الكاتب أحمد إبراهيم الفقيه.
شخصيات

أحمد إبراهيم الفقيه كتب أطول رواية عربية… ولم ينج من سطوة القذافي

إندبنتت عربية

عبده وازن

كان الروائي الليبي أحمد إبراهيم الفقيه الذي رحل أول من أمس عن 77 سنة، يرغب في أن يقضي أيامه الأخيرة في ليبيا، بلاده التي صرف معظم حياته الأدبية يكتب ملحمتها الطويلة التي لم تنته. لكنّ الموت فاجأه في القاهرة، بعدما تعذّرت عليه العودة إلى أرضه الأولى. وكان أمضى الردح الأخير من سنواته في القاهرة بعدما سقط حكم المعمر القذافي الذي لم ينجُ من سطوته، مع أنه كان ينتمي إلى ما يسمى “الجماعة القذافية” مثله مثل كثر سواه من ليبيين وعرب. وكان انتماؤه إلى هذه “الجماعة” كما ردّد مراراً بعيد سقوط صاحب “الكتاب الأخضر”، إجبارياً أو إلزامياً ولضرورة الحفاظ على رأسه ومواجهة الخطر الاستخباراتي. واضطر في هذا القبيل، إلى كتابة دراستين عن “أدب” القذافي ضّمتهما مجلدات ثلاثة صدرت في ليبيا، تحتوي كل ما كتبه نقاد أكاديميون وأدباء وصحافيون عرب عن قصص القذافي وكتابه الشهير، وبينهم أسماء محترمة. كان الفقيه يشعر بحال من الإحراج الشديد إزاء ماضيه “القذافي” مثل سائر المتورطين قسراً أو طمعاً بمال أو مركز. لكنه لم يتوانَ عن مهاجمة القذافي في تصريحات لاحقة ووصف أدبه بـ “الهراء” وقال “لو لم أهادنه كنت سأموت”

د.أحمد إبراهيم الفقيه
د.أحمد إبراهيم الفقيه

كان الفقيه في طليعة المتحمسين للثورة ضد الحكم الديكتاتوري، وكتب قصصاً ومقالات هجا فيها القذافي وحكمه، مكفّراً بها عن ماضيه، وجمعهما في كتابين: “القذافي: البداية والنهاية” (2013) و “في هجاء الطغاة” (2013). في الأعوام القليلة الماضية عانى حالاً من عدم الاستقرار المادي ما اضطرّه إلى الكتابة في الصحف. وفي حوار أخير، مع تلفزيون ليبي، أعلن عن حاجته إلى دعم لإجراء جراحة طبية سريعة بعدما ساءت حاله الصحية، وأفاد بأن بريطانيا التي درس فيها وأقام سنوات، رفضت منحه تأشيرة دخول بذريعة هويته الليبية.

رواية الألفَي صفح

في العام 2007 فاجأ الفقيه قراءه برواية ضخمة تقارب صفحاتها الألفين، صدرت في بيروت تحت عنوان “خرائط الروح”، وكانت هذه الرواية مثار اعتزاز له وتباهٍ، وكثيراً ما ردد بعد صدورها، أنه صاحب أطول رواية عربية. لكن الصفحات الألفين للرواية كانت صغيرة الحجم وتضم عدداً قليلاً من الكلمات، ما جعلها قابلة للضبط طباعياً فتصل إلى قرابة ألف صفحة، وهذا أصلاً، عدد غير قليل من الصفحات. لكنّ هذه الرواية كانت مهمة فعلاً، لا لحجمها أو ضخامتها، بل لأنها تمثل خطوة راسخة في الأدب الروائي العربي الملحمي، لا سيما أنها تسرد مجمل الأحداث الكبيرة والصغيرة التي شهدتها ليبيا تاريخياً، والتي تتقاطع خلالها صراعات شتى، دولية واستعمارية وتحررية. واعتمد الفقيه في كتابتها البعد التأريخي مؤدياً دور المؤرخ الذي يتكئ على الوثائق والمراجع، والبعد التخييلي الذي يفترضه الفن السردي. وقارب في لعبته الراوئية أساليب عدة، كلاسيكية وحديثة ليبني هذه الملحمة عبر مراحل وحقبات متتالية. وبدا أبطالها الرئيسون ولا سيما عثمان الشيخ، أشبه بأبطال تراجيديين يواجهون أقدارهم الفردية والجماعية. ولئن كانت هذه الرواية من أبرز أعمال الفقيه، بضخامتها ونفسها الملحمي، فهو ما لبث في العام 2008 أن قسمها وأصدرها في اثني عشر جزءاً صدرت معاً تحت عنوان واحد أو شامل هو نفسه “خرائط الروح” مع عناوين فرعية مثل: خبز المدينة، أفراح آثمة، عاريةً تركض الروح، غبرة المسك، زغاريد لأعراس الموت.

رواية خرائط الروح
رواية خرائط الروح

إنتاج غزي

كان الفقيه غزيراً في إنتاجه القصصي والروائي، وهو كان استهل مساره قاصاً وصدرت أولى مجموعاته في العام 1965 بعنوان “البحر لا ماء فيه”، تلتها العام 1968 مجموعة ثانية هي “اربطوا أحزمة المقاعد”. ثم انتقل إلى كتابة الرواية فأصدر العام 1979 روايته الأولى “الصحراء وأشجار النفط”. وراحت تتوالى من ثم إصداراته في الحقلين، فهو لم يتخلّ عن القصة القصيرة على الرغم من احترافه الفن الروائي. لكن اسمه لم يرُج في الأوساط العربية إلا بدءاً من العام 1991 عندما أصدر ثلاثيته الشهيرة “سأهبك مدينة أخرى” التي اختيرت في لائحة أفضل مئة رواية عربية التي وضعها اتحاد الأدباء العرب وكانت محط سجال نقدي. وإن بدأ كتابة القصة متأثراً بروادها العرب وفي مقدمهم يوسف إدريس، فهو استطاع أن يشرّع صنيعه الروائي على أفق الرواية الجديدة، العربية والعالمية، خصوصاً أنه كان يجيد الإنكليزية ويحمل شهادة دكتوراه من جامعة أدنبره. لكنه لم يتخلّ عموماً عن الطابع النيوكلاسيكي أو الكلاسيكي الجديد في الفن الروائي، ما جعله يبتعد عن مضارب التحديث والتجريب، لاجئاً إلى السرد التاريخي حيناً وإلى الواقعية حيناً آخر، ساعياً إلى نقل معطيات المجتمع الليبي المديني والصحراوي إلى صميم عالمه الروائي. في أحد حوارته أوضح الفقيه معنى انتمائه إلى البيئة التي يستوحيها في أعماله، قال: “جئتُ إلى الرواية من بيئة ومكان لطالما اعتُبرا ممكنَين كعالم يمكن حيازته وإعادة بنائه في القصة القصيرة. حتى التراث القصصي الشعبي يكاد يكون شاهداً على هذا المنحى، فهو تراث يتألف من شذرات وحواديت قصيرة وحكايات بسيطة وموجزة، وهي حصيلة بيئة تضرب جذورها في مجتمع صحراوي وواحات متباعدة وتقاليد صحراوية”. وتحدث أيضاً عن تخطيه بيئته الليبية وعن انفتاحه على بيئات أخرى قائلاً: “ليس ضرورة أن أعتمد في الرواية كلها على المكان الليبي، فليحتل هذا المكان جزءاً من الأجزاء الثلاثة للرواية، ما دام المكان ليس شرطاً نهائياً لتأكيد الهوية. فأنا مثلاً ليبي في ليبيا، وعندما أجلس في لندن، أو عندما أقيم في أدنبره، أو عندما أسافر في طائرة فوق أفريقيا، أو في باخرة في عرض البحر الأسود، تكون هويتي في نهاية الأمر محمولة معي، ومن خلالها يمكنني أن أكتب أدباً ينتمي إلى البيئة العربية”.

وفي سيرة الفقيه أنه ولد لأسرة متوسطة الحال في العام 1942، غادر بلدته مزده إلى مدينة طرابلس، بعد أن أكمل دراسته الابتدائية ليبدأ مساراً دراسياً طويلاً ومتقطعاً انتهى به إلى نيل درجة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث من جامعة أدنبره في العام 1982. بدأ ينشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية انطلاقاً من العام 1959. عمل في مؤسسات صحافية وترأس تحرير مجلات عدة. أسهم في تأسيس عدد من الصروح الثقافية والأدبية في بلاده، وشغل منصب مدير للمعهد الوطني للتمثيل والموسيقى، وأنشأ صحيفة “الأسبوع الثقافي” في مطلع السبعينيات وكان رئيساً لتحريرها وقدم من خلالها كتّاباً صاروا في طليعة الحركة الأدبية والشعرية. وشارك في إنشاء مجلة “الثقافة العربية” في بيروت وكان لفترة رئيساً لتحريرها. وسعى إلى إنشاء اتحاد للأدباء في ليبيا وكان مقرر لجنته التأسيسية، وتولى منصب أمينه العام لفترة. ثم تفرّغ للعمل في المجلس القومي للثقافة العربية رئيساً لشعبة الإبداع وتولى لأكثر من 15 عاماً رئاسة المؤسسة العربية الخيرية للثقافة، التي أقامت ندوات ومعارض وأصدرت مجلة “الأفق” التي كانت رائدة في تقديم الأدب العربي إلى قراء اللغة الإنجليزية والتي كان يرأس تحريرها كعمل تطوّعي طوال سنوات صدورها في لندن خلال فترة إقامته في هذه المدينة التي استمرت عشرة أعوام. عمل أيضاً سفيراً لليبيا في أثينا وبوخارست، وأستاذاً جامعياً محاضراً في الأدب العربي الحديث في الجامعات الليبية، والمصرية، والمغربية.

مقالات ذات علاقة

حديث للذكرى والتذكير.. الأستاذ عبدالله القويري

المشرف العام

حدث في مثل هذا اليوم: رحيل السيدة حميدة محمد بن عامر

المشرف العام

حدث في مثل هذا اليوم: رحيل المناضل محمد بشير المغيربي

محمد عقيلة العمامي

اترك تعليق