حوارات

أحمد نصر: “كتبت رواية “القرية التي كانت” بعد عودتي إلى مصراتة بأكثر من خمسة عشر عاما”

رأي اليوم

حاوره ـ سفيان قصيبات

الصور عن السقيفة الليبية.

 “لاشك أن مرحلة الطفولة هذه التي عشتها بسلبياتها وإيجابياتها قد أثرت في تكويني النفسي والوجداني وترسبت في باطني مخزونا لاينضب رشحت بيئته في كتاباتي للقصة القصيرة في بداية حياتي الأدبية, ومازالت أمتح منه حتى الآن”.

 هكذا كان حديث الكاتب أحمد نصر عن أجمل مراحل حياته، فالأدب يعيش فينا ونعيش فيه، ويظل أرقى أنواع التجارب الفنية التي نقاوم من خلالها الفوضى التي تحاصرنا، إلى فوضى من نوع آخر هي فوضى الكتب والمكتبات، عندما زرت مكتبته المليئة بالقصص والحكايات عبرنا من خلالها المراحل مع أحمد نصر….

-طفولتك كانت فترة الحرب العالمية الثانية كيف أثرت في تكوينك؟

  تلك مرحلة بائسة قاسية داهمتنا فيها قوى الغرب المتصارعة, وجعلت من بلادنا ساحة لحرب مدمرة أحرقت الأخضر واليابس؛ فسحقت تحت هولها ورعبها حياتنا وطفولتنا, وعشنا حياة البؤس والفقر والتجهيل.

  كان الأطفال خلال الأربعينيات كما كانوا قبلها تحت الحكم الإيطالي يموتون في الأشهر الأولى، فلا رعاية صحية ولا فرصا ببلادهم حتى إنهم لا يسجلون في السجلات المدنية, وكانت الأوبئة والأمراض كالجذري, والرمد, والسل تجتاح البلاد من حين لآخر, ناهيك عن شظف العيش, وقلة فرص التعليم, وانتشار الأمية بين الناس.

كل هذه الظواهر لاشك أن لها تأثير سلبيا على نفسية النشء, وتربيته, وفرص تعليمه وتأهيله للمستقبل.

  ومن لطف الله بي أنني نجوت من كل هذه المصائب التي كانت تجتاح مجتمعنا في تلك المرحلة؛ فعشت بعد أن مات لوالدي طفلان قبلي, وأصبت بالرمد الذي أثر في نظري ولكن لم يعجزني عن القراءة والكتابة, وأنني ربيت في بيت مستور الحال ماديا, وفي عائلة متنورة معرفيا (جدي من علماء الدين في مصراتة وكذلك والدي, وعمي خريج كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر), وفي بيتنا “مربوعة” (غرفة استقبال) بها أكثر من خزانة للكتب.

  ولاشك أن مرحلة الطفولة هذه التي عشتها بسلبياتها وإيجابياتها قد أثرت في تكويني النفسي والوجداني وترسبت في باطني مخزونا لا ينضب، رشحت بيئته في كتاباتي للقصة القصيرة في بداية حياتي الأدبية, ومازلت أمتح منه حتى الآن, ولعل الجزء الأول من كتاب المراحل شاهد على ما أقول.

وما أدركه وأقوله ليس بدعا, فأغلب كتاب الأدب تكوينهم من بيئة هذه المرحلة, وتظل عندهم المنهل الذي يستقون منه ويرجعون إليه في إبداعهم.

-في السرد القصصي.. لماذا يهتم أحمد نصر بالبناء الزمني.. وربط المراحل العمرية مع بعضها؟

   فهمت أنك تقصد السرد في روايتي للسيرة الذاتية, وهذا الأمر افتضاه المنهج الذي اتخذته عندما قررت ان أغامر وأكتب سيرة ذاتية طويلة (أربعة أجزاء). كان ذلك عندما وصلت سن الستين, وتفرغت لخدمة القرطاس والقلم, وفكرت في كتابة “المراحل.. حياتي أرويها” حينها انتصبت أمامي المراحل التي عشتها وعايشتها أنا ووطني ومجتمعي. وهي مرحلة الأربعينيات وأول الخمسينيات ولها خصوصيتها في شظف المعيشة وحالة البؤس، ثم بداية النضال الوطني السياسي من أجل الحصول على الاستقلال، والأمل في تأسيس دولة مستقلة ذات سيادة, وهذه المرحلة عايشتها طفلا, ثم مرحلة الانتعاش الاقتصادي عندما فاحت رائحة النفط وازدهر التعليم وأسست الجامعة الليبية وكبر الطموح عند الجيل الصاعد, وهذه عايشتها شابا,, ثم تلتها مرحلة حكم العسكر عام 1969؛ فإذا بنا في انقلاب دموي قتل طموحنا أعادنا إلى درجة الصفر, فعشنا معاناة الديكتاتورية المطلقة والإهانة, وهذه المراحل العمرية منتصبة أمامي, وقد عشتها يوما بيوم بما فيها من تباين وتضاد, ففرضت علي منهجها في البناء السردي, وما علي إلا أن أسرد وأكتب في هذه الأزمة المتلاحقة في عقود من التاريخ القريب.

-أحمد نصر من الروائيين الذين ركزوا على المكان في السرد ما الذي يعنيه لك المكان؟

  الرواية: أحداث, وشخوص, وصراع, ومواقف يحركها الكاتب ليصنع مجتمعه الروائي, والمكان هو الركح الذي يحرك عليه أشياءه, وشخوصه ويلاعب به دماه, فهل يستطيع لاعب الشطرنج أن يحرك دمية من مكان إلى مكان بدون لوحة المربعات؟!

  إن المكان في فن الرواية الواعية التي نكتب في حدود مدارسها, وندور في دائرتها لا تعني عندنا مجرد لوحة عليها الحركة، أو ركحا كخشبة المسرح يتحرك عليها الممثلون لا أكثر, وإنما هو داخل ضمن المشهد, ضمن الصورة, وله مشاركة في التأثير على الشخصيات وانفعالاتها, فلو أن الكاتب يرصد خلال سرده شخصية مأزومة بين الجدران تتطلع إلى الفضاء من خلال نافدة ضيقة, فسوف تنعكس هذه الجدران والنوافذ وما وراءها على نفسيته, ويستشعرها من خلال أزمته, وتتلون بلون حالته, وبذلك يصبح المكان جزءا من المشهد المسرود, أي جزءا من العملية الإبداعية التي ينتجها السارد.

-كيف بدأت التفكير في كتابة “القرية التي كانت”؟ وهل هو الحنين لقرية أولاد بعيو؟

  كتبت رواية “القرية التي كانت” بعد عودتي إلى مصراتة بأكثر من خمسة عشر عاما, ولم تكن قرية أولاد بعيو في منتصف التسعينات هي القرية التي لعبت فيها حافيا بكرة “الشخشير” (كرة مصنوعة من الجوارب)، وكرعت من غدرانها أيام المطر, وإنما كانت المدينة تزحف عليها وتمد ذراعها عبر طريق “الحاجية” شارع “أولاد بعيو” الآن, فارتدمت تحت هذا الزحف القرية التي عشتها في الخمسينيات، وامتسحت معالمها ولكن بقيت أيامها وذكرياتها وشقشقات زرازيرها في الوجدان والخاطر؛ فاتخذتها ظرفاً مكانياً وزمنياً لأربعة شباب عاشوها أصدقاء قبل طفرة النفط، منهم ثلاثة تغربوا عنها ثم عادو إليها في فترة الكهولة, وأصبحوا مع أهل القرية في الحياة الجديدة, المجتمع الروائي الذي يعيش تحت وطأة الديكتاتورية وتطبيقاتها لاشتراكيتها الجائرة وتخلف أفكارها, وقهر علمائها ومثقفيها.

  والحق أن قريتي وهي ملاعب طفولتي, ومخزون ذكرياتي الذي لا ينضب، كانت دائما في داخلي أحملها في وجداني وأحن إليها عبر تغريباتي في مصر أو في شرق أفريقيا أو طرابلس, وهي المعين الذي أمتح منه ويمدني بالوجدانيات والعواطف والقيم التي تساعدني على نسيج سردياتي وبث أفكاري, واقترابي من الناس الطيبة.

-العودة للتاريخ قد تمثل مأزقا كبيرا.. لأنك ستتعامل مع وثائق وحقائق.. وأنت تكتب المتخيل كيف ستحول الواقعي إلى روائي ومتخيل دون أن تمس بمصداقيته؟

  أنا أكتب في الأدب ولا أكتب في التاريخ؛ فالمؤرخ يبحث عن الحقيقة ويهمه الإقناع بالتوثيق ليكون صادقا, فالصدق عنده هو ما توصل إليه عن طريق الإقناع العقلي, بينما المبدع في الأدب يتعامل مع الشاعر ويخاطب الوجدان, ولا يتعامل مع الحقيقة التاريخية إلا من منظور عام كرافد ثقافي يحتاج إليه في شمولية نظرته كتجارب إنسانية عامة, والتجربة في موضوع الأديب والاشتغال فيها؛ فالصدق عند المبدع هو الإقناع الفني, أي أنه يشعر بالاحتمال المرضي بغض النظر عن الحقيقة في حد ذاتها؛ لذلك ما كتبه جورج زيدان لا يمكن أن تعتمد عليه تاريخا لحضارتنا وتاريخنا بالمعنى التاريخي للتاريخ, وما كتبته أنا في كتاب المراحل بأجزائه الأربعة لا يمكن أن يكون تاريخيا، إلا أنه يمكن أن يدخل في التاريخ الاجتماعي بوجه عام, ليس به توثيق إلا الذاكرة, وتدخل فيه المخيلة باعتباره نصا أدبيا كتب بلغة الأدب وتصورات صاحب السيرة وأخيلته.

ومن هنا أقول: إن المصداقية في السرد الواقعي “قصة أو رواية أو سيرة أدبية ذاتية”؛ هي الإقناع بالمحتمل والممكن..

-حدثنا عن عامل التجربة في بناء النص عندك؟

  التجربة سواء كانت ذاتية عاشها الكاتب انفعالا ومواقفا وأحداثا هزت كيانه وأثارت وجدانه, أو كانت غيرية انفعل بها وظلت تختمر في بواطنه حتى التبسته, وتكونت في وجدانه إلى موضوع ناضج للعمل فيه والانشغال به.

  وفي كل الأحوال فإن التجربة والانفعال بها هي التي تمنح المبدع الرؤية وتثير فيه حاسة التخيل والإلهام فيدرك من أين يبدأ في نفسه، من أول الحكاية أو من وسطها أو من آخرها؟.. والتجربة الناضجة هي وراء شاعرية الأسلوب واختيارات المعجم، وتداعيات الخواطر في نسج الأحداث والمواقف. ومن هذه الأشياء كلها وغيرها يشيد البناء الروائي والقصصي وتستبين الرؤية من خلاله.

  وهناك مسألة الصدق في التجربة فالتجربة إن لم تكن صادقة في صياغتها والتعبير عنها والإقناع النفسي والوجداني بحدوثها فسوف تكون سببا في ضعف النص وربما في سقوطه. وهذه مسؤولية المتخيل لأن تحويل التجربة إلي نص فني محكم كان من صنع الخيال والتصور, والإقناع به تأكيد الاحتمال والممكن, وهذا هو الصدق في التجربة بالمعنى الفني.

– كيف هي علاقتك بالكتاب وما هو أكثر شيء يجذبك فيه؟

  علاقتي بالكتاب حميمة جداً منذ طفولتي حتى الآن؛ فقد نشأت وفي بيتنا مربوعة (غرفة خاصة باستقبال الضيوف) ثلاثة خزائن من الكتب جلها موروثة عن جدي الشيخ عبد الرحمن وعمي الأكبر الشيخ أحمد الذي توفي في شبابه وورثني اسمه, وجل هذه المكتبة من كتب التراث في علوم الدين والتاريخ واللغة العربية, ومازال في مكتبتي منها أربعة مجلدات للقاموس المحيط مطبوع في مصر في عهد الخديوي عباس الثاني. وماكنت أفهم فيها شيئا في طفولتي الأولى سوى كتب المدائح التي ينشدها أطفال الكتاتيب في مناسبات المولد الشريف, و ينشدها الكبار.

  وقد أضاف والدي إلى هذه المكتبة الموروثة بعض الكتب الحديثة لاسيما في الإسلاميات والتاريخ, لكن الإضافة التي قربتني من مكتبة بيتنا أكثر كانت عندما عاد عمي الصدّيق من مصر حاملا معه شهادة من كلية اللغة العربية بالأزهر الشريف ودبلوم في التربية من جامعة عين شمس, وعدة كرتونات من الكتب الحديثة عام 1953م, فعمرت مكتبتنا بالكتب المشوقة فالتصقت بالكتاب الحديث فيها، وبدأت في محاولة القراءة ولكني مازلت دون مستوى الفهم فأنا حينها تلميذ يتعلم القرآن في زاوية البي.

  غير أن تعلقي بالكتاب قراءة ومحبة كانت عندما دخلت التعليم الحديث في معهد القويري الأزهري, وكوّن أحد أساتذة المعهد جمعية للقراءة الحرة, وأخرجنا بها من تحت طائلة كتاب المناهج التي ندرسها بالإجبار إلى كتب أخرى في الأدب تسبح بنا في عالم المتعة والجمال. كان يجمع منا عشرة قروش من كل منتسب ويختار لنا ما يناسبنا من مكتبة “محمد البري”, ويوزع علينا هذه الكتب، وكنا سبعة طلاب, ثم يناقشنا فيها في لقاء خاص معه.

  كان أول كتاب يقع في يدي كتاب الشاعر للمنفلوطي؛ فشدني بلغته وشاعريته وبالوجدانيات التي يعبر عنها, وعن طريق هذا الكتاب دخلت في عالم السرد, وعن طريق جمعية القراءة الحرة بمعهد القويري قرأت كتاب الأيام لطه حسين, وكتاب “محمد” صلى الله عليه وسلم لتوفيق الحكيم وغيرها, ولما سافرت إلى مصر لإتمام مرحلة الدراسة الثانوية الأزهرية والجامعة عام 1958, وجدت بغيتي بكتاب الرواية والقصة المصريين المعاصرين من أمثال يوسف السباعي, وعبد الحليم عبد الله, وإحسان عبد القدوس, بالإضافة إلى الكتاب الرّوس, وكانوا حينها تترجم رواياتهم وقصصهم وتطبع في مصر طبعات شعبية تباع برخص التراب من أمثال تشيخوف وتولستوي.

  وعندما دخلت الجامعة واحتككت بأساتذة عظام في كلية دار العلوم انفتحت عندي آفاق أخرى في نوعية الكتاب, فاتجهت في قراءاتي إلى الكتب التي تتناول قضايا الفكر والصراع بين الحضارات فقرأت للعقاد, ومحمود سيف خطاب, والشيخ محمد الغزالي, ومالك بن نبي, ومحمد جلال كشك, وأمثال هؤلاء هم من أثروا في ثقافتي, والاعتدال في تفكيري, وربما ظهر ذلك حتى فيما كتبته في مجال السرديات.

  هذه هي علاقتي بالكتاب الورقي بالذات فهو أساس تكويني الثقافي والأدبي والنفسي، وهو الصاحب بالجنب الذي أعيش في أجوائه و أحبه, وأحب حتى رائحته إلى الآن. أما ما يجذبني فيه ويشدني إليه من الناحية الشكلية جودة التصميم للغلاف ومناسبته للموضوع وطرافة العنوان, ومن الناحية المضمونية اللغة الشاعرة والتعبير المناسب بعفوية المتجنب للمباشرة والتقريرية, بالإضافة إلى التشويق الذي يشير للقارئ من الصفحات العشر الأولى, هذا عن الكتاب الأدبي, أما عن الكتاب الفكري أو الثقافي فالذي يشدني إليه مكانة مؤلفه ومنزلته في الفكر والثقافة كأن يكون صاحب نظرية أو له بروز في فكرمعين.

وعلى كل حال كثيراً ما يشدني كتاب بعنوانه أو موضوعه أو بجدل أثير حوله, فاشتريه, ثم أبدا بقراءته فلا أجد فيه ما يلبي رغبة في نفسي, ولا يشدني بلغته من الصفحات الأولى فأطرحه ولا أتمه…

عن الكاتب:

“الروائي والقاصُ أحمد نصر من مواليد مصراتة عام 1941 وهو يعتبرُ من أعلامِ السردِ في ليبيا، وصدرَتْ له مجموعةٌ قصصيةٌ بعنوانِ (تبعثرت النجوم)، وله أيضًا أعمالٌ روائيةٌ منها (وميض في جدار الليل)، وروايةُ (السهل)، والقرية التي كانت، وله أيضًا (المراحل)، وهي سيرةٌ ذاتيةٌ من أربعة أجزاء.

مقالات ذات علاقة

ليلى المغربي لفسانيا ::المرأة الليبية تسعى وتعمل بجدية للمساهمة في إنقاذ الوطن

المشرف العام

رامز النويصري: انتظروا الطيوب في ثوبه الجديد‎

المشرف العام

نجوى بن شتوان لـ”ليبيا المستقبل”: رغم الإنقسام.. المشهد الثقافي الليبي بقي حيا ونابضا

المشرف العام

اترك تعليق