قصة

الخطر عندما يُهنْدس مِعّمار شمال شرق القرية

من أعمال التشكيلي عبدالرحمن الزوي

عندما انتبه لذلك وفجأة، صار يلاحق هذا الغموض، الذي يظهر على بيوت شمال شرق القرية، إذ كانت جميعها، تولّى بظهورها الى القرية. فلم تكن تنّفتح بأبوابها الى ازقة وساحات وطرقات القرية الضيقة، بل إلى وعلى المحيط الخارجي. الذي ينتهي بعد مئات الامتار، الى كثيب رمل تُشّغله وعلى نحو غير مُنتظم، اشجار نخيل متفرقة. كان اهل شمال شرق القرية، في قديم الزمان، يتخذون من الكثيب، مكان لتخزين الفائض من منتوج تمروهم، بدفنه ويوارونه، بداخل مطامير من رمل. لحفظه وابعاده عن التسوس والتلف. قد تمر على الثمر شهور قبل استخراجه، وقد يضطرون الى استخراجه، قبل انقضاء حوّل من الزمان. ليفسحوا به المكان لتخزين المنتوج الجديد.

لقد كان ّ مشّهد، عزوف وتعفف بيوت ذلك الحي عن مشاركة القرية، ضجيج ازقتها وساحاتها وطرقاتها الضيقة. حاضرة وعلى نحو دائم بباله.  عبر محاولاته المستمرة للتفتيش عن تعليل شاف لذلك التلّغيز. وبالرغم من توغّله في سنيين عمره الاربعين.  لم يستطع التخلص والافلات من ملاحقة هذا الغموض. الذي بدأ له، مكّمن مفتاح شخصية ركن شمال شرق القرية.  

كانت مراقبة للقرية، من على شمال شرقها المُحمل بالغموض.  تظهر له وهي مُنكفأ على ذاتها، عبر انفتاح ابوابها الى ازقّتها وساحاتها وشوارعها الضيقة، وحرّصها على ان تكون ظهور بيوتها، قٌبالة الخارج الى محيطها. يُذكره كل هذا، بمشّهد كرّدسة القطيع على ذاته، للاحتماء بها وبهمهمته، من كل ذات مخّلب وناب. فهل كان عزوف ركن شمال شرق القرية الظاهر، بانفتاحها الى المحيط، بعيدا عن ضجيج ازقة القرية وساحتها. هو في وجه من الوجوه، نفور من القطيع وكرّدسته السلبية. في مٌشاغلته للأخطار المميتة، التي قد تحدث بغّته وعلى حين غفّلة، لتغّشى القرية من محيطها.

وهل هذا القاطن شمال شرق القرية، متخذا منه فضاء يبتنى عليه بيوته ويقيم فوقه سكناه، بأبواب تنفتح في عمومها الى خارج محيط القرية. قد صِيغ وشُكل في حواضن تنشئة المُبكرة البعيدة، على اساليب ليس من بينها، الاحتماء بالكرّدسة والهمهمة من الاخطار . بل على صيغ وسبل وبوسائل. جعلته ينفتح الى المحيط لا بالانكفاء الى الداخل.

ففي ذلك الزمان كانت الاخطار تأتى من محيط القرى، لا من الداخل. ولهذا اقيمت الابراج والقلاع، في حواضر ذلك الزمان، لاستشراف الاخطار والاستعداد لها. وقد كانت قلاع وابراج ذلك الزمان. تذكره ايضا. بالغُرف التي كان يُقيمها، ساكني شمال شرق القرية، فوق أسطح بيوتهم، في تفرّد ظاهر عن بقية بيوت القرية. فهل هذا يُشير الى ان بعض من ماضي هؤلاء. قد صاغته وشكّلته أبجدية القلاع والابراج.

ولكن كانت تراود باله احياننا، قراءة اخرى موازية. تقول بان هؤلاء، قد جاءوا الى هذه الانحاء، كما تقول بعض روايات زمن الاتراك، من داخل فضاء الجنوب، الى اطرافه الشمالية، التي تتماس مع السواد وطبيعة الهاروج الوعرة. نزحوا فيما يبدو، ملاحقون من قِبل عدو ذي شوكة. مما اضطرهم الى ابتناء منازلهم اينما حلّوا، على أطراف المكان الوافدين علية، بأبواب تنفتح على الخارج الى المحيط. لاستشراف الخطر قبل فوات الاوان.

كان كل ما جاء في سطور قراءته هذه.  مُسّتلهم مدعوم ومسنود من وقائع ماضي القرية البعيد والفقير، في محطاته ووقفته الخشنة. فقد كان هذا الشمال الشرقي هو المبادر الى محاولة استنهاضها واستنفارها في وجه الخطر الاتي، وكانت دائما تركن الى الكرّدسة والهمهمة. وحتى وفى الحالات المنّفردة منها، كان الحاضر الاوحد لا سواه.

ومع بداية العشّرية الدامية. التي عاشتها القرية كغيرها من القرى، ومع شهورها الاولى، صارت القرية تُسّير ومع كل مساء، مسيرات تجوب شوارعها بمواكب سيارات، تردد هتافات متوعّده شرا، تختلط مع زعيق مُنبهات السيارات الصادي، يُعززها ضجيج صلّيات طويلة للبنادق الالية.

كان شمال شرق القرية، بعيدا عن كل هذا، يُراقب وفى صمت، فقد كان يرى في القرية، الجار والصاحب والشريك، ليس هذا وحسب، بل والمُسن والعجوز والمريض والمرأة مع الطفل، وهؤلاء وفى المطلق، لا يجب ترّويعهم واخافتهم، ناهيك في ساعات مُتأخرة من الليل. وعندما حاولت تلك المسيرات تمّرير هُتافها المقرون بضجيجها، عبر فضاء حي شمال شرق القرية، اعترضها ومنعها من فعل ذلك، بتشّتيتها وتفّريقها.

وعنما وَفَد على القرية، حشد كبير من مرتزقة ملوّن، يُرّسلون جدائل شعورهم لتنهى الى اكتافهم، ويتسلح ببنادق آلية وسيارات دفع رباعي. وبتوجيه ودعم من الجهات الرسمية حينها. اتخذ هذا الحشد من محطة كهرباء القرية، تكنة عسكرية له، ومنها سيّر دوريات تجوب القرية ومحيطها، وصارت تعتدى على املاك بعض الناس.

عندها اصبحت القرية تستيقظ صباحا، على ازقة وساحات، تتغطى بمناشير تستنهض القرية وتستحثها على الوقوف، في وجه هؤلاء الملونين ومن اتى بهم. ولكن، حتى وان كان استنهاض المناشير، لم يجد صداه في نفوس القرية. كان له إثر ظاهر مُسّتَفز، في سلوك هؤلاء الملونين. فما لبت ثقل ما يحمله من ضغط النفسي، يرهق هؤلاء ويزّعجهم، حتى انفجر خلاف فيما بينهم، خطّته زغّردة الرصاص.  كانت نتائجه ما يزيد على اربعة قتلى، دفنوا بعيد عن مقبرة القرية.  كانت حينها اصابع القرية تُشير وفى ما بعد وحتى الان، الى شمال شرق القرية، كمصدر لهذه المناشير.

وعندما توغلت القرية كغيرها في سنين العشّرية الدامية، صار الطريق الرابط ما بين الجنوب والشمال، عُرّضة لفعل الحرابة، من قتل وخطف وابتزاز، على يد عصابات ومافيات اجرامية، طال فيما بعد القرية وحتى محيطها البعيد.

حينها انبرى شرق شمال القرية، في أحد ابنائه، بمُشاغلة هذه الحالة، التي اخافت القرية ومحيطها، باعتراضها وملاحقتها، بأيادي جسم عسكري مسلح، قد اشتغل واجتهد على بعثه في كيان القرية، وقد كان هذا الدراع العسكري، نتيجة عمل وجهد من خلال تشّكيل نواة استقطب بها، بعض من الشباب، تولى معهم وبهم، ادارة ودحر الخوف وإبعاده، عن القرية ومحيطها القريب والبعيد، وصار بفعّلهم ايضا، الطريق العام آمننا. لقد كانت هذه القراءة الاقرب الى عقله، من عديد الاخريات. لغموض مِعّمار شمال شرق القرية. الذي انّشغل واشتغل به كثيرا.  

انتهى.


 *النص مُسّتوحى من الفضاء القروى لمنطقة لُبوانيس بالجنوب الليبيى .

مقالات ذات علاقة

خردة…

محمد المسلاتي

الجــمل الفـــضي

عبدالله هارون

فـيـما بـعـد

اترك تعليق