المقالة

التصفيق

“اليد الواحدة لا تُصفِّق” مثل عربي، تناقلته الأجيال، جيلاً بعد جيل، ليُخبر كل جيلٍ الجيلَ الذي يليه بأن التصفيق غاية مشروعة، وهدفٌ منشود، وحاجة لا تُقضى الحوائج إلا بها، لذلك لا بد أن نتفق على التصفيق، وأن نجتمع عليه، ونتواصى به.
اليد الواحدة لا تُصفق، ليس لأنها عاجزة عن التصفيق، بل لأن تصفيقها باطلٌ لا يصح ما لم يتوافق وإيقاع تصفيق الجماهير، ويتناغم مع الجموع، فالطائر الذي يُغرد خارج السرب لا يُسمع تغريده، والشاة التي تصيح خارج القطيع لا تثير شفقة الراعي بقدر ما تثير غضبه عليها.
..

عبر كل الأجيال التي توارثت هذا المثل، لم يخطر ببال أحدها أن الأيدي التي تجتمع على التصفيق لا تعمل شيئاً سوى التصفيق، وأن التصفيق في حد ذاته ليس إنجازاً، لأنه لا يَصدر عنه سوى تلك الموجات الصوتية التي سرعان ما تتلاشى، ولا يَنتج عنه شيئاً سوى الرغبة في المزيد منه.
لا يُمكننا أن نعرف من هو أول من صفَّق في التاريخ، ولكن يُمكننا أن نعرف – ابتداءً – أنه ابتكر التصفيق ليُعبر به عن الإعجاب والفرح، ربما لأنه لم يجد شيئاً يُعبِّر به عن مشاعره سوى يديه الفارغتين من أي إنجاز.
..

ويمكننا أيضاً أن نُدرك أن أول المصفقين لم يكن ليتنبأ بأن ابتكاره هذا سيتم تطويره ليصبح أداة فاعلة للتزلف والتملق والتلهوق والنفاق والمداهنة والزمزكة والدحنسة.
ويُمكننا أن نعلم بأن جدّنا الأول الذي ورثنا عنه التصفيق لم يكن ليتوقع أن يبلغ ميراثه ما بلغ، وأن ينتشر كل هذا الانتشار، ليصير فعلاً جماعياً تؤديه الجماهير في جوقة واحدة، ومع طلعة كل مايسترو جديد، تعزِف له فيعزُف عنها، وتُصَفِّق له فَيُصْفِق كل أبواب الأمل في وجوهها.
..

إنَّ الشعوب التي لم تدمن التصفيق هي شعوبٌ تحترم ذاتها وتحترم حكامها.
تحترم ذاتها لأنها تُقدِّر نعمة الأيدي المخلوقة للعمل وليس للتصفيق، وتحترم حكامها، لأن الحاكم عندهم هو مجرد موظف يدير الدولة، وليس راقصة تحتاج إلى إيقاع التصفيق لتضبط عليه هزَّ وسطها، أو عاهرة تحتاج إلى من يُغازلها وينظم فيها قصائد الزور لمأربٍ قريب، وغرض دنيء، وقصد غير شريف.
..

إن الشعوب التي تُصفق لحكامها هي وحدها التي لا تقدر على اقتلاعهم من كراسيهم إلا بالدماء والأشلاء، أما الشعوب التي لم تمتهن التصفيق، فإن للحاكم زمناً معلوماً، وفترة محدودة، لا يزيد عنها ولا ينقص، ثم يعود إلى بيته حاملاً حقيبة ملابسه وأغراضه الشخصية فقط، وليس فيها شيئٌ من أموال الناس.
إن الشعوب التي تحترف التصفيق، هي وحدها الشعوب الخائبة البائسة التعيسة، لأن من صفقت لهم هم أسباب خيباتها ونكساتها وخذلانها وتعاستها، أما الشعوب التي لا تحترف التصفيق فهي سعيدة لإنها تعرف أن الفشل والإخفاق يقابله المحاسبة لا التصفيق.
..

إن الشعوب التي تُصفق للحاكم لا تصفق له إلا لكونه حاكماً ليس إلا، وليس بسبب صلاحه وصدقه وأمانته، أو بسبب قدراته الخارقة، وإمكانياته الهائلة، وإبداعاته المذهلة، وإنجازاته العظيمة، ليتصدق عليهم بعد عناء التصفيق بشيءٍ من أموالهم، ويعطيهم بعض مجهودهم، وليمُنَّ عليهم حتى بالمطر النازل من السماء.
إن الشعوب التي تُصفق لحكامها هي وحدها التي تجهل حقوقها، فتظن أن للحاكم الخيار في أن يشنقك، أو يملأ فمك ذهباً، وله الحق في أن يعطيك بلا مقابل، أو يحرمك بلا ذنب، وأن يبقى حاكماً طيلة حياته وحياة ورثته، وإنَّ أي ردة فعل تجاه أفعال الحاكم – باستثناء التصفيق – هي جريمة لا تُغتفر، وخطيئة لا تُستر، وذنب لا شفيع له.
إن أي أمة لا يمكنها أن تتقدم وترتقي ما لم تعلم يقيناً، وتلتزم بما علمت قولاً وفعلاً، بأن الحاكم ليس إلهاً منزهاً عن النقائص، ولا نبياً معصوماً من الخطأ، وأنه لا يستحق التصفيق له لا بيدٍ واحدة، ولا باثنتين، لأنه ببساطة يتقاضى أجراً على عمله، وليس التصفيق من جملة الأجر المنصوص عليه.
..

وإذا كان لابد من التصفيق، ولا مناص منه، فإن الحاكم – هو لا غير – من ينبغي عليه أن يصفق للجماهير التي منحته ثقتها، وأعطته أصواتها، وقبلت به حاكماً، ورضيت بإدارته للبلاد.
وإذا كان لابد من التصفيق، ولا مفر منه، فلنجعل التصفيق قصراً على العمل دون العامل، وحصراً على الفعل دون الفاعل، وحكراً على الإنجاز دون المُنجز.
وإذا كان التصفيق فرضاً دينياً، وواجباً شرعياً، فلندخر تصفيقنا للحكام والمسؤولين لنقضيه لهم بعد موتهم، ذلك أدنى أن لا يطغوا، وأولى أن لا يغتروا، وأجدى للإصلاح، وأقرب للتقوى.
عندها فقط يصبح للتصفيق معنى، وللمصفِق هدف وغاية، وللمصفق له قيمة، وعندها فقط يجوز التصفيق ويصح؛ سواءً أكان بيدٍ واحدة أو بيدين اثنتين.
أما غير ذلك..
فلعنة الله على المصفِّق والمصفَّق له!.

مقالات ذات علاقة

في ذكرى رحيله: وقفة صادقة مع الصادق

المشرف العام

المـرأةُ في الأدب الإنسـانيِّ

خالد السحاتي

الفراشة التي رحلت باكرًا

مهند سليمان

اترك تعليق