حوارات

الدكتورة فريدة المصري تحكي تفاصيل عن روايتها (أسطورة البحر)

حاورها: يونس شعبان الفنادي

الكاتبة فريدة المصري
الكاتبة فريدة المصري

(أسطورةُ البحر)… عمل أدبي إبداعي يحمل في ذاته الكثيرَ من التصنيفات التي تشاكس المصطلحات الفنية للأجناس الأدبية… طرّزته الكاتبة بلغة شاعرية رقراقة في ثلاث مشمومات جميلة وفوّاحة… تعبق بأنفاس المكان الطرابلسي الخالد في أعماقنا وتاريخنا وذكرياتنا… ذاك المكان الذي… ((له حجّتِ الركبانُ من كُلِّ جَانبِ.. جميعاً أتوا مِنَ المشارقِ والمغاربِ))… كما جاء في بيت سيدي أحمد البهلول والذي تصدر الرواية.

أسطورة البحر… عمل روائي مُهْدَى إلى كل أحبة وعشاق المدينة التي أحبتها وعشقتها الكاتبة الدكتورة فريدة المصري أستاذة الأدب العربي بكلية اللغات قسم اللغة العربية جامعة طرابلس والتي تميزت باهتمامها واعتنائها بأدب الطفل وإبداعاته، كما تعد ناقدة أكاديمية لأدب أطفال في ليبيا. وقد أصدرت ضيفتنا الدكتورة فريدة المصري عدة مؤلفات، يمكن أن نطلق عليها أكاديمية تخصصية، من بينها: أدب الأطفال في ليبيا في النصف الثاني من القرن العشرين، والأداء النفسي بين التذوق الفني والالتزام. وها هي تفاجأنا بإصدارها عملها الروائي الأول (أسطورة البحر… رواية الروح) والتي ستكون موضوع حوارنا في هذا اللقاء بعد تقديم التهاني بمناسبة هذا الإصدار الأول.

• يبدو لي أنك كتبت هذه الرواية بروح طفولية تتجول في مرتع ذكرياتها.. كما ولو أن اهتمامك الطويل بأدب الأطفال قد أثر في أسلوب كتابتك لروايتك الأولى بهذه اللغة الشاعرية البسيطة والعميقة الدلالة؟

– طبعاً في داخل كل إنسان طفل يتحرك. نحن نكبر جسدياً ولكن في داخلنا دائماً حنين إلى الطفولة، حنين إلى الأماكن التي ولدنا فيها وتربينا بها. وأعتقد أن هذا من صميم العمل الروائي، لأن هذا العمل يحمل في داخله ذكريات من مراحل مختلفة وخاصة في زمن الطفولة. بخصوص اللغة الشاعرية فلا تستطيع أن تتحدث عن أماكن تعشقها بلغة تقريرية فيما أتصور، وبالتالي فإن التوأمة بين الموضوع واللغة هنا يدخل في صميم العمل ولا تستطيع أن تعبر إلا بهذه اللغة عن شيء تعشقه، شيء تحبه.

• هل هذا يعني أنكِ كنتِ عفوية في الكتابة، ولغتك كانت تسترسل تلقائياً في عملية السرد بلا تكلف؟

– بالتأكيد. طبعاً أي شيء، كما قلتُ لك وكما نوهتُ، تحبه وتعشقه فبالتأكيد تعبر عنه بطريقة شاعرية، بلغة عميقة تستلها من مكامن الروح.. تستلها من وجدانك.. ومن مشاعرك.. تجاه هذا المعشوق أو هذا المكان الذي عشقته، فهذه اللغة هي التي تميز الكتابة الإبداعية أو الكتابة الأدبية عن باقي الكتابات.

• كأني باللغة في هذه الرواية هي السهل البسيط الممتنع بمعنى أنه يحمل الكثير من الدلالة، والكثير من الإحياء للعديد من الذكريات والمواقع والشخصيات، هذا على صعيد الكلمة. كيف خطر لك كتابة هذه الرواية؟

– في الحقيقة هذا العمل كنتُ أفكرُ فيه منذ فترة طويلة. وددتُ أن أكتب شيئاً عن طرابلس، وددتُ أن أعطي شيئاً لهذه المدينة التي ولدتُ فيها وترعرعتُ بها، وعشقت هواءها ونسماتها، وفلها وياسمينها. هذه المدينة التي ورثت حبها عن عائلتي وخاصة والدي، فأردتُ أن أعطيها شيئاً من نفسي ومن روحي، فجاءت هذه الرواية (أسطورة الروح) التي تعبر عن هذا العطاء. وأعتقد أن هذه المدينة تستحق منا أكثر من هذا العمل.

• إذاً بإمكاننا أن نطلق عليها بأنها رواية الوفاء لمدينة طرابلس.

– نعم ممكن ذلك. الوفاء. أنا أسميتها شخصياً رواية الروح لأنها فعلاً نابعة من روحي ومشاعري.

• عنوان الرواية (أسطورة البحر)…. الأساطير والحكايات هي صندوق الحلوى والمتعة الفكرية لدى الأطفال… والبحر هو طفل كبير يركض صوب سواحل طرابلس الحبيبة.. يغازلها ويحيها في كل حين… كيف ولد عنوان الرواية… أسطورة البحر؟

– طبعاً عنوان الرواية هو مستلهم فعلاً من الأساطير. والأساطير دائماً نحن إليها في فترة الطفولة. طرابلس معروفة بعروس البحر وجاء هذا الاسم حتى في العديد من كتب الرحالة إلى طرابلس، ومنهم من سمّاها (المدينة البيضاء) لجمالها، ومنهم من سمّاها (أسطورة البحر المتوسط). فهذه المدينة أعجب بها الكثير من المؤرخين والرحالة الذين مروا بها. عالم الأسطورة هو عالم فيه الكثير من الألغاز، وفيه الكثير من الأشياء التي ربما نحاول أن نكتشفها. فنحن أيضاً نحاول اكتشاف المزيد في هذه المدينة. حاولتُ قدر الإمكان أن أعطي صورة هذه المدينة ليس للقراء الليبيين فقط وإنما أردت أن أوصل صورة هذه المدينة حتى للقراء العرب ما أمكنني ذلك، ولهذا أطلقت هذا الإسم أو هذا العنوان (أسطورة البحر) حتى يكون فيه نوع من الاكتشاف. فالقراء سواء كانواً عرباً أو غيرهم يحاولون أن يكتشفوا هذه المدينة عن طريق دخولهم إلى مكان الأسطورة أو داخل هذه الأسطورة.

• هل يحمل هذا العنوان همساً أو شغفاً بعشقك لنسيم بحر طرابلس ومشاكسة أمواجه الصيفية؟

– البحر يرتبط دائماً بكل شيء، ليس في الصيف فقط، وإنما في المواسم المختلفة، تجدني أذهب إلى البحر عادة في كل موسم سواء في الخريف أو الشتاء أو الصيف أو الربيع. في كل فصوله يتألق البحر بجمال معين. أنا أرتاد البحر في كل الفصول وكل المواسم.

• هل يمكن القول بأن البحر كان أحد محركات الإلهام في هذه الرواية؟

– أعتقد ذلك. أنا أعشق البحر كثيراً، وأعشق موجه الهادر وأعشق مياهه الصافية. وأعتبر أن طرابلس مدينة بحرية بامتياز، ولعل ما يميزها هو شاطئها الممتد، وكذلك بحارتها وأكلاتها المعتمدة على الأسماك، والجدير بالذكر أن النادي الذي يمثل المدينة القديمة (نادي المدينة الرياضي الثقافي الاجتماعي) معروف في الشارع الطرابلسي بالـ”الحواتة”، وهذا مذكور في الرواية لأني أعتبره أحد معالم المدينة، حتي الفنانين جعلوه رمزاً من رموز لوحاتهم وصورة من صورهم التعبيرية، فالبحر هو القاسم المشترك الذي تلتف حوله المدينة بمعالمها البارزة، إلى جانب أن منظر البحر الخلاب في أوقاته ومواسمه المختلفة يعطي المدينة فخامة وبهاءً ليس ككل بهاء، تبدو لي وكأنها معجونة بمياهه وزرقته وأفقه ورائحته.

• تداخل في الرواية صوتك مع صوت والدك بشكل واضح… فمن الراوي الحقيقي يا ترى؟ .. وماذا تمثل لك أحاديث الوالد وذكرياته الطرابلسية؟

– قلتُ إنني عشقتُ هواء هذه المدينة. عشقتها وورثت عشقها عن الأسرة وعن والدي خصوصاً، وهو الذي كثيراً ما كان يحدثني عن الكثير من الأشياء، وأنا استلهمت من أحاديثه الكثير من الأشياء في هذه الرواية، ولذا جاء صوت الراوي متداخلاً بين الراوية “ابتسام” وما تنقله عبر سردها لذكريات والدها، وأيضاً تستلهم ذكريات الطفولة فيها. وقد كانت هناك ازدواجية في الصوت الذي ينقل الصورة، فالراوية ابتسام تستل من ذاكرتها صوتا مخفيا لتنقل منه زمنا آخر مرّ بهذه المدينة غير الزمن الذي تعيشه.

• إلى أي مدى تتطابق شخصيتك مع شخصية الراوية، ضمير المتكلم… “ابتسام”؟

– أعتقد أنه في كل عمل إبداعي سواء كان قصيدة أو رواية أو قصة لا يمكن أن ينفصل الكاتب عن ابداعه. ففي كل عمل تجد سيرة ذاتية للكاتب. أنا لا أقصد السيرة الذاتية بمعنى أن يطرح الكاتب كل ما هو موجود في حياته في العمل الابداعي، وإلا أصبح الكتاب يحمل اسم سيرة ذاتية، وإنما هناك أشياء متوزعة في العمل الابداعي تحمل شيئاً من أنا المؤلف. هذا بالتأكيد في كل الأعمال. هناك أشياء كثيرة فعلا عشتها بحواسي الخمس، منها صور مرئية ومنها سمعية ومنها ذوقية.

• معالم المكان تبدو حاضرة بوضوح صريح في نص الرواية… باب الحرية.. سوق المشير… جامع درغوت… قوس البدوي… جنان النوار… ميدان الغزالة… فنار الميناء… ماذا عن الزمان؟ عن أي فترة زمنية تتحدث روايتك ؟ وما هي أبرز مظاهر تلك الفترة؟… هل تنقلت بين أزمنة الفترة أم كان الزمن ثابتاً فيها؟

– الرواية في الأساس هي رواية جغرافية، ولا نستطيع أن نفصل المكان عن الزمان، ففي أي مكان تاريخ أو لكل تاريخ مكان ولا نستطيع أن نفصل بينهما. الأساس في الرواية كما قلت هو المكان لأنه رواية جغرافية وبالتالي فهي تتناول أزمنة مختلفة منها ما هو في الثمانينات وهذا مذكور في الرواية صراحة، ومنها ما قبل هذا التاريخ، وبالتالي فهي تسجل بعض الوقائع وبعض المواقف التي حدثت في هذه المدينة.

• ذكرت بأن الأزمنة متعددة ومتتالية في الرواية، ماذا تعني العودة إلى الماضي في الكتابات السردية؟

– العودة إلى الماضي هي استلهام بعض الأحداث. استلهام ربما مواقف مرتبطة بالمكان خاصة في الروايات الجغرافية. هذا النوع من الروايات يحمل في طياته أزمنة مختلفة تتوالى على المكان الواحد. فالمكان هو المكان لا يتغير، وإنما المتغير هو الزمن بأحداثه. الزمن يتطور والأحداث تتطور ولكن المكان يبقى هو المكان نفسه.

• لابد أن نفرق بين المكان الجغرافي الثابت وبين معالم ذاك المكان. فمعالم المكان تتغير هي الأخرى، بعض الشوارع تزال، وبعض العقارات تمحى وتستبدل، ولكن المكان الجغرافي والأرضية تظل ثابتة فيما أزعم دكتورة.

– نعم المعالم تتغير، ولكن ليس التغير التام. عبق المكان و رائحته تبقى، هناك معالم باقية، مثلاً معلم (السرايا الحمراء) باقٍ منذ سنوات، هذا المعلم باق وثابت، وكذلك المدينة القديمة باقية كما هي. ليس كل المعالم تتغير.

غلاف رواية أسطورة البحر

• هل للمكان سطوة معينة في الكتابة الروائية؟

– المكان في ما أتصور، له سطوة على الشخصية أو على الشخصيات أو على الإنسان الذي يعيش فيه. فبالتأكيد البيئة لها دور كبير في تشكيل وجدان الإنسان. فالانسان الذي يعيش في الجبال يختلف في طبائعه وصفاته وفي طريقة تفكيره وسلوكه عن الإنسان الذي يعيش في الصحراء، عن الذي يعيش في المدينة، عن الذي يعيش في القرية، حتى فيما يخص العادات والتقاليد، وفيما يخص الكثير من الأشياء. فهناك طبعاً اختلافات بالتأكيد، فالبيئة هي التي لها دور في هذه الاختلافات.

• البعض يمكن أن يصف روايتك بأنها مجرد خواطر تستعيد بعض الذكريات الطرابلسية بلا شخصيات محركة ولا حبكة درامية والتي هي أساس العمل الروائي، وهذا يجرنا ربما إلى تصادم هذا العمل الابداعي بالمصطلح. فالعمل الروائي له مواصفات معينة فنياً مثلما القصيدة الشعرية أو المسرحية التمثيلية أو غيرها. ما تعليقك على هذا؟

– فيما أتصور أن العمل الروائي الجغرافي تكون شخصياته الرئيسية هي الأماكن. فأنا أتحدث عن المكان والشخصيات الموجودة في الرواية مثل “الأب” أو “غادة” أو “ابتسام” ما هي إلا وسائط لتوصيل صوت الأماكن. فالمكان هو الذي له الصوت المهيمن هنا. وبالتالي فإن الروائي هنا لا يعالج قضايا اجتماعية مثلا، أو اقتصادية، أو سياسية، وإنما يعتمد في كتابته على الوصف بالدرجة الأولى.

• الروائي والناقد الأستاذ محمد الأصفر تناول روايتك في مقالة نقدية انطباعية وترحيبية فقال (الشخصيات الطرابلسية المعروفة والتي نعتبرها أعلامًا في مجالاتها كان لها حضور مميز، المطرب سلام قدري والشاعر علي صدقي عبدالقادر والمطرب والشاعر والمبدعان الوديعان كعصافير طرابلس، كبيوت طرابلس التي عرفت على مر التاريخ أنها مسالمة، ولا سكاكين في بيوت أهلها.) ماذا تمثل قراءة ناقد بحجم هذا الأديب بالنسبة لك، وماذا يمثل حضور المطرب الفنان والشاعر الموهوب في نص روايتك؟ 

– بالتأكيد الأستاذ محمد الأصفر هو روائي مبدع، وقلمه أيضاً ناقد مبدع، ولأنه روائي فهو يفهم معنى الرواية، ويفهم كيف يتحدث عنها، فبالتأكيد هذا الحديث أو الكلام الذي كتبه له اعتبار كبير في عالم النقد. أما الشخصيات التي أردت أن أقدمها في الرواية فهي تمثل رموزاً، فأنا كما أتحدث عن معالم الأماكن، أو المعالم المعروفة في طرابلس أو في المدينة القديمة بالتحديد ذكرت الفنان “سلام قدري” والشاعر “علي صدقي عبدالقادر”، وكذلك ورد في الرواية شيخ المالوف والموشحات الشيخ “محمد قنيص” رحمهم الله جميعاً. وأيضا مرّ في الرواية ذكر الإعلامية المخضرمة فاطمة عمر، هذه رموز مثلها مثل المعالم التي أتحدث عنها في المدينة.

• لماذا استحضرت هذه الشخصيات بالتحديد دون غيرها، فهناك العديد من المبدعين والمبدعات، هل ينتابك شيء من الإعجاب بأعمالهم أو الحنين إليهم أم هو نوع من الوفاء لمراحلهم؟

– بالتأكيد الجميع يعرف أن الشيخ “محمد قنيص” رحمه الله هو الأقرب إلى فن المالوف الطرابلسي والموشحات الأندلسية أو هو رائد من رواد تطويره، وأيضاً الشاعر المبدع “علي صدقي عبدالقادر” رحمه الله هو ابن هذه المدينة، وأيضاً الفنان المرحوم “سلام قدري” له أغان كثيرة تستعرض مظاهر الحياة الطرابلسية المكللة بالياسمين والفل والمشموم الطرابلسي، وأنا أعرف بأن هناك غيرهم الكثير من الفنانين والشعراء والمبدعين الذين أقدرهم وأحترمهم، والذين استمع إليهم ولهم أعمال جميلة ولكن هذا العمل، أي الرواية، ليس تقريراً عن مجمل الأعمال الابداعية في طرابلس، وإنما هي تلتقط بعض الصور وبعض الشخصيات التي تشكل رمزاً من رموز هذه المدينة.

• دعينا نغوص في بعض طقوسك .. كيف كتبتِ هذه الرواية ؟ ما المدة التي استغرقتها لإنجاز هذا العمل؟

– هذه الرواية كتبت في ظروف متباينة، في ظروف كانت تمر بها طرابلس. ظروف صعبة. وكانت الكتابة متقطعة نظراً لهذه الظروف من جهة، وكذلك ظروف العمل من جهة أخرى، وبقدر حزني وألمي في تلك الظروف التي تمر بها مدينتي الحبيبة طرابلس، بقدر ما أعطيت لنفسي دفعاً لأن أكتب عن هذه المدينة، وأن أقدمها بالشكل الجميل الذي أردته وفاءً لها واحتراماً أيضاً لمقاومتها لكل الظروف التي تمر بها. حاولت أن أترجم الألم إلى لمسة وفاء.

• عُرفت في الوسط الأدبي كناقدة أكاديمية بالدرجة الأولى في مجال أدب الأطفال، فكيف بدّل هذا العمل دورك في هذا الوسط إلى كاتبة روائية؟

– طبعاً أدب الأطفال هو مجالي وفضاء عملي، قدمت فيه رسالة دكتورة حول أدب الأطفال في ليبيا، والنقد هو مجال دراستي وموضوع رسالتي لنيل درجة “الماجستير” وتدريسه لطلاب الجامعة، أما الإبداع فهو ليس محصوراً في الوظيفة، المبدع قد يكون مهندساً أو طبيباً أو معلماً. مجال الإبداع شيء آخر، شيء نتنفس من خلاله، ونسجل أفكارنا و مشاعرنا وعواطفنا و تطلعاتنا وكل ما يخطر ببالنا.

• أنت ناقدة كما ذكرت، توجهين سهام نقودك للتصدي لأعمال غيرك. الآن تغير دورك وأصبحت تتلقين تلك النقود حول روايتك، كيف هي مشاعرك في هذين الاتجاهين؟

– بالتأكيد مشاعر مختلفة، لأنك عندما تتناول عملاً أدبياً بالنقد فأنت أمام عمل تنتقده بكامل الموضوعية. أنا أيضاً في المقابل أتقبل بكل تأكيد النقد سواء كان إيجابياً أو سلبياً وأستفيد منه.

• كيف تقبلتِ الردود والانطباعات والنقود حول روايتك (أسطورة البحر)؟

– في الحقيقة لا أريد أن أثني أو أسوق هذا العمل، إنما أعتقد أن كل الانطباعات كانت مرضية لي بشكل أو بآخر من زملائي في العمل، ومن مثقفين ومهتمين بالأدب. كثيرون أثنوا على هذا العمل والحمد لله الذي وفقني فيه وأنجزته بالأسلوب الذي أردته.

• يقول بعض النقاد: إن كل حرف وكل كلمة في العمل الأدبي لها امتدادات خارج النص. ما هي امتدادات روايتك خارج النص؟

– خارج النص هو تأثيرها على القاريء بالتأكيد. أعتقد أن لغة الرواية كما نوهت حضرتك في بداية تقديمك هي لغة شاعرية فعلاً، وأنا عنيت ذلك وأردته لأن من يتحدث عن طرابلس لا يمكن أن يتحدث عنها إلا شعراً، وبالتالي فإن كل حرف فيها وكل صورة وكل تعبير تكون امتداداته في القاريء أو مدى تأثيرها على القراء.

• هل تعتبرين النقد هو محرك للإبداع؟

– طبعاً العمل الإبداعي الذي لم يتناوله النقاد سيبقى حبيس الأرفف.

• ولكن البعض يلوم النقاد بأنهم لم يفرزوا أو يبدعوا أدوات نقدية حديثة متطورة تواكب مناحي الأدب الحديث؟

– أعتقد ليس كل النقاد لم يواكبوا، هناك نقاد ونحن نعرف أنه حتى في المغرب العربي يعتبر النقد متطوراً.

• أنا لا أعني عدم وجود نقاد بقدر ما أشير إلى غياب الأدوات النقدية المتطورة اللازمة لتشريح النص الابداعي.

– النقاد يطورون أدواتهم النقدية بالتأكيد، ليس كل النقاد على شاكلة واحدة.

• عند استعراض فهرس روايتك (اسطورة البحر) نجدها تتكون أساساً من ثلاث مشمومات. لماذا اخترت “المشمومة”؟

– “المشمومة” معروف أنها باقة من الفل الطرابلسي تحيط بها أوراق العطر وفي داخلها كما نسميه الورد العربي، هي رمز لهذه المدينة يستخدمها أهلها في مناسبات الأفراح والأعياد مثلها كذلك “عرجون الفل” و”خناق الفل” مثلما نطلق عليها.

• كيف كانت منهجيتك في كتابة رواية (أسطورة البحر)؟

– الرواية جاءت في ثلاث مشمومات. كل مشمومة ترتبط فيها الأماكن وتتناسب معاً. فالمشمومة الأولى تبدأ ب(المكان والتاريخ تؤمان) وتتحدث عن الأماكن خارج أسوار المدينة القديمة، فتتناول الساحة التي كانت تسمى (ساحة الخبزة) فيما سبق ثم سميت (ميدان الشهداء) ومنها تنطلق إلى (ميدان الجزائر) و(مقهى لارورا) وغيرها، ثم تتحدث في الفصل الثاني عن (قوس البدوي) وفيه تتحدث عن (شارع ميزران) و(جامع ميزران) وعن الأماكن المرتبطة بهذا الشارع والشارع الذي خلفه (شارع الوادي) و(شارع بالخير) ويربطهما (جنان النّوار) وكذلك تتحدث عن (مقبرة سيدي منيذر). هذه كلها طبعاً أماكن متقاربة تجمعها أشياء معينة كفضاء واحد.

المشمومة الثانية تتحدث عن داخل أسوار المدينة القديمة وتبدأ من (كوشة الصفّار) و(الزاوية الكبيرة) و(القراقوز) الذي كان في (سوق المشير) طبعاً، و(البانكينا) والبحر والسمك والعادات والأكلات الطرابلسية التي تحتوي على وجبة السمك الشهيرة بها. ثم (حوكي وحرايري) تتحدث عن (الفنيدّقة) و(سوق الرباع) والأماكن التي تحاك فيها الأردية وتباع بها ملابس الأفراح الطرابلسية، وكذلك (جارتنا الأمازيغية) مرتبطة بالمدينة القديمة التي كانت تحوي العديد من الليبيين من مختلف المناطق، أيضاً فصل (الكروّسة) يتحدث عن بعض العادات الطرابلسية مثل ذهاب العروس إلى الحمام في (الكروسة) واللباس الوردي، وتتنقل هذه (الكروسة) عبر أماكن وسط المدينة القديمة، وهذه المشمومة الثانية يربطها فضاء واحد وهو داخل أسوار المدينة القديمة.

المشمومة الثالثة تتحدث عن أهم معلمين في المدينة، فيما أتصور، وهما (الغزالة) و(السرايا الحمراء) ثم تنتهي الرواية بالحلم البحري واللوحة التي رسمتها “ابتسام” حول المدينة.

• كيف اخترت هذه العناوين .. هذه المشمومات؟

– اخترت هذه العناوين من وحي المدينة، من وحي المكان، عندما أقول “الغزالة” الأرجوزة المائية أربط ما بين جمال الغزالة وما بين المياه حولها، فهي مثل الأرجوزة.. مثل القصيدة في جمالها. وعندما أقول “السراي” قصيدة “هايكو” يابانية أيضاً أربط بين جماليات فن “الهايكو” وبين جماليات هذا المعلم.

• عذراً، ولكني أشعر هنا أنه لا يوجد توافق بين “الهايكو” والأدب الروائي. فالهايكو يعني الاختزال والبلاغة المكثفة في النص الشعري تحديداً، ولكن اسقاط “الهايكو” على النص الروائي المتسم بالسرد الطويل والتفاصيل الدقيقة يبدو لي أنه، إلى حد ما، لا يتطابق.

– “الهايكو” من المعروف أنه يحمل في مضمونه المواسم المختلفة وأحياناً يستخدم النباتات كرمز للدلالة على موسم معين وربطته بالمكان لأن السراي الحمراء تتتابع وتختلف عليها المواسم ولكنها تبقى ثابتة وصامدة مهما مرت عليها من أحداث، وأيضاً لإضفاء نوع من الطابع الفني على هذه الأماكن.

• بعد إنجازك للرواية كيف كانت قراءتك لها؟

– أقرؤها أكثر من مرة وأيضاً أتوجه بالتحية إلى زوجي محمد الفرجاني الذي قرأ العمل منذ كان فكرة ثم جنينا إلى ظهوره وشجعني كثيراً، لأنه هو أيضاً ابن هذه المدينة، وفي كل مرة يقرأه بشغف، وقراءته لها تأثير في إنجاز هذا العمل. أيضاً أعطيتها إلى أختي الكبرى – متّعها الله بالصحة – باعتبارها  زامنت العديد من المواقف بالمدينة القديمة وبكت عندما قرأت هذه الرواية. لا أدري أأبكي أم أفرح عندما أقرأ هذه الرواية.

• ألا تشعرين بأن هناك الكثير من الأمكنة الطرابلسية أو العديد من الشخصيات التي لم تظهر في نصك الابداعي الأول؟

– نعم. ربما أنا ركّزت على الأشياء المعروفة أكثر وأردتُ أن أنجز الرواية ولا أتوسع فيها كثيراً لأنها كما قلت ليست كتاباً سياحياً ليتحدث عن كل الأماكن، ولكن يكفينا أن نأخذ بعض النماذج.

• شخصيات روايتك لم تتجاوز الأربعة… عرّفينا بهذه الشخصيات.

– هذه الشخصيات كما ذكرت في السابق هي وسائط لتوصيل روح المكان، ولتوصيل صوت الأمكنة، فالشخصيات الرئيسية في الرواية كما نوهت في السابق هي الأماكن.. هي المدينة.

• في العمل الروائي يكون للحوار دائماً أهمية خاصة، فهو تنوع كلامي ولغوي وتباين صوتي… كيف كان حضوره في روايتك؟

– حضور الحوار في الرواية كان ليخدم المكان بالدرجة الأولى، لأنها كما قلت هي رواية جغرافية للتعريف بالمكان وإضفاء جماليات المكان واستخراج جماليات المكان. فالحوار كان ليخدم هذا الموضوع. وكانت بعض الحوارات باللهجة الطرابلسية واحتوت على بعض الأمثال المتداولة في المدينة. وقد كتب الأستاذ الدكتور بشير زقلام دراسة في هذا الموضوع لم تُنشر بعد.

• لو خطر لك أن تعيدي كتابة (أسطورة البحر) من جديد، ماذا تضيفين إليها؟

– ربما أضيف إليها أحلامي بأن تكون هذه المدينة من أجمل المدن. ربما أستنطق كل ذرة من ذراتها لتكون قبلة للجميع، لتكون جوهرة، وهي في الحقيقة جوهرة المتوسط، وهي أسطورة البحر حقيقة ولكن نريدها من أجمل إلى الأجمل باستحضار جمالياتها في السابق والفن المعماري الذي تحمله مآذنها وقبابها، والذي تحمله الزخارف والنقوش الاسلامية في المدينة القديمة، في الشوارع، في الأسواق، كيف نحافظ على كل هذه الأشياء ونبرز جمالياتها. لا أقول بأننا سنعطيها جمالاً لأنها هي جميلة في الأصل ولكن نحن نريد أن نبرز هذه الجماليات.

• الملاحظ في الرواية أنها تقدم صورة للتعايش السلمي بين الديانات الثلاثة، الإسلامية والمسيحية واليهودية، المتعايشة داخل مدينة طرابلس، وأيضاً الإنصهار المناطقي حيث رأينا شخصية جارتك الأمازيغية. حديثينا عن هذه الفضاءات والبيئة الجامعة وليست الطاردة على الإطلاق.

– بالتأكيد عالم المدينة القديمة كان فيه انسجام بين الجميع. أتذكر عندما كنا صغاراً في المدرسة كانت معنا زميلات من كل مدن ومناطق ليبيا، وكنا كمجتمع واحد، كعائلة واحدة، وأنا دلّلت على ذلك بجارتنا الأمازيغية لأصور أننا زمان لم نكن نقول “أمازيغ” بل نقول جارتنا الزوارية أو الجبالية. وعندما تحدثت عن بيت جدّي في هذه الرواية، البيت تسكنه عائلة من صرمان وعائلة من امسلاته، كانت الحياة مشاركة لا نفرق بين أحد من الجميع، فنحن حقيقة عائلة واحدة في هذا المجتمع.

أما بالنسبة للديانات فكان هناك ميدان “السانتا ماريا” الذي به الكنيسة، أسمع عنها ولم أعاصرها كثيراً. سمعتُ عن الكنيس اليهودي، والأسر اليهودية لها عادات وتقاليد المجتمع الذي تعيش فيه، فالأسرة التي تعيش في طرابلس تكتسب نفس العادات لأهل طرابلس، وكذلك بالنسبة للمجتمعات الأخرى، ولهذا تجد هذا الانصهار المجتمعي في المدينة القديمة بطرابلس.

• هل تعتقدين أن لغتك البسيطة السهلة ذات الدلالة العميقة قد أوصلت الرسالة؟

– بالتأكيد أن العمل الابداعي، روائي أو غير روائي، هو التعبير عن مضمون عميق بلغة قريبة، وخاصة أن الرواية يطالعها قراء من كل فئات المجتمع فينبغي أن تكون فكرتها واضحة. قديماً قال الجاحظ “الكلمة إذا خرجت من القلب تصل إلى القلب، وإذا خرجت من اللسان لا تتجاوز الآذان”. فهذه اللغة وعلى الرغم من أنها بسيطة ولكنها عميقة تصل إلى وجدان القاريء بكل سهولة ويسر.

• ختاماً، هل ننتظر عملاً روائياً آخر؟

– إن شاء الله، حسب الظروف والعمل، أنا في بداية إنجاز عمل آخر لم يستكمل بعد.

• شكراً لك دكتورة على هذه المساحة التي منحتها لنا للحوار حول عملك الروائي الأول (أسطورة البحر).

– الشكر كل الشكر لكم على اهتمامكم ومجهوداتكم من أجل الثقافة الوطنية. وأسمح لي أخيراً وأولاً أن أشكر دار الفرجاني العريقة، وأخص بالشكر الأستاذ سمير الفرجاني على تبنيه طباعة وإخراج هذا العمل.

____________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

الروائي الليبي أحمد الفيتوري: في “سيرة بني غازي” اكتب سيرتنا

خلود الفلاح

مقبولة ارقيق.. الكتابة رهان وأعيد ما يتساقط مني بكل هدوء….!

حنان كابو

مأمون الزايدي عن “سيرة ذاتية للأحمر”.. وسؤال الترجمة

المشرف العام

اترك تعليق