المقالة

أول سجارة

تكون المسألة – فيما بعد – غير ذات بال.

فالمدخن يحرق مئات اللفافات كل سنة دون أن يعني ذلك بالنسبة له الشيء الكثير سوى الرضا الكيميائي، بل تكاد عمليات الإشعال والإطفاء – بجميع ما يرافقها من تنفسٍ وشم ونفضٍ – أن تتم آلياً بلا شعور خاص. فهي أداء ميكانيكي خالٍ من الانفعالات ويمكن فهم الموقف أكثر حين نقارنه بمن يمتطي دراجة مسرعة ولا يفكر أثناء اندفاعه في حركة قدميه اللتين لم يعد الانتباه والعناية والتردد أو الاضطراب والتفكير ملازماً لهما.

وإذا كان بمقدوره أن يتذكر – وهذا أمرٌ صعب للغاية، فضلاً عن أنه نادر الحدوث – فسوف يسترجع ذكرى أول سيجارة أشعلها ودخنها فيتبين عندئذٍ الفارق الكبير بين الأمس واليوم. وغالباً – في ثنايا التجربة الأولى – عندما ينهمك المرء في تدخين أول لفافة تبغ عرفها في حياته أنْ تثير تلك الخبرة الحسية انفعالات كثيرة متباينة وتترك في العادة انطباعاً نفسياً قوياً يغوص في طيات العقل الباطن فينساه الإنسان في غمارة مشاغله، إلا أنه يستطيع – إذا كان صاحب حسٍ مرهف وحافظة قوية سلسة – استعادته وكأنه يحدث في التو واللحظة.

وتتسم تلك الخبرة الباكرة عند الصبى بالاضطراب والخوف والنشوة وانفعالات أخرى متعلقة بارتكاب ذنب أو إثم أو درجة من درجات التحدي لأن الكبار نهروه بزواجرَ تربويةٍ مرتجلةٍ ولَّدَت في أعماقه رهاباً مكبوتاً، بأن التدخين مكروه وغير مباحٍ لمن هم في مثل سنه، ويصل هذا الرهاب – الذي هو أخطاء تربوية – إلى إحاطة أول سيجارة بدخانٍ آخر كثيف لا يطاق يتصاعد من رأسه مذكراً إياه بالعيب والمروق عن نصائح الوالدين أو الكبار عموماً حتى لو كانوا من غير أهله. وبالتالي فإن الوقت لم يحن بعد كي يلج عالم الكبار الذين يجوز لهم ما لا يجوز له، لكنه بالرغم من ذلك يلتذُ بالسيجارة الأولى لمجرد أنه يمسك بها بين أصابعه المتوترة ويراها بخيطها المتموج من الدخان، حيث يبذل وقتذلك قصارى جهده ليزفر أنفاساً صحيحة مثل والده وسائر الرجال الآخرين وخاصة نفث دخان التبغ من فتحتي أنفه. وهذا المنحى من تجربة التدخين الباكرة يكتظ بالأخطاء والسعال وترقرق الدموع في العينين، ويتطلب الأمر مراناً كي يتمكن الصبي من تدخين لفافة التبغ على نحو صحيح يرضيه ويكف عنه سخرية أقرانه وضحكاتهم وصياحهم البريء.

وبصورة عامة فإنَّ شعور الأولاد في تلك الأوقات المختلفة يتبلور حول مقدرتهم على اكتشاف عالم الكبار، بل اقتحامه ومعاناة خبرة انفعالية تتراوح بين حشدٍ من المحاذير في مقدمتها الأذى الصحي لكنهم يجدون – في ذات الوقت – الذرائع بمواجهة الانطباع التربوي السابق.

والبشر يمارسون التدخين بشتى أنواعه وأدواته. لكن متى عرف الناس دخان التبغ.. وأين بدأت ممارسة هذه العادة العجيبة!؟

ينعقد إجماع العلماء حول التأكيد بأن عادة التدخين لم توجد ولم تكن معروفة على نطاق العالم قبل اكتشاف أمريكا.

وتبدأ القصة بالشكل التالي محتوية على وقائع اكتشاف التبغ ومن ثَمَّ التدخين وتطوراته التي نعهدها في عصرنا، وتتميز القصة بالإثارة الشديدة والمغامرة والجسارة، وهذه العناصر اقترنت دوماً بالكشوف الكبيرة في التاريخ، ويكفي أنْ نعلم أنَّ معرفتنا بالتبغ كانت ناتجاً ثانوياً لمعرفة أراضٍ جديدة بحجم قارتين كبيرتين هما أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية.

ففي القرن الخامس عشر ميلادي أقلع البحار الكبير “كريستوف كولومب” وهو مسيحي الديانة ذو أصول يهودية عريقة – على سفينةٍ متينةٍ زَوَّدَهُ بها الملك الأسباني “فرديناند” والملكة الأسبانية “إيزابيلا” وكان معروفاً في ذلك الوقت وإلى الآن بإسم “كولومبس” حيث اخترق أمواج المحيط الأطلنطي العاتية حتى بلغ شواطئ أمريكا يوم 12 اكتوبر سنة 1494م وظن حين ذلك أنَّ سفينته الرائدة قد رست عند سواحل الهند، وبعدما هبط وتوغل في مجاهل تلك الأراضي الجديدة ظل ظنه السابق يرافقه إلى درجة أنه أطلق على قبائل وأقوام تلك الصقاع الشاسعة إسم “الهنود الحمر” لملاحظته لون بشرتهم المائل إلى الحمرة وللتفريق بينهم وبين بقية الهنود. وفارق “كولومبس” الحياة قبل أن يعرف القيمة الخالدة لاكتشافه حيث قشع الظلام وأهدى للدينا أحد أعظم الاكتشافات الجغرافية. ثم حدث في أعقاب ذلك أنْ أرسل الملك الأسباني “فليب الثاني” السنيور” فرانسكو فرناديس” الاختصاصي في مهمة للبحث في محاصيل المكسيك الزراعية في أمريكا اللاتينية مناسباً لتربة أوربا. وعاد “فرانسكو فرناديس” إلى أسبانيا ومعه بذور “الطباق” أو “التباكو” سنة 1858م وتذكر المراجع أنَّ سفير فرنسا في البرتغال نقل بدوره – في نطاق تلك التواريخ – بذور ذلك النبات الجديد الذي وجده “فرانسكو فرناديس “إلى الملكة” كاترين دي ميديشي”فانتشر منذ ذلك الوقت البعيد في القرن السادس عشر “الطباق” وتحسنت وسائل زراعته في أرجاء العالم.

بيد أن الاستدراك العلمي يشمل أقواماً بدائية متفرقة عرفت التدخين ومارسته قبل التاريخ العالمي المذكور آنفاً. فهنود الأمازون – ضمن أقاليم ما أصبح بعد ذلك الولايات المتحدة الأمريكية يعرفون جيداً “الطيون” – أي “الطباق” كنبات ذي زهر أصفر اللون. و”البوشمان” في إقليم “كلهاري” شبه الصحراوي في أفريقيا يعرفون التدخين ويستعملون بدلاً من “الطباق” نباتاً آخر إسمه “القنب البري” يدخنونه في غلايين – جمع غليون – من الخشب أو القصب أو الحجر يصنعونها على شكل إنبوبة أحد طرفيها أوسع قليلاً من الطرف الآخر، وذلك وفق ما يورده ج. و. بيدج في كتابه بعنوان: “الشعوب البدائية في وقتنا الحاضر” المنقول إلى اللغة العربية قبل نصف قرن. ويضيف المصدر السابق أنَّ “السيمانغ” وهم أقوام جنوب آسيا الشرقي يدخنون منذ أقدم الأزمنة في أنابيب من قصب البامبو.

وتورد “الموسوعة الفرنسية الكبرى” بإشراف “لوسيان فيفر” فقرة عن أقزام “التابيرو” الذين تتكون أدواتهم – أو ملكيتهم الخاصة – من حصير النوم وقطع استحداث النار والطباق أو التبغ المُعد للتدخين.

ويتوقف المرء المعاصر عن التدخين لبرهة متسائلاً:
هل يكفي الوقت الخاص بلفافة واحدة من التبغ لاستيعاب هذا السياق التاريخي الطويل للدخان وصولاً إلى السيجارة الحديثة؟!.

____________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

بعد انتهاء ليالي المدينة

المشرف العام

السؤال الأخير .. قبل أوانه

يوسف الشريف

مصدر الشر والظلم عند أبي الخير الغدامسي*

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق