المقالة

البنغازيون وربيع الأول..!

الاحتفال بالمولد النبوي بمدينة بنغازي قديماً (الصورة: عن الشبكة)


أطلق البنغازيون على شهر ربيع الأول اسم آخر مثلهم مثل الكثير من الليبيين هو اسم “الميلود” نسبة لمولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الشهر الثالث من السنة القمرية الهجرية.

يحتفل البنغازيون في شهر “الميلود” بالمولد النبوي الشريف في أجواء دينية رائعة وتحديداً مساء الحادي عشر من شهر الربيع الأول حيث تعم الاحتفالات الدينية في المساجد والزوايا المختلفة، كما تعج أزقة بنغازي وشوارعها في ذلك المساء بضجيج وأناشيد الأطفال وهم يحملون قناديلهم المضيئة، ذاكرين المولد النبوي الشريف والذي سوف يصادف ذكرته بعد عدة ساعات من مساء الحادي عشر أي في الثاني عشر، فلقد ولد في مثل هذا اليوم وهو الثاني عشر من نفس الشهر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في عام الفيل الشهير. بمجرد أن يهل هلال الميلود أو ربيع الأول يفرح أطفال بنغازي بقدوم هذا الشهر خاصة بعد أن تعبوا من حزن شهر صفر وما قيل عنه من قبل العجائز البنغازيات. فشهر ربيع الأول أو الميلود كما يطلق عليه أهل بنغازي وبمجرد ذكر اسمه حتى تدخل الفرحة قلوب الصغار والكبار من البنغازيين فارحين بهذا الشهر الذي يعتبر عندهم احد الشهور التي يتخللها مناسبة عظيمة تذكرهم بمولد سيد خلق محمد صلى الله عليه وسلم. أطلق البنغازيون على هذه المناسبة عيد الميلود أو كما يطلق عليه الكثير من الأطفال البنغازيين عيد القنديل. عيد القنديل أوعيد الميلود يتم عادة الشروع بالاحتفال به عند الكثير من البنغازيين في مساء الحادي عشر من شهر ربيع الأول “الميلود ” الذي يصادف الليل فيه دخول الثاني عشر من ربيع الأول يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه يحتفل الأطفال بنين وبنات منذ المساء حتى الصباح ويستخدمون في ذلك الإضاءة ويرددون الأناشيد وعديد العبارات الشعبية التي خلدها البنغازيون في تراثهم الشعبي الذي برز منذ أن تم إنشاء بنغازي مدينة المساء مدينة الغروب وعرفوا الميلود.

 في بداية الشهر كان البنغازيون يستعدون للاحتفال بالمولد النبوي الشريف من الصغار والكبار كل بطريقته الخاصة. الكبار كانوا يترددون على المساجد والتي كانت قليلة في بنغازي. كانت هناك فوق قلعة بنغازي تسعة مدافع كبيرة موجهة ضد المدينة، كانت تلك المدافع تطلق قذائف في منتصف كل يوم وفي الأعياد والمناسبات الإسلامية، وكانت مناسبة المولد النبوي الشريف من ضمن المناسبات التي تطلق بشأنها عدد من القذائف ترحيباً بهذه المناسبة السعيدة التي أطلت على المدينة وسكانها.

الاحتفال بالمولد النبوي بمدينة بنغازي قديماً (الصورة: عن الشبكة)

عرف البنغازيون ربيع الأول منذ قدوم الإسلام إليها، وتعرف الكثير منهم على طقوس الاحتفال به خاصة الأطفال الذين خلدوه أكثر من الكبار من خلال أناشيدهم الخالدة التي تعبر عن البراءة والوادعة والتي صارت من الموروث الثقافي وهوية المدينة. كان الكبار يحتفلون بالمولد النبوي بإقامة الصلاة والندوات والمحاضرات الدينية بالجوامع البنغازية القليلة خاصة أبان الحكم العثماني الأول والثاني والاحتلال الايطالي والإدارة البريطانية وما بعد الاستقلال. كان هناك من الكبار من يحتفل به بالزوايا الصوفية بعضهم يقيم ما يسمى الحضرة التي يتردد فيها الإنشاد الديني وما يطلقون عليه الأحزاب والتي كان الأطفال ينسجون عنها عديد الحكايات التي تقول أن فيها طعون بالسكاكين واكل جمر النار وغيرها من الأشياء الغريبة. في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول كانت الزوايا الصوفية خاصة في الصابري تنشد ما يسمى الأحزاب وتخرج في صباح الثاني عشر برجالها وشبابها وأطفالها بالبخور مرددين عبارات تذكر النبي صلى الله عليه وسلم، كانت تمر على المحلات ويرش على موكبها ماء الزهر بعضها يذهب إلى مقبرة سيدي أعبيد ” جبانة سي أعبيد “. في الخمسينات والستينات من القرن العشرين كان البنغازيون يحتفلون بالمولد النبوي الشريف كبارا وصغارا بشكلية جديدة حيث كان الصغار يخرجون في أزقة وشوارع بنغازي عند مساء الحادي عشر من ربيع الأول حاملين بأيديهم قناديلهم والتي كانت تضئ في ذلك العصر بالشمع خاصة التي صنعت من قبل الآباء والأجداد والتي كانت عبارة عن قراطيس ورقية ملونة بها صفيحة صغيرة معدنية توضع فيها الشمعة وتحمل بغصن جريد، كما كان هناك بعض من الأطفال يقومون بحمل قناديل أخرى مصنوعة من صفائح المعدن والزجاج الملون والتي يكون وسطها صفيحة صغيرة توضع فيها شمعة، ثم جاءت القناديل الورقية ذات الألوان المتعددة التي يكون في منتصفها صفيحة معدنية صغيرة لتوضع فيها الشمعة. كانت أهم معالم بنغازي في الخمسينات والستينات إضافة إلى المنارة وأضرحة الأولياء الصالحين في لبلد والبركة وسيدي حسين كانت حفرة الدم في طرف الصابري الغربي وهي المشنقة التي كان يشنق فيها الايطاليون الليبيين. كان بعض من البنغازيين الكبار يذهبون في مساء الحادي عشر من الميلود ” ربيع الأول ” إلى عدة زوايا في المدينة مثل الزاوية التجانية والزاوية الرفاعية والزاوية العيساوية وغيرها للاحتفال بالمولد النبوي الشريف. كانت تصنع في الميلود حلوى بعدة ألوان يطلق عليها الكثير من البنغازيين ” حلوة الزاوية ” وقيل أن سبب التسمية جاء من صناعتها بالقرب من الزاوية، وكان الكثير من أهل بنغازي يشترونها بالقرب من منارة سيدي اخريبيش في الخمسينات والستينات من القرن العشرين ثم تلاشت في السبعينات من القرن العشرين.

 من بداية شهر ربيع الأول أو الميلود في الخمسينات والستينات من القرن العشرين كان البنغازيون كبارا وصغارا يجبون الأسواق خاصة سوق الجريد وسوق الظلام وسوق الترك وسوق الرويسات لشراء قناديل الميلود لكي يستخدمها الصغار في الليلة التي يهل فيها اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ” الميلود “. كما يقوم الكثير من البنغازيين بشراء الرب والعسل والسمن والدقيق من اجل تحضير عصيدة عيد الميلود. كان الكثير من البنغازيين يفطرون صبيحة يوم الثاني عشر من ربيع الأول على عصيدة بالسمن والرب أو العسل حيث كانت البنغازيات تتفنن في تحضير هذه الأكل الشعبية وكانت الجارات البنغازيات يتبادلن العصيدة فيما بينهن في ذلك اليوم من ذلك الشهر لتعم الفرحة ويعم الرخاء على الجميع. في مساء يوم الحادي عشر من ربيع الأول خاصة في الخمسينات والستينات من القرن العشرين وبعد أن يتم شراء وإعداد قناديل للأطفال ويكون لكل طفل قنديل مناسب، منهم من تحصل على قنديل معدني ذو الصفائح الزجاجية والذي توضع وسطه شمعة وتوقد حين يقبل الليل ويرخي سدوله على مدينة بنغازي مدينة المساء أو مدينة الغروب كما كان يطلق عليها الإغريق قديما، ومن الأطفال من يكون له قنديل من الورق توضع وسطه شمعة توقد عند قدوم الليل، ومن الأطفال من كان يستخدم الفنار الذي به فتيل يشعل بواسطة القاز ” الكوراسين. كان الأطفال في بنغازي وهم يسيرون حاملين قناديلهم في الأزقة والشوارع يرددون أناشيد وأغاني تذكر المولد النبوي الشريف، حيث كثيرا ما كان الأطفال بنينا وبنات يرددون أناشيد تقول :-

“هذا قنديل أو قنديل

 هذا قنديل اوقنديل يشعل في ظلمات الليل”

وكذلك من الأغاني والأناشيد ما يقول :-

“هذا قنديل الرسول فاطمة جابت منصور”

“هذا قنديل النبي فاطمة جابت علي “

“هذا قنديلك يا حواء يشعل من البارح لا تواء”

“هذا قنديلك يا حواء والنوار فتح من تواء”

 هذا وقد قيل بان عادة الخروج في الليل بالفوانيس والقناديل والشعل المضيئة من قبل الأطفال قد انتشرت في عهد السلطة الفاطمية. وهي احتفالية تقام كذلك في مصر في شهر رمضان ولكن تختلف الأناشيد حيث يكون الإنشاد في مصر عن شهر رمضان وهي لازالت تقام هناك. بعد شهر الميلود أشهر اتويبعاتا الاثنين ربيع الثاني ” اتويبع الميلود الأول وشهر جمادى الأولى ” اتويبع الميلود الثاني أو المنسي الأول. هذا وقد تطور خروج الأطفال في بنغازي بالقناديل بعد أن كانت عبارة عن قراطيس من الورق بها صفائح معدنية توضع بها شموع ترفع بجريد النخيل أو فوانيس فخارية بها خيوط من الغزل مغموسة بزيت الزيتون أو شمع عسل النحل وموقود فيها نار، ومن الفنار إلى القنديل الورقي من الصنع الصيني الذي توضع فيه شمعة وتشعل عند الغروب إلى القناديل المصنوعة من الزنك الرفيع وجوانبها من الزجاج الملون وتمسك من الأعلى بممسك حديدي خفيف والتي يوضع وسطها شمعة وتوقد في الليلة التي يبدأ فيها اليوم الثاني عشر من الميلود ” ربيع الأول ” ثم ظهرت القناديل بمصابيح صغيرة تضئ بواسطة بطاريات صغيرة في بداية السبعينات من القرن العشرين من بعدها صارت تتطور إلى أن صارت بالليزر وتضئ بواسطة بطاريات الكترونية خاصة في الألفية الثانية. وقد اختفت الأناشيد والأغاني التي كان الأطفال في بنغازي يتغنون بها مساء يوم الحادي عشر من ربيع الأول، وما بعده بأيام، وتجمد الاحتفال بالمولد النبوي وبشهر الميلود وصار الاحتفال به في نطاق ضيق لا يتعدى محاضرة دينية وحيدة بأحد الجوامع لا يعلمها إلا القليل من الناس.

مقالات ذات علاقة

الأنبياء الكذبة وقدر الإبراهيمية!

علي عبدالله

عن الصادق النيهوم الهيبي الذي كتب الكتاب الأخضر وعن كتابته

أحمد الفيتوري

هموم الثقافة الليبية.. بخصوص الحاجة الى استحداث المناهج الثقافية التعليمية

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق