قصة

الحاجة مبروكة العايبة

.

هي الحاجة مبروكة – العايبة – وجه من أوجهِ تاجوراء الكثيرة التي قد لا يعرفها البعض … أو يعتبرها البعض الأخر مجرّد شخص ثانوي، تكتمل به الحكاية، حتى و إن لم توجد. عرفتها صغيراً عندما كانت تزورنا باستمرار، كانت عجوزاً قصيرة القامة تلتحف الفراشية* طول الطريق، لا يظهر منها إلا عيناً واحدة، هي نافذتها على العالم.

لم تكن الحاجة مبروكة تطرق باب المنزل، بل تدخل مناديةً على أمِّي بصوتِها الذي أكل بعضه الزّمَن، تتنفس الصعداء ما إن تلج باب البيت، فتسقط الفراشية من على رأسها حتى صدرها، شعرها الأحمر الطويل الداكن، يستفزك أن تلامسه متحققاً من صدقيته. الحاجة مبروكة المملوءة تجاعيد، كانت صاحبة نفسٍ شاكية حزينة بعض الشيء، و لكنها كانت تبتسم دائماً. عندما أقفز مسرعاً لأسلم عليها –أحياناً بأمرٍ من أمِّي– تنتشلنِي من يدِي أو تنتشلها منّي مقبّلةً إيّاها –و أنا كالأطفال مزهواً بهذا-، تصدر والدتي صوت امتعاض ثم تصلح امتعاضها آمرةً إياي بأن أقبل يد الحاجة .

هي ليست شخصية خيالية، لم تكن عبارة عن قفّة* و ردي* أحمر مزركش بالبياض، لم تكن حلوى نعناع تخبأها في شلامتها* بين الردي وقفطانها الأسود المورّد أحياناً… لم تكن خلال* يربط بين أعلى الردي و أسفله و لم تكن عقدةً إن لم يتوفر، ولم تكن وشماً أخضراً على ذقنها وجبهتها لزيادة الحظ أو الحفظ أو أي شيء أخر. أكاد أجزم أنّ الحاجة مبروكة العايبة كانت من أجمل بنات الحيْ في صغرها فهي علاوةً على شعرها الأحمر –المسود – المستفز، فقد كانت فالقة البياض ناعمة الملمس و إن لم تخني الذاكرة فإنّ عيناها كانتا خضروتان مشبعة بالأمل، والحياة، الحاجة مبروكة كانت حكاية من البؤس، يقول النّاس إنّ ابنها قد تركها راحلاً طالباً الرزق أو الزوجة، أو أي شيء مما يُطلب بعيداً عن حضن الأم، دافناً بذلك قلبه و قلب أمِّه “الطيبة”… و ترقع حكاية أخرى للناس الحكاية الأولى تقول أنّ الولد كان مريضاً نفسياً، لذا يمكن للجميع أن يعذره على ما فعل .

على كل حال، الحاجة مبروكة كانت أحياناً تعمل في بيتنا عمل المنبه مصحوبةً في بعضِ تلك الأحيان بقفّتِها لكيْ يقوم أنا الصغير بشراء مستلزمات بيتها أو بعضاً من الخبز، وفي بعضِ الأحيان بمعدتها الخاوية تشاركنا كسر السفرة –كما يقول الشاميون-. في أحيان أخرى تأتي قبل ذهابي للمدرسة بساعة أو قليل، لكيْ أصطحبها إلى أي مكان تريده. كانت أمِّي تحلف لها بالنبي و بأشياء أخرى حتى تجلس لطاسة الشاهي الأولى والثانية والثالثة حتى توافق الحاجة، لكيْ تدخلان دائرة من الأحاديث غير المنقطعة يفصلها بين الحين و الأخر كلمات مثل “كيف حالك يا خالتي مبروكة؟” “شن أخبارك؟”، بشكا روتيني متكرر، فتتنهد الحاجة شاكيةً الله بصوتٍ حنون لا أعلم لماذا يذكرني بحنّايْ* والتي تشارك الحاجة في كثير من الأشياء كشعرها الأحمر الطويل – و الذي يبدو داكناً أكثر – .

لم أكن أحب منزل الحاجة بتاتاً ، كنتُ أكره أن أرافقها إليه… كان البيت عبارة عن باحة صغيرة مغروس فيها أنواع كثيرة من الزهور و النباتات المتسلقة، دالية صغيرة تحاول الوصول للسماء دون جدوى، شجرة نخيلٍ عاقر وُضعت للزينة و لجلبِ الظل… كل ذلك كان محصوراً في جنان صغير متخذاً هيئة المربع. للحاجة قطة كانت أحد أسباب خوفي من البيت… كانت القطة تقفُ أحياناً أمام الباب العتيق كالحارس تراقبني باستنفار وكنتُ لا أحاول أن أتخطى شجرة النخيل العاقر مترقباً لأي هجوم من هذا الوحش الأسودِ الشرس، الذي كان يعلن سلطته على المنزل بالتمسح بثياب الحاجة، و كأنّه يقول لي أنّها ملكه و لن يسمح لطفل مثلي أن يسلبها منه، حتى لا يكرر أحدهم فعلة ابنها المريض، كما يقول الناس. أتذكر أنّي لم أدخل لحجراتِ المنزل المظلم أكثر من مرة أو اثنتين، لم أعلم كيف استطعت أن أتغلب على شبحِ خوفي من القط و الظلمة و الحاجة أحياناً.

لم أدرك يوماً معنى كلمة “العايبة” التي أضيفت إلى الحاجة، وكنتُ أعتقد أنّها مجرد لقبٍ لها، كباقي الألقاب التي تضاف لاسم أي “حاجة” مشهورة بتاجوراء. فجدتي لوالدي كان الناس ينادونها “مني صمامية” نسبةً إلى جدها عمر “الصمامة” النعاس. بالطبع لم أكن أناديها بخالتي المبروكة العايبة ولم تكن أمي تفعل ذلك أيضاً، بل كنا نناديها في حضورها بخالتي مبروكة، و في غيابها. و لكيْ يتم تفريقها عن باقي المبروكات، المُباركات، تقوم أمّي بنعتها بالعايبة. عندما كبرت أدركت أنّ لفظ “عايبة” لم يكن إلا بسبب عيب خلقي في إحدى قدميها تطلب منها أن تتحرك باعوجاج.

تحوّل اهتمام الحاجة من بيتنا و بيوتِ الجيران في أحدِ الأيام إلى بيتها، ربما لأنّ رياح الشيخوخة قد هبت هبوباً عنيفاً، و ربما لأنّ ابنها قد عاد من مرضه/سفره لكيْ يعيش مع أمّه في أخرِ سنين عمرها، انقطعت عنّي أخبارها و أخذ الزمن ذكراها و كان سيأخذها للأبد، لولا أنّي أمر يومياً من جانبِ بيتها لأتساءل “هل لا يزال الوحش الصغير حياً؟”!

___________________________________

الفراشية، الردي: الأردية التقليدية للنساء الليبيات .

القفة: حقيبة مصنوعة من سعف النخيل مفتوحة من الأعلى تستخدم في التسوق.

شلامة: حضن.

خلال: دبوس مشبك.

مقالات ذات علاقة

من حصاد ذلك الزمان – بزنس

يوسف الشريف

التفتيت البطيء

محمد المسلاتي

دينونة

سعد الأريل

اترك تعليق