من أعمال التشكيلي الليبي الطاهر المغربي.
تجارب

إجري وراها يا دبيبة… “هل بالطلول لسائلٍ ردُّ.. أم هل لها بِتكلّمٍ عهدُ“

في بيت قديم قضينا زمناً من عمرٍ يلفّه الوجد والحب.. نمنا جميعاً مثل محاربين تحت سقف من الزنك بقلوب ممتلئة بأيام قادمة ربما تكون أوفر حظاً.. لا شيء يمكن أن يلهينا عن الكدح سوى نكات نطلقها نكايةً في الفقر.. ثم نلحقها بابتسامات لطالما مدت الأيام يدها لتخدشها ولم تستطيع…

من أعمال التشكيلي الليبي الطاهر المغربي.
من أعمال التشكيلي الليبي الطاهر المغربي.


في الصباح تضع أمي (الشكوة) على ركبتيها مبتسمة لتسقينا من لبنها.. يخرج اثنان منا ليطلقا سراح الأغنام كبداية جديدة.. بينما يقف أبي وسط حقل القمح في محاولة لوضع رأس سنبلة مقطوع فوق جسده لتراه النعاج.. أبي الذي فضل المشي في مسارب الغابة متتبعاً خطى أسلافه على المشي في مدن تعج بالضجيج…
منذ حوالي خمس وعشرين سنة تقريباً كنا هناك.. وكانت لنا شياه نتبع بها شعف الجبال.. في الشتاء ومع بداية كل عام دراسي كان أبي ينقلنا في سيارته (البيجو) المتهالكة نحو المدينة لنكمل دراستنا.. نتناثر طيلة العام بين مدارس وجامعات.. ومع آخر يوم في الاختبارات ننتظره بلهفة وينتظرنا.. ليرجع بنا صوب أمنا و(شكوتها).. لنمكل صيفاً كاملاً ونحن نركض وراء الشياه صغاراً وكباراً.. نتناوب على رعيها.. بينما كان الفقر يلكمنا على وجوهنا فتقول أمي: (سترى.. ولكن ليس الآن.. سترى كيف أنهم سيلكمونك فيما بعد)…

كان أخي “صالح” أكثرنا تعلقاً بوالدي وشياهه.. حتى أنه قرر أن يدرس الطب البيطري لأجل ذلك.. وكان شديد التعلق بكرة القدم (برازيلياً على وجه الخصوص).. ولكن كانت مشاهدة المبارايات وقتها أمراً شبه مستحيل.. أذكر مرة أننا كنا مع الأغنام وكانت هناك مباراة تجمع منتخبي نيجيريا والبرازيل.. كانت السماء مقمرة.. وأخي يستمع للمباراة في مذياع صغير.. يتلهف مع كل علوّ صوت للمعلق علّها هجمة للبرازيل.. لكنها انتهت بخسارتهم.. تغير وجهه كثيراً وشعر بالحنق ليلتها.. لكن عينه ظلت تراقب الشياه بلا غفلة.. أركبني على الحمار وقال لي تقدم أمامنا.. ركبت الحمار وأنا أنظر للمعة القمر على وجه أخي وكيف اختلطت بملامحه الغاضبة…

كانت الحياة بسيطة جداً ومعقدةً في آن واحد.. نكبر على مهل ولكن شيئاً ما كان يذوي فينا بقوة.. شيء تبين أنها الطفولة كانت تبتعد .. أخي الأكبر “نوح” كان والداً آخر لنا.. كان وتداً يسندنا حين تتمايل أرواحنا.. يمكنه التساهل معك في كل شيء إلا فيما يتعلق بالعلم.. وربما كانت عصاه مصدر رعب لنا فيما لو قصر أحدنا في دراسته.. كثيراً ما كان يقول: “عصاة الفقيه اتخشش للجنة” كنوع من التهديد المبطن.. لكنه كان مليئاً بالحب.. الحب الذي للآن ونحن نشرب منه بعد وفاة أبي.. كان يحبّ أن أغني له حين كنت صغيراً.. الغناء الذي للآن وأنا أسمع صداه في ذاكرتي.. كبرتُ الآن ولم يعد يطلب ذلك مني.. لكنني لازلت أمشي بين فراغات الأيام وأدندن كي لا تعلم أنني خائف فتضيعني…

أبي كان بلّاطاً أيضاً.. يرصفُ البلاط كما يرصفُ أيامنا حتى لا يتخلّلها الحزن.. و كان سارقاً محترفاً.. رأيتهُ مرةً يختلسُ رغيفاً من جيب الزمان ويجري.. بينمَا كانت الفاقة تضحك خلفه بـ وجهٍ ممسوخ.. كانَ عاملاً فقيراً.. يرجعُ لنا كلّ مساءٍ بـ بعضِ طعامٍ ويدينِ ملطختينِ بالدّماء.. يقولُ : تناولُوا.. فقدِ احمرّ عرَقي من الشمس.. كان شديداً أيضاً.. يكره الرجال الضعفاء.. يمكنه شنقك لو أحس بوهنك.. تذكرت مرةً أن أفلتت من يدي شاة وهربت.. فصرخ في وجهي: “اجري وراها يا دبيبة وتجي بلاها نقتلك“…

مات.. ورجعنا للمدينة بحزن طويل جداً.. لكننا كنا نركض في اتجاه واحد.. ذاك الاتجاه الذي كان يقصده لأجلنا.. مات وأنا في عمر الحادية عشرة.. لا أعرف من هذه الحياة شيئاً إلا أن أعود من المدرسة لأجده في البيت.. مات ذلك الرجل وترك أماً وأربعة عشر أخاً وأختاً يغرفون للآن من عرق جبينه ما يشد بأسهم…
أذكر بعد وفاته بفترة قصيرة أنني خرجت من المسجد.. فسلّم علي رجل كبير في السن ومازحني.. ثم سألني عن اسم والدي فأخبرته.. فوضع يديه على كتفي وقال: “بوك نعرفه كويس.. كان طلعت كيفه ما يغلبك حد” ثم ذهب ولم أعرفه.. من يدري؟ ربما لست مثله.. لكنني للآن وأنا أركض صوب وجهه بقوة كي أكون…
زرتُ بيتنا ذاك منذ مدة.. جلست في منتصفه.. بكيت قليلاً واختنقتُ بغصة طويلة طول اشتياقي.. ثم هُيّء لي أن أحداً يناديني: “ما تبكيش يا دبيبة“…

لا أملك من يستمع لكل هذه الذاكرة المتراكمة فوق روحي.. لكنني أكتبها بوضوح جداً.. كأن الزمن يرسم لي وجوهاً وأمكنةً وأوقاتاً بشكل مقصود…
يا الله مجروحة هذه الأيام حقاً.. ونحن نسيل منها كـدماء ساخنة.. من قال أن الزمن كفيل بالنسيان؟! لابد أنه كان بلا ذاكرةٍ أصلاً.. أو أنه نحت ذاكرةً قبيحةً لدى أحدهم وهرب.. ها نحن نكدّس الوقت فوق الوقت ولا ننسى.. نتذكر حتى أشياء لا تتعلق بنا.. ثم نضحكُ ببلاهةٍ لأن خيالاً عزيزاً مر بالصدفةِ أثناء تذكّر ملعون.. أذكر مرةً أنني أسرفتُ في محاولةِ النسيان فتشقّق وجهي.. قال جاري : أن هناك رؤوساً صغيرةً تخرج من جبهتي وترجع !! وأنا صدّقته.. ذلك لأنني نجحت في قطع أحدها بالصدفة .. للآن وأنا أسمع صراخه.. لابد أنه صار ذاكرةً ثابتة…

هذه الأيام مجروحة نعم.. لا شيء يشد على جرحها المتسع كل يوم.. وأنا كَخيّاط مُسن أحاول عبثاً أن ألِج ثقب الحَياةِ.. ولكنّ رُوحِي تَرتعِشْ.. تَرتعِشُ أيها الأصدقاء…
يا الله.. املأنا بالأحبة الصادقين.. عبّئ أرواحنا بمحبتهم.. ومتعنا بلقائهم وأحاديثهم.. إنهم يا إلهنا فجوة هروبنا من هذا النفق المُدلهم.
____________________________
* البيت من القصيدة الدعدية أو اليتيمة.

مقالات ذات علاقة

تعرف على كاتب ليبي مسكون بمدينة غدامس

المشرف العام

أنا وميزران.. والسينما!

المشرف العام

الجزء الأول/ ليل الزنازين، سرد لذكريات 7 سنوات في سجون القذافي

اترك تعليق