قصة

التراب الوطني


( 1 )

ـ شمُّوا التُّرَاب الوَطني .

قال مُعَلِّمنا ذو المِعطف الرمادي المُجَعَّد الممضوغ .. بياقته المُتَّسِخة المُكرمشة .. ثم بدأ يُمَرِّر حَفنة التراب من أمام أُنوفنا .

ـ هذا التُّراب الوَطني .. الذي سَقاه أجدادنا بالدَّم والعَرَق والدموع .

ـ هذا تراب ( بوعَمَايا )* يا أستاذ ..!

ـ حيوان ..! تموت وأنت حيوان .. خسارة فيكم حصّة التاريخ في الهواء الطَّلْق .. كُل ما ترونه تُراب وَطني .. هذه الأشجار .. الصخور .. الرمال .. هذا هو التُّراب الوَطني الذي أَسقط أجدادنا مِن أجله أول طائرة في حرب**.. ومن أجله أيضاً احتملوا التشريد في مَنافي الطليان .. والمقابر الجماعية .. والزَّجّ في المُعتقلات .. هل تعرفون معنى ( الزَّجّ ) ..؟

تبادلنا النظرات .. وفي لحظة واحدة ذهبَتْ أَذهاننا إلى المعنى نفسه .. أَطْرَقْنا .. وتظاهرْنا بتأمل ( التُّراب الوَطني ) .. ونحن نسترق النظرات من تحت .

ـ شياطين ..! كلمة ( الزَّجّ ) لا تحمل أيّ معنىً بذيء .. إنها تعني فقط ( الإدخال عنوة ) ..!

بدَأْنا نخنق الضحك .. أحسَّ مُعلِّمنا بالحرج .. قرَعنا بالعصا على رؤوسنا .. ثم تنحنح .. وقال:

ـ التُّراب الوَطني طاهر .. مُقدَّس .. والتفريط في حَبَّة واحدة منه خيانة عُظمى .. والولاء للتُّراب الوَطني هو أحد مقاييس المواطَنة .

أَغمض عينيه وتأَوَّه مُنتشياً وهو يستنشق التراب .. ثم شرع من جديد يُمَرِّر قبضته اليُمنى من تحت أُنوفنا مباشرة .. ضاغِطاً بيده اليُسرى فوق أَعناقنا .. صارِخاً :

ـ شمُّوا .. شمُّوا ( التُّراب الوَطني ) .. المقدَّس .. الطاهر .

اجتاحتْنا نَوبة عُطاس .. ونحن نمسح التراب العالِق بأُنوفنا .

ـ عندكم ربع ساعة استراحة .. وبعدها كل واحد يحَضِّر كَم جُملة عَ التُّراب الوَطني .

( 2 )

… ( التُّراب الوَطني ) يُحاصر خُطواتنا .. يُكَبِّلها .. يخنقها .. بدأْنا نمشي بحَذَر .. على أَمشاط أقدامنا .. وداخلنا إحساس بالخطيئة .

… قبل انتهاء الاستراحة أَطْلَقْنا صرخة جماعية مُهرولين باتجاه المُعلِّم :

ـ يا أستااااااااااذ .. العَيّل بال عَ التُّراب الوَطنييييييي ..!!

خَلَع مِعطَفَه الرَّمادي .. شَمَّر كُمَّيه .. أَسرع مُلوِّحاً بعصا الزيتون :

ـ تعال هنا يا خَرَاء .. أنت اللي دَنَّست ( التُّراب الوَطني ) ..؟! مدّ  يَدَّك .

ـ يا أستاذ .. ما قلت لنا أمس الزيتون هو رمز السلام ..!

بعد الجلدة الأولى .. أخذ التلميذ ينفخ في كَفَّيه .. ثُمَّ ضَمَّهما تحت إبطَيه وهو يرتجف وينشق بأنفه .. وصرخ من خلال دموعه :

ـ الله غالب يا أستاذ .. كلّه تراب وَطني .. وَيْن نبُول ..؟!

( 2002 )

مقالات ذات علاقة

عندما اشتعل الرأس شيباً

حسين نصيب المالكي

زهرة الأوركيد

مفيدة محمد جبران

الايام الخوالى

المشرف العام

اترك تعليق