استطلاعات

أدب ليبي جديد نشأ في حال من الحصار الداخلي

لماذا نجهل الأدب الليبي الجديد؟

هذا السؤال يطرح نفسه بإلحاح غداة اندلاع الثورة التي تجتاح ليبيا حاملة معها وعوداً وآمالاً طالما رنا اليها الشعب الليبي. ولو عدنا الى الذاكرة لأحصينا عدداً قليلاً من الأدباء الليبيين وفي مقدّمهم ابراهيم الكوني الذي كان انتقاله الى سويسرا في بعثة ديبلوماسية، حافزاً على انتشار أدبه، عربياً وعالمياً. وقد تحظى بضعة أسماء ليبية أخرى بشهرة عربية ومنها على سبيل المثل أحمد ابراهيم الفقيه الذي نشر أعماله في عواصم عربية عدة، لكنها جميعاً لا تمثل حقيقة الأدب الليبي الراهن الذي لم يتسنَّ له أن يخرج من حال الحصار التي يخضع لها، لأسباب عدة، سياسية وإعلامية…

هنا قراءتان في الحركة القصصية والروائية الليبية تلقيان ضوءاً على نتاج أدبي شبه مغمور ومجهول. والمقالتان خصّت «الحياة» بهما مجلة «بانيبال» الصادرة في لندن والتي أعدّت ملفاً بالانكليزية عن الأدب الليبي الجديد. والعدد الجديد سيصدر خلال أيام.

* خرجوا من السجن وكتبوا قصصاً قصيرة

عمر ابو القاسم الككلي

يجمع المتتبعون للحركة الأدبية الليبية على أن بداية الانطلاقة الناضجة للقصة الليبية ترجع إلى خمسينات القرن الماضي، بعيد استقلال البلاد سنة 1952 وتكوّن الدولة الليبية الحديثة. وهو نضج حدث بسرعة لافتة، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن ليبيا ظلت من أملاك الدولة العثمانية حتى نهاية العقد الأول من القرن الماضي حين انتهى الحكم العثماني لها بفعل الغزو الإيطالي سنة 1911 والذي دام تقريباً حتى سنة 1945. فالحكم العثماني والاستعمار الإيطالي، الذي كان استعماراً استيطانياً يستهدف إفراغ البلاد من سكانها، لم يتيحا لليبيين فرصة الاستقرار الاجتماعي والأمن المعيشي الذي يمكن من نشوء حركة ثقافية نشطة. ويجمع المثقفون الليبيون على أن القصة تعتبر أقوى جوانب الحركة الأدبية الليبية منذ ذلك الوقت وحتى الفترة الحالية ما عدا عقد الثمانينات. ويمكن القول إن ما يكتبه القاصون الليبيون المتميزون ينتمي إلى أرقى ما يكتب من قصة في المنطقة العربية، إلا أن المشكلة تتمثل (لأسباب ليس هنا محل تناولها) في مجهولية هذا الأدب في الوطن العربي، ومن ثم في العالم.

امتازت القصة الليبية التي كتبت في الخمسينات والستينات، عموماً، بالتصاقها الحميم بالطبقات والفئات الاجتماعية الفقيرة والمعدمة ونهلت موضوعاتها من معاناة الحياة اليومية، ووقفت موقفاً ناقداً من بعض التقاليد الاجتماعية التي كان المثقفون ينظرون إليها على أنها مرتبطة بالتخلف الاجتماعي، وكانت جماليات الرؤية الواقعية في إطارها العام هي المحددة لوعي كتابها فنياً وجمالياً. ويعد علي مصطفى المصراتي وكامل حسن المقهور وعبدالله القويري وخليفة التكبالي وبشير الهاشمي وأحمد إبراهيم الفقيه ويوسف الشريف أهم الأسماء التي مثلت هذه المرحلة.

أما قصص الكتّاب الذين ظهروا مع نهاية الستينات وبداية عقد السبعينات فصارت (قصصهم) تنحو أكثر فأكثر نحو استلهام مواضيعها من الطبقة البرجوازية الصغيرة، المثقفة غالباً، وصار مناخ القمع في بعديه الاجتماعي والسياسي هو الأبرز حضوراً فيها. ودخل كتابها في مغامرات تجريبية تنتمي إلى الكتابة الحداثية. وأبرز من مثّل هذه المرحلة إبراهيم الكوني وخليفة الفاخري وخليفة حسين مصطفى ومحمد سالم الحاجي ومحمد المسلاتي وعمر أبو القاسم الككلي وعبدالسلام شهاب وجمعة بوكليب ومحمد الزنتاني والطاهر الدويني وفاطمة محمود.

في عقد الثمانينات تقلص حضور القصة في الساحة الأدبية إلى حد كبير جداً بفعل الاعتقالات التي حدثت منذ أواسط السبعينات في أوساط الأدباء والمثقفين الشباب، الذين كان من بينهم ثلاثة من كتاب القصة هم: عبدالسلام شهاب (توقف عن الكتابة بسبب محنة السجن) وجمعة بوكليب (توقف ولم يعد إلى الكتابة إلا بعد ما يقارب عشرين سنة بعد الخروج من السجن) وعمر أبوالقاسم الككلي، وتوقف عن الكتابة عدد مماثل تقريباً من كتاب القصة ممن نجوا من الاعتقال، أهمهم محمد الزنتاني والطاهر الدويني. ولم يظهر في هذا العقد من الأصوات القصصية المهمة سوى صوتين هما إبراهيم حميدان وبشير زعبية.

قد يبدو عدد الذين سجنوا أو توقفوا عن الكتابة من القصاصين بسيطاً ويستغرب أن يؤثر في حركة أدبية لبلد ما، ولكن يمكن التساؤل عما كانت لتكون عليه القصة والرواية في روسيا وفرنسا وبريطانيا وأميركا لولا وجود ثلاثة أو أربعة أعلام في كل منها، كما لا ينبغي أن ننسى أن عدد سكان ليبيا آنذاك كان يبلغ ثلاثة ملايين.

مع بداية عقد التسعينات وعقب الإفراج العام عن المساجين السياسيين في بداية 1988، انتعشت القصة من جديد بفعل توافر حد أدنى من حرية الرأي مكنت بعض كتاب القصة ممن كانوا في السجن وعدداً من الذين كانوا توقفوا عن الكتابة من العودة إلى الحياة الثقافية مجدداً، كما أن عدداً من الأصوات الأخرى التي كانت نشطة في عقد الثمانينات ولم تهتم بمسألة الجودة الفنية أعادت النظر في تجربتها السابقة وعادت إلى الكتابة في شكل إبداعي. أبرز أسماء هذه الفترة أحمد يوسف عقيلة وسالم العبار وعلي الجعكي.

في العقد الأول من القرن الحالي يعتبر محمد العريشية، نجوى بن شتوان، مفتاح قناو، محمد الاصفر، غازي القبلاوي، محمد مصراتي، عبدالله هارون ومحمد العنيزي وعزة المقهور أبرز الأسماء. تجدر الإشارة إلى أن مسرح أحداث القصص التي كتبت منذ البداية وحتى نهاية السبعينات كان المدينة أساساً. في حين أصبحت عوالم القرية تأخذ موضعاً واضحاً إلى جانب المدينة في القصة التي تكتب حالياً.

* * الرواية التي ولدت حديثاً أصبحت في الواجهة

ابراهيم حميدان

قد تكون «اعترافات إنسان» لمحمد فريد سيالة التي صدرت طبعتها الأولى عن دار الشرق الأوسط في الإسكندرية عام 1961، أول رواية ليبية.

ولكن حتى أواسط الثمانينات كان الحديث عن شيء أسمه الرواية الليبية يعد من باب التجاوز والمغالاة في القول، ويدخل ضمن إطار التفكير الرغبوي الذي يعكس الأمنيات والأحلام أكثر مما يجسد واقعاً ملموساً، وذلك لأن عدد الأعمال الروائية الليبية المنشورة حينئذ كان محدوداً، ونسبة كبيرة من هذه الأعمال قد لا تنطبق عليها شروط الرواية.

وقد فسر بعض النقاد غلبة الشعر والقصة القصيرة على المشهد الأدبي الليبي بأن هذين اللونين الأدبيين هما الأكثر قدرة على التعبير عما يعيشه المجتمع من تحول وتبدل مستمر. واعتبر هؤلاء أن ضعف التجربة الروائية مرجعها أن الرواية ابنة الاستقرار المديني، ونتاج مجتمع صناعي تحددت ملامحه وتبلورت قسماته. وهو كلام ما انفك يرددّه النقاد العرب الذين كانوا في هذا الجانب مجرد صدى لمقولات التجربة النقدية الغربية.

وعلى رغم أن المجتمع الليبي لم يشهد تحوّلاً صناعياً واضحاً، إلاّ أنه شهد خلال العقود الأخيرة نمواً حضرياً ومدينياً تواكَبَ معه نضج الكتابة الروائية في ليبيا حتى وإن كانت العوالم الروائية غير مرتبطة مباشرة بالبيئة المدينية كما جاء في عوالم ابراهيم الكوني الروائية.

ولم يقتصر إنجاز الكوني على هذا فقط بل إنه أخرج الرواية الليبية من قوقعتها المحلية ودفع بها لتكون رافداً جديداً للرواية العربية ، لا بل إنه وضع اسم ليبيا في اشهر المنتديات الأدبية العالمية من خلال ما حظيت به رواياته من ترجمات في مختلف اللغات، وما تحصلت عليه من جوائز وما رافق هذه الروايات من متابعات نقدية وإعلامية.

وفي الفترة نفسها برز الروائي احمد إبراهيم الفقيه ليشرع الباب واسعاً أمام الرواية الليبية لتساهم حقيقة في تجديد الرواية العربية في الإضافة الفنية المتميزة من خلال بصمته الروائية الواضحة المتمثلة في ثلاثيته الروائية وأخيراً في تجربته الفريدة» خرائط الروح».

وجاءت رواية «ليالي نجمة» لتكون نقلة مهمة في تجربة الروائي خليفة حسين مصطفى الذي تفرغ منذ وقت باكر لكتابة الرواية، ودأب على تطوير أدواته الفنية ومراكمة خبرة جمالية جسدها عبر أعماله السردية التي تصل إلى عشرين كتاباً ما بين رواية وقصة قصيرة، آخرها «الأرامل والولي الأخير» ورواية «متاهة الجسد».

وكذلك الأمر بالنسبة لصالح السنوسي الذي اقتحم الرواية منذ البداية بلا تهيب فكانت «متى يفيض الوادي»؟ تدشيناً لمساره الروائي الذي راح يطوره عملاً بعد آخر مستنداً إلى ثقافة واسعة ورؤية قومية عروبية كما في روايتيه «سيرة آخر بني هلال» و»حلق الريح».

وشهدت الساحة الثقافية بروز أسماء مثل: صادق النيهوم، مرضية النعاس، شريفة القيادي، نادرة العويتي، محمد صالح القمودي، محمد عبد السلام الشلماني، أحمد نصر، ابراهيم النجمي وغيرهم.

ومنذ منتصف التسعينات أخذ سحر الرواية يستقطب المزيد من الكتاب والأدباء، فهرع نحوها شعراء ونقاد ومسرحيون وتوالى النتاج الليبي خلال السنوات الماضية في شكل متزايد فظهرت روايات لعلي خشيم وعبد الرسول العريبي وسالم الهنداوي وعاشور الطويبي أحمد الفيتوري وعبد الفتاح البشتي ومحمد الأصفر وعبدالله الغزال ومحمد العريشية وناجي الشكري ومنصور أبو شناف وأبو القاسم المزداوي من دون أن ننسى حضور المرأة المميز عبر نجوى بنشتوان ووفاء البوعيسي ورزان المغربي.

ويبدو أننا إزاء تحول في المشهد الثقافي الليبي يدفع بأن تكون الرواية في الصدارة نظراً لما يتسم به هذا الفن من رحابة ومرونة تتيح للكاتب إمكانات تعبيرية واسعة ولقدرتها على استيعاب الفنون الأخرى.

وبلا شك فإن الغياب النقدي المتابع للإنتاج الروائي الليبي وضعف التوزيع ساهم في عزلة الرواية الليبية وأعاق انتشارها وتطورها، وجعلها مقتصرة على النخبة الثقافية فقط.

_______________

نشر بصحيفة الحياة.

مقالات ذات علاقة

عندما تشرع الثقافة نوافذها في وجه الإرهاب

حنان كابو

لماذا الفجوة قائمة بين النص والمبدع ؟

مهند سليمان

خطوط الافلات

المشرف العام

اترك تعليق