قصة

البطشة

من أعمال الفنان المصور أحمد السيفاو

(1 )

الباب الخشبي موصدٌ ومقفل من الداخل.. المرفقان على سطح المنضدة.. فيما القبضتان معقودتان على جانبي الوجه كدعامتين للرأس المطرق.. وثقل الرأس على القبضتين أدى إلى شد طرفي الجفنين لأعلى، حتى بدت عيناه مثل أعين الصينيين.. لاشيء يكسر صمت المكان، خلا صوت المذياع يدندن خافتاً بأغنيةٍ قديمة..

– لا يبدو العدو قريباً..

قالها في نفسه، وهو يحدق ساهماً في إحدى خرائط كتاب مباديء الجغرافيا الموضوع أمامه فيما كان يحاول المذاكرة.

بطريقةٍ لاإرادية، وبحركةٍ آلية صرفة، تناول المسطرة من مكانٍ ما على المنضدة ربما، أو ربما تحتها لم ينتبه.. ثم تَمتمَ:

– حسناً.. نحن نقبع هنا.. والعدو يربض هناك..

أخذ يقيس المسافة بين النقطتين.. بحسب مقياس الرسم أسفل الخريطة، كانت تفصل بينه وبين العدو آلاف الأميال. تنفس بعمقٍ مستشعراً نوعاً من الأمن والطمأنينة.. راح يتأمل منبهراً كيف أن كل ملليمتر على هذه المسطرة الصغيرة، يمثل ما يعادل أضعافَ أضعافِ المسافة من “البرَّاكة” التي يقطنها إلى “كهف العشَيْشِيَّة” حيث يرعى الماعز كل يوم. وعند هذه اللحظة بالذات، تذكَّر “البطشة” التي وجدها عند هذا العصر ملقاةً بين الأعشاب قرب الكهف. أخرجها من جيب سترته:

– هل يُعقل..؟ أن المسافة من هنا إلى حيث وجدت هذه البطشة، والتي أقطعها لاهثاً وراء القطيع على مدى أكثر من ساعتين كل يوم، هي فقط هذه النقطة الدقيقة التي لاتكاد تُرى بالعين المجردة على المسطرة..؟ لا عجب إذاً فيما أسمعهم يرددونه في المذياع من أن الكرة الأرضية قد أصبحت قريةً صغيرة..!!؟

( 2 )

أخذ يُقلِّب البطشة بين أنامله متخيلاً أنها الكرة الأرضية. وراح يتخيل نفسه واقفاً عليها بذات النسبة الحقيقية بين حجم الإنسان والكوكب.. تأمل ملياً.. انشده.. هل يُعقل..؟.. قرَّبها إلى وجهه محاولاً رؤية حجمه وهو واقف فوقها.. لم يرَ شيئاً.. قرَّبها أكثر.. احولّلت عيناه.. أخذه الفزع.. تلاحقت أنفاسه.. انتقع وجهه وهو يهمس:

– اللعنة.. كم هو عالمٌ صغير.. العدو ليس بعيداً إذاً.. نحن على البطشة ذاتها..؟.. ياساتر..

على الخريطة، رأى المسطرة وقد تحولت إلى جسرٍ عظيم، يربط ما بين “البرّاكة” وعاصمة العدو. ورأى الدبابات تعتلي الجسر من جهة العاصمة اللعينة، متجهةً إلى البرّاكة مصوبةً المدافع نحوها. أصواتها مرعبة.. الطائـرات كذلك أقلعت صـوب البرّاكة.. رصدها تقلع من إحدى القواعد على البطشة هذه المرة.. دوي الإنفجارات يزلزل أركان البراكة.. بيانات عاجلة عن وقوع غارات بدأت تصدر عن المذياع بدلاً من الموسيقى التي توقفت فجأة، إضافةً إلى بيانات شجب واستنكار على لسان سكرتيرة فخامة الـ ” ؟؟؟ “.. إلى أين سيهرب الآن.. ؟ انتصب واقفاً.. الزعيق والعويل يملآن المكان.. ماذا يفعل.. ؟ إنه مضطربٌ يشلُّه الخوف.. كيف سيدافع ؟ الحذاء.. أجل الحذاء.. (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة).. أمسك برقبة حذائه الموحل وجعل يدكُّ به البطشة.. ثم تردد:

– لا ذنب لستة مليارات من سكان الأرض فيما يقترفه العدو، لأسحقهم بحذائي الموحل. سأسحق عاصمة العدو على الخريطة.. سأباغتهم من الخلف في عقر عاصمتهم بينما تزحف الدبابات والطائرات إلى هنا..

بدأ يدك العاصمة بشراسة وعنف.. تطايرت الأشياء من فوق المنضدة.. اشتد الضجيج.. أزيز الطائرات وهدير الدبابات وصراخ الثكالى وأناشيد المذياع الحماسية ودعاء القنوت في المساجد.. استبد به الحماس.. واصل دك العاصمة ببسالة وهو يصيح:

– “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.. الله أكبر.. الله أكبر.. ” وليخسأ الخاسئون “..

( 3 )

والده يصرخ خارجاً هو الآخر، مزحزحاً الباب الموصد والمقفل من الداخل:

– أسكت.. أسكت يا ابن الكلب.. هل هذا وقت مطاردة الفئران !؟ نريد أن ننام يا “بني آدم”..

مقالات ذات علاقة

حبيبتي الأولى مختلفة جداً

عبدالله عمران

لا زمن فيما وراء الشمس

سعد الأريل

وصايا توزين

جلال عثمان

اترك تعليق