من أعمال التشكيلية أسماء بشاشة
قصة

الباقي من زمن الإمتحان .. ساعة

من أعمال التشكيلية أسماء بشاشة
من أعمال التشكيلية أسماء بشاشة

سكون رهيب كسكون الموتى في مقبرة جماعية هيمن علي القاعة التي تحمل رقم ( 15 ) إثر دخولي أنا وزميلتي إلى المكان ، النظرات الصغيرة القلقة تتعلق بي وبصديقتي ” فاطمة ” المعلمة في مجال ” علم النبات ” وهي تعمل في نفس البمدرسة التي أعمل بها ، كنت أدرس مادة البرمجة للثانوية العامة .
.
.
أبتسم في شحوب ، لا أدري لمن أرسلها ولكنها كانت أبتسامة باهتة ، صفراء ، لا أثر لمودة أو عمق ، أبتسامة سطحية ، ذابلة .
تنتبه ” فاطمة ” إلى أبتسامتي فترد بأبتسامة صافية ، عميقة ، مشجعة.
أنظار الطالبات قلقة ، حائرة ، مترقبة ، خائفة ، أحداهن ترسل نظرات ذات مغزى إلى صديقتها التي تبادلها نفس النظرات ، يبتسمان في خبث ثم يبدأن في جس نبضي ونبض زميلتي في محاولة يائسة لمعرفة أي نوع من المراقبين نحن ..؟
أهمس إلى فاطمة :
لقد بدأت الحرب ..
فترد بهدوء معروف عنها وبكلمة ترددها دائما
يستر الله.
طالبة ترسل نظراتها إلى السقف في براءة ممزوجة بشيء من الوقاحة وشيئاً فشيئاً تختفي البراءة وتظل الوقاحة تطل من عينين صغيرتين كعيني ” هر ” جائع حرمناه من قطعة دسمة من لحم الضأن الفاخر .
.
.
أتطلع إلى الزمن أتحسس الساعة في معصم يدي ، تمر الدقائق في بطء شديد ، أكتم صرختي إذ تتحول عقارب الساعة إلى سلاحف غابرة تمد ألسنتها ساخرة مني ومن فاطمة فيما تواصل زحفها الحثيث عبر نفق ضيق وملتوي ونتعرج إيضاً غير مهتمة بما نعانيه من قلق ، وخوف و توجس .
أخيراً تأتي أوراق الأسئلة ،يجلبها أحد أعضاء اللجنة المشرفة على الإمتحانات الموفد من أحدى القرى النائية خارج نطاق المنطقة و لا أدري هل لذلك علاقة بالمحافظة على أستتباب الأمن ومنع محاولات الغش المختلفة التي لا تخطر على بال أم لذر الرماد في العيون كما يقال ، عموما نظرات صديقتي فاطمة تقول :
أشك في ذلك.
.
.
تتنفس الطالبات الصعداء إثر توزيع الأوراق الخاصة بالإسئلة وإثر دخول الأستاذ ” خميس” إلى القاعة مشجعاً داعياً للطالبات بالنجاح والتوفيق وداعياً لنا بأشياء أخرى كثيرة لا مكان لها في هذه اللحظة بالذات ، وأحياناً يتسلل وفي يده كأس من الماء المثلج ، أو يقتحم القاعة مواسياً وفي يده منديل أبيض ولا أدري لماذا طلته لها أثرعميق وطيب في نفوس بعض الطالبات ، تراه وكأنه يرأس جمعية الرفق والرحمة والإٌحسان إلى المحتاجين ،أو أحد متطوعي جمعية مشهورة لرعاية الأيتام ، عند خروجه تنقلب سحنات الطالبات و تنكمش ملامحهن السريرة و يهيمن القلق مرة أخرى .
.
.
تمر اللحظات بطيئة ، متثاقلة كأنها أعوام و أمارس لعبة قتل الوقت البطيء بعّد الطالبات وحفظ أسمائهن الثلاثية ومحاولة تذكرها فيما لو حدثت أي محاولة غش أو مباغتة غير متوقعة فتكون ذاكرتي في حالة تحفز دائم لردع ذلك وشن الهجوم في الوقت المناسب .
أحدى الطالبات بدأت في ممارسة لعبة التحديق فيّ بشدة و تتسلى بقضم طرف ورقة الأسئلة والعبث فأستغفر الله في سري ..
يا لهذه النظرات الوقحة.
.
.
أرسل نظراتي تارة إلى السقف وتارة إلى بقية القاعة وأحياناً إلى اللاشيء و أعود لأجد نفس النظرات المحدقة ورغم معرفتي بسر هذا التحديق ورغم خبرتي المتواضعة جداً في سبر غور النفوس ومعرفة أسرارها إلا أنني تضايقت جداً من هذا التحديق .
ما سر هذه النظرات …؟
أشرت إلى ” فاطمة ” أن تستريح قليلاً وهمستُ بأن أقف لإعمل جولة تفقدية في قاعة الإمتحان إلا أنني عدلت عن ذلك ، يجب أن أواجه هذه النظرات وفعلاً تمت مواجهة هذا العدو الصغير الشرس وكانت المواجهة فاصلة ، همست إلى صديقتي :
أعصابي تالفة ..
ردت فاطمة :
تشجعي .. نحن في مركز قوة ، المهم أن نمنع كل محاولة غش مهما كانت .
طالبة تلجأ إلى حيلة قديمة فترسل دموعها أو ما نسميه في أصطلاحنا ” دموع الرحمة لجلب الشفقة ” وخاصة عندما يمر أحد أعضاء اللجنة ، طبعاً دموع حواء مؤثرة ، أيتسم هازئة وأقول في سري :
ها هي حواء تشهر سلاحها العتيق دون فائدة.
.
.
هيهات ثم هيهات فالحيلة القديمة لا تنطلي على صديقنا عضو اللجنة الموقرة التي قطع مسافة تزيد عن الألف كيلومتر لإداء الواجب المقدس ، تشير إليّ فاطمة أن أجلس لكنني لا أفعل فهي لا تدري مدى ما أعاني من قلق فالنظرات الجريئة الوقحة فعلت فعلها معي ، أتحسس ساعة اليد في معصمي لا زالت السلاحف الغابرة تمد ألسنتها ساخرة مني ، أنها تشاكسني وتمارس ضدي ألعاباً خفية بدقة ومهارة ، لا استطيع فهم أبعادها أو التكهن بقواعدها الأساسية وفك رموزها التي تستعصي على فهمي ، و أه لو ….. ولكن حتى ” لو ” هذه تشاكسني وتعقد اتفاقاً سرياً مع سلاحف الزمن الغابر ضدي .
.
.
الساعة الآن ” التاسعة ” والزمن المقرر لإداء الإمتحان ثلاث ساعات ، ثلاث ساعات تعمل الكثير ، أنها كافية لقلب موازين العالم و تزييف الحقائق وفعل أشياء أخرى كثيرة فما بالك بنفس بشرية ضعييفة خائفة وقلقة ، نسمات ندية تداعب وجهي في لطف ونعومة عندما أقف أراقب القاعة عند النافذة ، كان الجو ربيعياً جميلاً ومنعشاً رغم أننا في نهاية فصل الصيف ” يونيو ” وهكذا حال الطقس في مدينتي .
أسند رأسي إلى النافذة الواسعة التي تتصدر القاعة فتصطدم نظراتي بنظرات الطالبة المحدقة فأرسل ببصري هاربة إلى السقف من جديد .
.
.
ثمة تشققات تبرز بفعل الإهمال وعدم الصيانة في السقف يخيل إلى بأنها بدأت تتسع حتى صارت إخدوداً عظيماً هائل العمق تطل منه عيون واسعة محدقة فأغمض عيّني بشدة وأحاول رسم صورة رائعة لعالم مبهج ونقي ، أبنيه بعيداً ، أشيده بفعل طقوس حلم جميل ، عالماً بسيطاً وشفافاً كأوراق الورد البيضاء أو كندف الثلج البلورية المتساقطة ، يرفرف قلبي بشدة عندما تعلن ” فاطمة ” عن الزمن قائلة :
إنها العاشرة الآن …
.
.
أتنهد في عمق ، أقول في ذات نفسي .. الباقي من الزمن ساعة ، ساعة فقط ، أنها الساعة الحرجة ، الساعة التي تضع فيها الطالبات النقاط على الحروف فتتململ أحداهن في جلستها ، وتتثاءب أخرى ، وتطلب الماء المثلج ثالثة ونحاول الغش رابعة فتفشل وتستسلم وتُسلم دفتر الإجابة في يأس و نتنفس أنا وفاطمة الصعداء .
الباقي من زمن الإمتحان ساعة ، أنظر إلى الطالبة المحدقة فيّ بشدة فأجد نظراتها باهتة مهزومة ومنكسرة وأجدها تتقزم حتى تصبح مسخاً باهتاً يبتعد عني لكن دمعة ليست كدموع التماسيح تنفر من عينيها تثيرني ، أنظر إلى ورقة أجابتها البيضاء فأجدها خالية ويتداعى عالمي الجميل ، ينهار حلمي وتترك دموعها أثراً عميقاً في نفسي ورغم نظرات صديقتي فاطمة المشجعة إلا أنني أحس شبح الهزيمة يغتالني .. أنني خائفة حتى النخاع ، وقلقة إلى درجة الموت ، ومهزومة في الصمي فأترك القاعة ، أترك الإمتحان والطالبات وصديقتي و اللجنة التي تم جلبها من مكان بعيد ، لا أوقع على إستلام دفاتر الإجابة من الطالبات ولا أعلن بتوقيعي في سجل الإنصراف وأخرج لا ألوي على شيء ، أسلك ممراً طويلاً يؤدي إبى سلم فأركض خلاله ، أركض وأركض ، تزل قدمي وأجد نفسي أتهاوى ، أسقط فيما يتناهى إلى مسمعي صوت جرس المدرسة معلناً إنتهاء زمن الإمتحان .
.
.
البيضاء \ 30-6-1996 م

مقالات ذات علاقة

جيران…

أحمد يوسف عقيلة

سيرة ضحكة (2).. (لابلاكا ذات صيف).. أم النفايل

المشرف العام

صناعة محلية

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق