النقد

إبحار مترقب في قصة (توجس) للكاتب الكبير فتحي نصيب

إبراهيم معوض (كاتب وروائي – مصر)

2019 Ink on paper Adnan Meatek 32 x 42 cm

كلما هممتْ أن أكتب محوت وأعدت الكتابة ثم محوت وأعدت القراءة، حتى اهتديت إلى فكرة: أن أبدأ من حيث انتهت القصة.

“القلق الموحد يقود إلى التفكير الموحد” فلو وْضع مجموعة من البشر تحت وطأة قلق مستمر لفكروا جميعًا بنفس الطريقة؛ فيموت بينهم الإبداع ويقتل الإيثار وتتولد بينهم ذاتية مرعبة وأنانية بشعة، ويصير التفكير أحاديًا يهدف إلى الحفاظ على النفس من الأخطار المحدقة -التي لا يْعرف كنهها- ولا هم لهم سوى ذلك فيتقلص طموحهم شيئًا فشيئًا.

برغم الاختلاف بين البطلين في قصتنا فلا يوجد بينهما أي خيط من معرفة مسبقة، إلا أن التوجس كان هو الرباط الذي قادهما لنفس التفكير، والغريب أنهما حين قررا أن يغيرا المقهى ذهبا إلى نفس المكان الذي ظن كل منهما على حدة أنه يهرب فيه من الآخر، تصرف طبيعي كان نتاج تفكير قالبي لايسود إلا في الأوساط التي تجرم التنوع والاختلاف.

نعود إلى البداية: العنوان “توجس“.

عنوان موحي بالقلق الذي معه تتبعثر الأفكار ببن الخوف والترقب، اختير العنوان بمهارة ليعبر عن حالة عامة يخشى فيها البطل من ظله في مجتمع بوليسي يحفظ أركانه ببث الرعب في قلوب مواطنيه، لديه إيمان كامل أنه لن يستمر إلا من خلال وضع الجميع على صفيح ساخن. يطمس هويتهم الإنسانية بتحويلهم إلى قطط مذعورة ليسهل السيطرة عليهم، فليس لهم من سعادة إلا حينما ينتهي اليوم وهم ما يزالون على قيد الحياة ، ليبدأ يوم جديد يحمل مع دوران شمسه تهديدات أخرى وهكذا.

منطقة الافتتاح

.”كنت سائرا في أمان الله سارحا في ملكوته”

هكذا يفتتح عمالقة كتاب الديستوبيا كتابتهم بإغراق المتلقي في آمال زائفة تماما كما فعل العظيم جورج أورويل في مفتتح مزرعة الحيوان: بوقوف الخنزير العجوز الحكيم ماجور بين الحيوانات خطيبا يبشرهم باقتراب الأمل في عصر يحكمون فيه أنفسهم بعدما تطيح ثورتهم بالإنسان المتجبر.

هكذا فعل الكاتب العربي فتحي نصيب حينما أكد أنه من الطبيعي والمقبول أن تسير في أمان الله تتأمل في ملكوته ولكن أنى للنفس المتوجسة أن تهنأ في كنف أمان الله طويلا؛ لحظة عابرة بعدها مباشرة تاتي جملة

 من هنا زال الأمان الذي هو ليس لك، وحل مكانه التوجس فطوع الكلمات ليعبر عنه ويرسم له لوحة .”إلى أن اصطدم بكتفي رجل أصلع يرتدي نظارة سوداء”

اللقطة الثانية

“اخترت ركنا قصيا  .. منحت ظهري للجدار”.

لا يشذ عن القطيع حتى في قراءة الجريدة لابد من التمعن في أخبار مولانا -وكأني أراه الأخ الكبير في ديستوبيا ١٩٨٤ للعبقري جورج أورويل- الذي يمرق في خلايا مواطنيه فيراقبهم من بين مسامهم -أو هكذا يشعرهم- وبعدها لو تركهم سيكون لكل واحد منهم في نفسه مخبرا على نفسه.

كما قال عمنا نجم: ممنوع من الكلام… ممنوع م الغنا .. ممنوع م الابتسام

وكل يوم في حبك تزيد الممنوعات..

حتي الى أن قال: حبيتي يا سفينة .. متزوقة وحزينة .. مخبر في كل عقدة .. عسكر في كل مينا.

جو خانق يرسم منه الكاتب الكبير دائرة حول أبطاله يضيقها مع كل كلمه وبعد كل لقطة ففي آخر نفق من أعماق اللاوعي توجد تلك الجلسة التي يلتصق بها البطل بالجدار هذا ما قاله الكاتب تحديدا.

بذكر مفردات داعمة للاختناق ومؤيدة للتوجس “آخر نفق” “أعماق اللاوعي” “ديمومة الالتصاق بالجدار”. وكأني أسمع المثل الشعبي المصري القائل: خليك ماشي جنب الحيط.

 (الالتصاق بالجدار) ..اختفاء بلا جريمة. إنما هو إمعان في التوجس واخذ بكل سبل الحيطة والحذر فها هو ظهره في أمان الجدار ووجهه تحميه عيونه المترقبة، ولا مانع من أن يبدو طبيعيا امام الناس كي لا يصدر إليهم بعضا من توجسه؛ ولكن هيهات فهذا الرجل الاصلع ذو النظارات السوداء الذي التقي به في اللقطة الأولى هنا ويتابعه ويدقق النظر فيه.

كأني الآن أسمع وجيب قلبه، أرى الخوف من المجهول يعربد في حانات روحه، اسمعه يقول: لم يراقبونني وأنا مثال للمواطن كما يريدون؛ التصق بالجدار وأقرأ الصفحة الأولى من الجريدة الرسمية

وتساءلت في دخيلة نفسي : “هل هذه صدفة أن يجلس بجانبي الأصلع ذو النظارة السوداء بعد حادثة ألطريق؟”.

متى يقدر البطل أن يفصح عن سؤاله المنطقي؟ متي يطمئن كل منهما إلى الآخر؛ كي تكون الحياة عادية؟

منعهم التوجس فاختار كل منهما قرارا يظنه عين الحكمة -الهروب وعدم المواجهة- وما كان إلا قرارا نابعا من شخصية تربت على الدسائس والمؤمرات.

اللقطة الأخيرة

تغير فيها المقهى ولكن لم تتغير الجلسة ولا الجريدة، وإن كان للجريدة هذه المرة عمل جديد فهي التي ستغطي الوجه على عادة الأطفال حين يخافون ، يكتفون بتغطية عيونهم عن الخطر، أو على عادة النعام حين يضع في الرمال رأسه.

 “ترى كيف يتمكن من مراقبتي وأنا خلفه؟”

كل الأسئلة المنطقية تحت سنابك القلق لا معنى لها، ولكن يجب أن”وانسحبت في هدوء” و “دفعت ثمن القهوة التي لم أشربها.”

فمن يكون المبدع إذن إن لم يحمل بداخله طاقة صارخة كتلك ولا يلقيها دفعة واحدة وإنما يرفع الغطاء عن مرجلها بين الحبن والآخر بترو وتؤدة، فيلفح بخارها الوجوه ولكنه قد يجلي العمى عن الأبصار يوما.

قصة رائعة غزلت بيد كاتب ماهر فجاءت محبوكة ماتعة بنهاية فارقة تحمل فكرة ثرية كأرض خصبة.


http://tieob.com/%d8%aa%d9%88%d8%ac%d8%b3/

مقالات ذات علاقة

ميلاد وخبزه ينتصران للذكورية في ليبيا

رأفت بالخير

مولد أمين مازن.. بين مرجعية السيرة، ومتخيل الرواية

المشرف العام

قراءة في “قصيدة إنهم ينتظرون قصيدة” للشاعرة حواء القمودي

المشرف العام

اترك تعليق