قصة

الحصان


 

كان الجَو قلِقاً جداً ، البيت الذي ما اكتملت بنايته حتى حين  ، يحفه من الخلف جنان البرسيم الكبير ، من على يمينه حظيرة الأغنام للسيد عطيّة ، على شماله بيت الأخ الأكبر ، البيت الذي ما اكتملت بنايته ليس به إلا بئر ماؤها قد تشبع بالملح و شجرة ليمون ضاربة في القِدم و نخلة في الخلف لا تُنتج إلا العفط تلفها قعميزة من كل جوانبها ، تُطل من أعلى رأسها على جنان البرسيم الكبير ، دار خلفية منفصلة عن باقي أنحاء البناية بُنيت حديثاً قد اصطنعها الأب لحفظ الأغراض بأمر من الأم ، البيت الذي ما اكتملت بنايته يضجُ بالصخب ، المربوعة قد مُلئت أصوات لا تنتهي يتوسطها الأب مُغاضباً يغطي نفسه بالجرد البُني الخشن ، يحيط به الأبناء عن اليمين و عن الشمال ، يتهامسون فيما بينهم ، بينما هُو يرتشف ببطء غير مُعتاد كأس الشاي و يتلقف بعصبية السيجارة تلو الأخرى . كانت البنات في الغرفةِ الأخرى تُولول حول الأم الصبور التي تصطنعُ الشايَ بصمت ، و تنحتُ لدموعها مجرىً داخل جسدها بدل من خارجه .

كانت بداية هذا اليوم العاتي أو ربما لم تكُن هي أنّ الابن الأوسط ، خشن الطباع ، كان عائداً من العسكرية تأكل أقدامه المُتعبة الطريق التُرابية يفور حنقه تحت شعاع الشمس الحارقة ، كان العرق و التعب يرسمان لهما في وجهه ملامح واضحة  ، لما كان المنزل يتبدى كالسراب أمامه في الأفق ، اختار أن يعرج على جنةِ والده التي يسمونها السانية ، يبحث عن ماء يبلل به وجهه أو بعضاً من الثِمار ، و يجلسُ تحت ظل شجرة التوت الوارفة ينيخ عنه التعب الذي يمتطي ظهره ، استلقى تحت ظل التوتة يبحثُ عن غيمةٍ يتلهى بها في هذه السماء الصافية دون جدوى ، يُلحنُ أغنية حفظها في الحافلة كان يعيدها السائق في رتابة ، نزع عنهُ “الكادار ” ليطلق العنان لرائحة قدميه النتنة ، نزع القبعة و مسح تحت شعره ، ثم راح في نومة يبحث عنها و الحصان الذي لم ينتبه لوجوده بالحظيرة يصهلُ بخفوت في بُراكته  ، عندما غالبه النُعاس ، راح يحلم بأشياء كثيرة .

لم يمضِ به الوقتُ طويلاً حتى استيقظ هلعاً و قد تناهى إلى سمعهِ صوتُ ارتطام قوي ، قفز واقفاً يبحثُ عن مصدرِ الصوت ، كان الارتطام عنيفاً جداً و كأنّ قطعة كبيرة من اللحم سقطت بقوة قذيفة على الأرض ، سمعَ صهيل الحصان يتعالى و قد اهتاج لأمرِ جلل ، أسرع ناحيته ، وجد جثة ترتجف مُلقاة على الأرض ، ركض نحوها ، كان أخوه الصغير ينزُ من رأسه دماً دونَ توقف ، لكنه كان يتحرك ، كان ينظرُ للحصان تارة و لأخيه تارةً أخرى ، و كان العداء واضحاً في عيني البهيمة ، تلقف الفتى في حضنه بسرعة و أسرع بهِ ناحية المنزل ، عندما دخل مسرعاً ، تلقفه إخوته  و أخواته الأصغر منه يتراكضون فرحين خلفه بمجيئه ، لم يكن يُبدي اهتماما ً بهم ، كان كل همه هذا الصغير الذي يحتضرُ أمام عينيه ، أسرع يدخل البيت ، تلقفته أمه و قد وضعت يديها على صدرها مصدومةً من هولِ المفاجأة ، أسرعت نحوه و قد استدررت بعض الدموع ، انتحبت أخته الصغرى و التي برزت فيها علامات الأنوثة ، بدأت تصرخ ، ناول الفتى لأمه و أمرها أن تخلع عنه ملابسه بسرعة و أن تأتيه بمَزق من أحد الأقمشة أو الملابس القديمة و تغمسها بالماء ثم بالقهوة ، كان غاضباً جداً ، تدور في مخيلته صورة الفتى يحتضر بين ذراعيه ، الحصان يرفلُ بأرجله و يصهل ، المعسكر و تدريباته الشاقة ، شمسُ النهارِ الحارقة ، أخته الصغرى تنوح كالثكلى زادت من غضبه ، تقدم نحوها ، صفعها حتى ارتمت على الأرض تبكي الصفعة الحارة . ثم التفت ينادي على باقي أخوته ، كان الفتى الصغير ينازع الحياة و الموت و قد توقف الدم عن التغلغل أكثر بعدما خسر كمية كبيرة منه .

جاءَ الطبيب ، أسرع داخل الدار مصحوباً بعدته ، معه الأخ الأكبر و الذي يليه سناً ، كان الأوسط يريد أن يدخل ليطمئن على صحةِ أخيه المجروح ، لم يسمح له الطبيب الذي طلب اثنين فقط لمعاونته ، تطوع الأخوان الأكبر لعلمهم أنّ الأوسط عصبي جداً و قد ينهي حياة الطبيب إن رأى الفتى يقذف بروحه من أمامه ..

تداركته الأفكار ، كان غاضباً ، المُعسكر صرفوا له إجازة بعد أن تقطعت به السبل و أنهكوا جسده ، الشمسُ الحارقة قد أخذت حصتها منه ، كان يريد الزواج من ابنةِ خاله لكنه اشترط شروطاً نغصت عليه حياته ، البيت لم يكتمل فقد توقف البناء عن الطابق الذي كان يريد أن يسكنه ، كانت تدور به الأفكار دورتها ، أخوه الصغير يموت أمامه و لا يدرِ ما يصنع ، و الحصان ! . الحصان ذلك الحيوان الهمجي ، البهيمة الغير عاقلة ، هو السبب في كل ذلكَ ، نهض ، خرج من الدار ، نهض وراءه أبوه يرى ما يريد صنعه ، قرأ في عينيه الشر ، حسبه سيضرب الطبيب ، أسرع نحوه ، وجده ينتزعُ عُرفاً غليظاً من شجرةِ الليمون الخضراء القابعة على يمين المنزل ، قال له صائحاً به :

–       شن بدّير ؟ . أستهدي بالله …

–       تو تشوف شن ندير . و مطّ بشفتيه يمتصُ حنقه .

ثم أسرع خارج المنزل حافياً يقطع الطريق التُرابية ، و شمسُ النهار الحارقة التي أخذت منه حصتها تلفحه بأسياطها ، وصل السانية ، دخل مُسرعاً نحو البهيمة ، فتح الباب عنها ، أمسك بعناقه ، ثم ! ، هوى بالعصا على جسد الحيوان ، ضرب عنقه أولاً ، فرأسه ، سقط الحيوان أرضاً ، كان يرتجف من هول الصدمة ، كان قد اشتهر الأخ الأوسط بقوته الجُسمانية الهائلة ، عندما تكسرت العصا على جسد البهيمة ، نزع عنه العناق ، و بدأ يجلده به ، يسبه ، كان الحيوان يصهل ، يئن ، الدموع كانت حبيسة جسده المتألم ، كان  يصيح و الدمع قد ملأ وجهه ، المخاط و الإعياء و العرق ، على غفلةٍ منه و من الحيوان ، أسرع الوالد داخلاً الزريبة ينقذ ما ينقذه من الحيوان الذي صار جريحاً ، أمسك بيد الابن الذي كان يشرعُ بأن يهوي بضربة تقسم ظهر الحصان ، نظر بدهشة لوالده و يده التي تمسكه ، كان يقرأ شيئاً ما في وجهه ، قال الوالد :

–       سيبه يا مهبول ، الدكتور طمنّا علي حالة خوك و قال لا بأس عليه ، نرفعوه ثلاثة أيام للسبيتار يستريح غادي .

مقالات ذات علاقة

ألواح يوهسبيريدس

محمد العنيزي

شظيتان متباعدتان

محمد دربي

خديجة وزينب

عزة المقهور

اترك تعليق