ) ، وهو تعبيرٌ شعبيٌّ ( كل حد ينوض بحمله ) وبعضُهُم يرويْهِ عَلَى هَذِهِ الشَّاكِلَةِ ( ما تنوض إلاَّ بْحملها ).
أمَّا في قصيدةِ ( ابني ) فتوردُ هذا المثلَ ( نا دوم قلبي على ابني ) ، فـ ( قلبي على ابني ) تعبيرٌ عربيٌّ معروفٌ موروثٌ وتسرَّبَ إلى أحاديثِ العامَّةِ أيضًا.

وفي قصيدَةِ ( رَبّ المساكين ) تستعينُ بهذا المثلِ: ( وين العرق طاح في العين ) ، وهو تعبيرٌ شعبيٌّ يُكنَّى بِهِ عنِ اشتدَادِ الأمورِ وَبُلُوغِهَا ذِرْوَةَ التَّأَزُّمِ وَالتَّعْقِيدِ.
وفي قصيدَةِ ( قـزَّون لمّ ) تقول :
اللِّي يموت بوه ما يحير
يلقى الرَّكبة ويغفى
فهذا إِعَادَةُ إِنْتَاجٍ لمثلٍ مَعْرُوفٍ ( اللِّي يموت بوه يتوسَّد الرَّكبَة ، واللِّي تموت أمَّه يتوسَّد العتبة)كِنَايَةً عَلَى مَقْدِرَةِ الأُمِّ عَلَى تربيَةِ الأَبْنَاءِ وَالصَّبْرِ على ذلك أكثرَ منَ الأَبِ الِّذِي ـ غَالبًا ـ مَا يَتزَوَّجُ بِأُخْرَى تُرْغِمُ أَوْلادَهُ على مُفَارَقَةِ الْبِيتِ.
وتذكرُ هذا المثلَ ( الترقيع ما يفيد بايد ) في قصيدَةِ ( النَّار ) وهو يمثُّلُ بالمثَلِ المعروفِ ( ما ينفع في البايد ترقيع )

وفي قصيدَةِ ( جيرة ) تقولُ : ( والوقت سيفه قسمني ) وكما هو واضحٌ أنها تستحضِرُ المثلَ العربيَّ ( الوقت كالسَّيف ..)

وفي قصيدَةِ ( الجيرة ) أيضًا استعانت بتعبيرٍ شعبيٍّ معروفٍ وهو ( رزق الأخ عند خوه ) ، حين قالت: ( رزق خو عند خوه ).

وفي قصيدةِ ( الغربة ) تقولُ: تبني من خوف الرياح . حطَّيت فوق من مذاري.
الشَّائِعِ: ( حِطّ المذاري حَ التَّبن ) تَعْبِيرًا عَنِ التَّسْلِيمِ بَالأَمْرِ الْوَاقعِ وَالاقتنَاعِ بِالنَّتَائِجِ الظَّاهِرَةِ.

وتعدُّ قصيدَةُ ( الموجِ ) مِثالاً وَاضِحًا لاتِّكَاءِ الشَّاعِرَةِ عَلَى قَامُوسِ الأَمْثَالِ وَالتَّعَابِيرِ الشَّعْبِيَّةِ ، وَحُسْنِ تَوْظِيفِهَا ، فَهْيَ مُحْتَشِدةٌ بِالأَمْثَالِ الشَّعبيَّةِ ، بَعُضُهَا مَأْثُورٌ أَعَادَتْ إنتاجَهُ بصياغَةٍ شِعْرِيَّةٍ جديدَةٍ ، وبعضٌ من إِنتاجِهَا هِيَ ، إذ تقولُ فيها:
تكسر الريح لمواجْ
والموج يكسر الصارى
والعيب يكْسر حجاج
واللّي يكرهكْ ما يواري
واللّي صاحبك وين يحتاج
وغلطتـك ما يـداري
يْبيعـك يدلِّل حـراج
وتضيع بين بايع وشاري

وَيُمْكِنُ أَنْ نُعَانِقَ كَثِيرًا مِنَ الْحِكَمِ والأمثالِ وَالتَّعَابِيرِ الشَّعْبِيِّةِ تَعْرِضُ فِتْنتَهَا في ثَنَايَا نُصُوصٍ مِثْلِ (ما طار طير ـ الموج ـ الفلوس ـ النَّصِيحة ـ الزمان ـ الرزق ـ الخلُّ الوفيُّ ـ الحشيش ـ النار ـ السَّيَّة ـ الشَّكْوَى ـ الحرُّ ـ الناسُ ـ العيد ـ الخيانة).

القصيدة / القصَّة:

تمتلكُ بدريَّةُ الأشهبُ مَلَكَةَ الْقَصِّ الْعَفْوِيِّ ، القصيدةُ عندها إرهاصَةُ قصَّةٍ .. بذرةٌ لأقصوصَةٍ ما .. مَشْرُوعُ حِكَايَةٍ مَشُوقَةٍ ؛ فَجُلُّ قَصَائِدِهَا تَحْمِلُ أَعْرَاضَ الْقِصَّةِ الْقَصِيرَةِ ، أو الحكَايَةِ أَحَيَانًا ، ذَلِكَ وَهْيَ تَتَدَرَّجُ بِنُصُوصِهَا الشِّعْريَّةِ بمنظورِ السَّرْدِ القصصِّي ، تمامًا كَمَا يفعلُ القاصُّونَ ، فَهْيَ تُحْسِنُ المبتدرَ الشِّعْرِيَّ بِحُسْنِ اِخْتِيَارِ مَطَالِعِ الْقَصَائِدِ ، ثم تَمْضِي بالقصيدَةِ بسلاسَةٍ ومنطقيَّةٍ ، مُصَعِّدَةً الحدَثَ الشِّعْرِيَّ / القَصَصِيَّ ، مُحَقِّقةً التَّأزُّمَ الدَّرَامِيَّ ، مُرُورًا بِالقَصِيدَةِ / الْقِصَّةِ مِنْ عُنْقِ الزُّجَاجَةِ ، وُصُولاً إلى النِّهَايَةِ بْمُفَارَقَاتِهَا الْمُدْهِشَةِ ، وَأَنْوَاعِهَا المختلفَةِ .. وَجُلُّ قَصَائِدِهَا تَحْمِلُ صُورًا قَصَصِيَّةً مَاتِعَةً , أَوْ مَا يُسَمَّى بِالْقَصِيدَةِ الْقِصَّةِ لاعْتِمَادِهَا عَلَى السَّرْدِ الْقَصَصِيِّ , فَضْلاً عَنْ شِعْرِيَّتِهِ ، كَمَا في قَصَيْدَةِ ( خيبة أمل ):
مـن قبل ما يزقزق الطير
البستْ جـردي لويتا

حْلمتْ وإن شا لله خيـر
عقلي نهبني وجيتا

بْقلبي على البـاب دَقَّيت
لقيتا ومـا لقيتا

تغيَّرت يا وليـد كبـدي
ما تقول من ( البايا ) سقيتا

********
وَمِنْ مميِّزَاتِ أَشْعَارِ هَذِهِ المجمُوعَةِ أَنَّ بعضَ القصَاِئدِ يُمْكِنُ أَنْ نُقَدَّمَ صُدُورَهَا عَلَى أَعْجَازَهَا فَلا يَتَغَيَّرُ المعنى ، وَهَذِهِ مَقْدِرَةٌ مُبْهِرَةٌ أُخْرَى تُحْسَبُ لِلشَّاعِرَةِ الْمُجِيدَةِ ، مثلُ قصيدةِ ( حضور ) التي تقولُ فيها:
أنا حايـرة في شعـوري…
زعم حُـبّ وإِلاَّ إعجــاب .!؟
يلغي حضـوره حضـوري
طاغـي حضـوره وْمهـاب
يكسـر غـروره غـروري
وننتفـض لـه سحــاب
يْغيـب ياخـد ســروري
نلبـس غيـابـه ثْيـاب

وَيُمْكِنُ أَنْ نقلبَ الصُّدُورَ أَعْجَازًا وَالْعَكْسُ فَلا يَتَغَيَّرُ شَيْءٌ في مَعْنَى الأَبْيَاتِ ولا في مَبْنَاهَا ، لِتَغْدُوَ القصِيدَةُ بعدَ القلْبِ هكذا:
زعم حُبّ وإِلاَّ إعجـاب .!؟
أنا حايـرة في شعـوري ….
طاغـي حضـوره وْمُهَـاب
يلغي حضـوره حضـوري
وننتفـض لـه سحــاب
يكسـر غـروره غـروري
نلبـس غيـابـه ثْيـاب
يْغيـب ياخـد ســروري

كَمَا هُوَ الحَالُ في قَصِيدَةِ (قطرة ندى) التي تقولُ:
نزْلَتْ ملاها خجلها
فـوق من كْفوف النسيم
بْرقـَّةْ خذاها وْحَملهـا
فـوق خـَدّ زهرة تْقيم
رَبّ البريَّـة جـعلهـا
لا هـي مطـر لا بْغيـم
طبيعة فِ طبيعة وصلها
سبحــان ربِّي العظيم

وبعدَ إِحْدَاثِ التَّقديمِ وَالتَّأْخِيرِ بينَ صُدُورِ الأَبْيَاتِ وَأْعَجَازِهَا تصبحُ هَكَذَا :
فوق من كْفوف النسيم
نزْلَتْ ملاها خجلـها
فـوق خـَدّ زهرة تْقيم
بْرقـَّةْ خذاها وْحَملهـا
لا هـي مطـر لا بْغيـم
رَبّ البريَّـة جـعلهـا
سبحــان ربِّي العظيم
طبيعة فِ طبيعة وصلها

وقد لاحَظْنَا أَنَّ الأَبْيَاتَ في القصيدَتينِ وَإِنْ تُبُودِلَتْ فيها الأَدْوَارُ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا بَيْنَ الصُّدُورِ وَالأَعْجَازِ ، إِلاَّ أَنَّهُ لم يَطْرَأْ مَا يَعِيبُ مَعَانِيهَا وَمَبَانِيهَا .. أليسَ هذا مُدْهِشًا .. فَاتِنًا .. وَمَشُوقًا أَيْضًا ..!؟

ومن مَزايا أشعَارِ بدريَّة الأشهب الأخرى أَنَّ بعضَ خواطِرِهَا الشِّعْرِيَّةِ هيَ التقاطاتٌ بسيطَةٌ ذكيَّةٌ لحوادثَ ما .. أو ذكرياتٍ مرَّت .. أو واقعٍ كانَ مُعَاشًا ثم انتهى كما هو الحالُ في قصيدةِ (البريد) التي تقولُ فيها:
زمـان كـان البـريد
ايجينا على ( البشكليطة )
رسـايل تهـاني العيـد
هـدايا صغيـرة بسيطة
جوابـات بْخـط ليــد
وقلب تحتـه انقيطـة
وسهم وسـط الوريد
ينقـط على البشكليطـة

وبعضُهَا اجْتِمَاعيَّةٌ تنضوي تحتَ مظلَّةِ الوعظِ الاجتماعيِّ المنطلقِ من مُؤَثِّرَاتٍ دينيَّةٍ ، تنطقُ بها أغلبُ قصائدِ الدِّيوَانِ ، وقد لاحظْتُ الإِكْثَارَ منَ الحدِيثِ عَنِ الْوَالِدِينِ ، وَالتَّحَسُّرَ على فَقْدِهِما ، وَالاعْتِزَازَ بِالأُخُوَّةِ أَحْيَانًا ، وَبِالتَّضَجُّرَ من نكرانِهم وإساءاتِهمِ في أحيانٍ أُخْرَى ، فضلاً عنِ الحديثِ الجدِّ وَالجدِّةِ والخال والعمِّ وَالأبْنَاءِ ، وحَدِيثِهَا عَنِ الأَصْدِقَاءِ وَالنَّاسِ وعلاقاتِهم ببعضِهِم بعضًا ، والخوضِ في موضوعَاتٍ اجتماعيَّةٍ أخرى كَالْجِوَارِ وَدَارِ الْعَجَزَةِ وَالْفَقْرِ والغنى وَالْعَدْلِ والظُّلْمِ وَالإِحْسَانِ وَالإِسَاءَةِ لِلنَّاسِ وَغَيْرِهَا.

تَأَثُّرُهَا بْالتُّرَاثِ الْعَرِبِيِّ:
وفي الصَّدَدِ ذَاتِهِ تَقَوْلُ الشَّاعِرَةُ بدريَّةِ الأشهب في إِحْدَى مَقْطُوعَاتِهَا الْمَوْسُومَةِ بِـ ( الخديعة):
وَدَّيتك وبالغت في الودّ والودّ عندي طبيعة
درتك حبيبي بْجِدّ واللِّي نْحبَّه نْطيعه

وَكَأنِّي بها أَرَادَتْ أَنْ تُذَكِّرُناَ بهذا الْبَيْتِ:
تَعْصِي الإِلَهَ وَأَنْتَ تُظهِرُ حُبَّهُ هذَا مُحَالٌ فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ
لَو كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ

أَمَّا في هَذَا الْبَيْتِ الوَارَدِ في قصيدَةِ ( النَّفْسِ ):
أخباث النَّوايا كما النَّار لابـدّ تـاكـل بعضها
فهي تَسْتَحْضِرُ من خلالِهِ بَيتي الشَّاعِرِ العربيِّ ابنِ المعتزِّ :
اِصبِر عَلى حَسَدِ الحَسودِ فَإِنَّ صَبرَكَ قاتِلُهْ
فَالنَّارُ تَأكُلُ بَعضَها إِن لَم تَجِد ما تَأكُلُهْ
فَلَكَأَنَّ الْبَيْتَ قَدْ أُنْشِئَ عَلِيهُما ، وَهَذَا نِتَاجُ الاطِّلاع الْوَاسِعِ الْوَاعِي عَلَى الْمُورُوثِ الْعَرَبِيِّ الْفَاخِرِ ، وَعِنَاقِ تِلْكَ الكنوزِ النَّفِيسِةِ التي لا تَصْدَأ وَلا تَبِيدُ..

احْتِفَاؤُهَا بِالطَّبِيعَةِ/
وَالشَّاعِرَةُ تَحْتَفِي بِطَبِيعَةِ بَلادِهَا السَّاحِرَة بِبَحْرِهَا وَشَوَاطئِهَا وَشَفَقِهَا الأُرْجُوَانِيِّ .. وَتَتَخَيَّرُ عِبَارَاتٍ جَمِيلَةً تَتَضَافَرُ لِنَسْجِ قَصِيدَةٍ مدهشَةٍ في الغالِبِ .. فهي عندما أرادَت وَصْفَ الشَّفَقِ الأَحْمَرِ السَّاجِي الْبَحْرِ قَالَتْ:
(جرحوا شفقها وسال .. جرى في عروقي حياني)
فهي هنا تُقَابِلُ بينَ الجرحِ رمزِ الحزنِ والموتِ ، وبينَ سَرَيَانِ الدَّمِ في العروقِ كدالٍّ على الحيَاةِ .. وَهْيَ مُقَابَلَةٌ مُوَفَّقَةٌ رَسَمَتْ مَشْهَدَ الْغُرُوبِ بِدِقَّةٍ مُتَنَاهِيَةٍ وَبِتَعْبِيرِيَّةٍ مُبْتَكَرَةٍ مُؤَثِّرَةٍ .
بَدْرِيَّةُ الأَشْهَب مُغْرَمَةٌ بِالْمَكَانِ .. مَأَسُورَةٌ بِحُبِّ الْوَطَنِ .. مَأْخَوْذَةٌ بِحُبِّ مَدِينَتِهَا بِنْغَازِي .. بَأَمَاكِنِهَا الآسِرَةِ .. تَتَغَزَّلُ فِيهَا غَزَلاً جَمِيلاً يَنْسَابُ بعفوِيَّةٍ لا تصنُّعَ فيها كما في قصيدةِ ( برنيق ) الاسْمِ الْقَدِيمِ لِبَنِغَازِي ، فَهْيَ الْكَرِيمةُ الْمِعْطَاءُ التي تَسْقِي بِكَفِّهَا الطُّيُورَ / الأَبْنَاءَ ، وَهْيَ المعشُوقَةُ التي تَتَطَوَّعُ النَّسْمَاتُ لِتَمْشِيطِ شَعْرِهَا فِيمَا تَحْرِسُ الشَّوَاطِئُ بَحْرَهَا ، فَهَا هِيَ تَقُولُ في رُومَانِسِيَّةٍ عَالِيَةٍ:
( من كفَّها يشـرب الطير
( تكـدّ ) النسايم شعرْها
تشـوف النـَّوارس طوابير
تحـرس شواطي بحـرها
وَهْيَ الْعَرُوسُ التي تُزَفُّ عَلَى إِيقَاعَاتِ الدُّفُوفِ وَالطُّبُولِ ، يُضِيئُهَا قَمَرُهَا السِّاطِعُ الَمُنِيرُ ، فَهْيَ (فنارٌ) دَائِمٌ السُّطُوعِ .. وَهْيَ التَّاريخُ السَّائِرُ أَبَدًا بِلا تَوَقُّفٍ مَهْمَا حَاوَلَ الطُّغَاةُ كَسْرَهَا فَإِنَّ رَبَّ ( برنيق ) يَجُبْرُ كَسْرَهَا في إِشَارَةٍ إلى صُمُودِهَا التَّارِيخيِّ الْمُتَكَرِّرِ في وَجْهِ حَمْلاتٍ وَغَزْوَاتٍ وَاعْتِدَاءَاتٍ وقعَتْ عَلِيَهَا عبرَ حُقَبٍ تاريخيَّةٍ مختلفَةٍ . فَقَدْ ذَهَبَ الطُّغَاةُ الْمُعْتَدُونَ إِلَى مَزَابِلِ التَّاريخِ ، وَبَقِيَتْ هَيَ مَنَارَةً مُضِيئَةً صُمُودًا وَجِهَادًا وَصَبْرًا وَشُمُوخًا:
يزفنها طْبـول وبنـادير
( فنار ) ضيَّها من قمـرها

( برنيق ) يا ركـب ويسيـر
كسـروها وربِّي جبـرها

يتَّسِعُ قاموسُ بدريَّة الأشهب ليستوعبَ الأمسَ بكلِّ تفاصيلِهِ ( الدقرة ، الزناد ، الحلاط ، التليلة ، الجرد ، الكاط ، البخور ، الرحى ، الشظ ، المينا ، الرقعة ، الحضرة ، المشكاي )
كما أنَّها تلوذ بتعابير قديمة لكنها لم تزل تجري على الشفاه لـ(قزَّون – فزّ – بشكليطة – تضبيطة – طرالي وجرالي – يشايل ) (المعارك – السلامي – جليانه – القبيلة)

بدريَّةُ الأشهبُ تَكْتُبُ القصيْدَةَ العَامِّيَّةَ المثَقَّفَةَ .. القصِيدَةَ التي يمكنُ أَنْ يفهَمَهَا كُلُّ قارئٍ بالعربيَّةِ .. فقاموسُهَا الشِّعْرِيُّ تَزْدَحِمُ فِيهِ المفردَاتُ الفصيحَةُ ، أو المخفَّفَةُ من الْفُصْحَى .. فليسَ ثمَّةَ صعوبَةٌ تذكرٌ يُوَاجِهُهَا قَارِئُ أَشْعَارِها وهو يبحرُ في نصوصِهَا الماتَعَةِ .. القصيدةُ لديها مولودٌ واعٍ .. يولدُ ناضجًا .. لا يصرخُ كأيِّ مولودٍ جديدٍ ليحيا .. وإنما يهمسُ .. يجادِلُ .. يستفزُّ .. يُزَاحِمُ بصوتِهِ الهادِئِ ليبقى .. وهذهِ مزايا القصيدَةِ الواعيَةِ .. وهذهِ المثمَّنَاتُ الشَّعريَّةِ ارتيادٌ بكرٌ للشَّاعِرَةِ المثَابِرَةِ لخلِقِ فنٍّ جديدٍ .. بنفسٍ قصيرٍ .. لكنَّهُ عميقُ الرُّؤَى .. غزيرُ المضامينِ والمعاني .. مكتظٌّ بِالدَّلالاتِ وَالإِيحَاءَاتِ .. ذكيٌّ بانزيَاحَاتِهِ .. لَمَّاحٌ بِإِشَارَاتِهِ المرَمَّزَةِ .. المثمَّناتُ نصوصٌ قصيرةٌ مكثَّفَةٌ .. لكنَّهَا شَدِيدَةُ الانْفِجَارِ .. وفي ديوانِهَا ( أنا ليبيا ) تحاولُ بدريَّةُ الأشهب أنْ تُؤسِّسَ لنمطٍ شعريٍّ جديدٍ .. عبرَ نصوصِ المثمَّناتِ ، متحدِّيَةً نفسَهَا ، متجاوزةً الأنماطَ الشِّعْرِيَّةَ السَّائِدَةَ .. مُكَسِّرَةً الشَّكْلَ القبرِيَّ للنُّصُوصِ الاتباعيَّةِ .. ففي هذهِ النُّصُوصِ المختزلَةِ ، والمضغوطَةِ بعنايَةٍ حتى غَدَتْ كَبْسُولَةً شِعْرِيَّةً مركَّزةً بَالِغَةَ الْفَاعِلِيَّةِ ، شديدَةَ الانفجارِ الانفعاليِّ .. فَادِحَةِ التَّأْثِيرِ ، زَاوَجَتْ بدريَّةُ الأَشهب بينَ النُّصُوصِ الْمُغْرَقَةِ في الْعَامِّيَّةِ والأخرى الحَالِمَةِ المبحرَةِ في عوالمِ الرُّومانسِيَّةِ ، وهيَ تستدعي عبرَ بعضِهَا مَاَضيًا مُزْدَهِرًا بِكُلِّ تفاصيلِهِ .. والمحاولةُ ليسَتْ قفزةً في الهواءِ ، ولا ركضًا في الاتجاهِ الخطأِ.

_____________________________________________

اجدابيا /20/7/2009

* جزء من دراسة مطوَّلة عن الشاعرة والديوان ..

مقالات ذات علاقة

سؤال الهوية في خطاب القصة الليبية القصيرة

المشرف العام

العلاقة بين النص والعرض في الدراما

المشرف العام

الديمقراطية المعاصرة تحديث للاستبداد الكلاسيكي

المشرف العام

اترك تعليق