من أعمال التشكيلي الليبي صلاح بالحاج
قصة

آيريش كوفي..

>

زكري العزابي

.

“كيف الراي يا ريم الجليبة.. الخفة عيب.. والغيّة عطيبة”

أغنية شعبية من الشرق الليبي

>

كانت الايرلندية بيرناديت تغتسل (لا أعرف ما إذا كانت تغتسل من خطاياها أم من آثامي)، في حمام غرفة الفندق الضيقة الرخيصة، المليئة بالصراصير والبق ودخان السجائر في السان ميشيل، بعد النبيذ الذي جرعته في البار عند زاوية الـ (بون نف) (1).

السين كعادته منذ مليون عام.. يلعب بالطين والماء كطفل يرفض أن يكبر، ويرفض أن يبوح أين خبأ جثة بول تسيلان.. تعبر ذاكرتي قصيدته (سمعتهم يقولون) دونما موعد ولا استئذان، فأقول بدوري للأيرلندية..

ـ بيرني.. هل ترغبين في أكل شيء..؟

ـ لا.. اريد أن أنام.

تحدق نحوي باستغراب كما لو كنت كائنا خرافيا مثيرا للتساؤل والعجب، وكما لو كانت تراني للمرة الأولى وهي تجفف شعرها الطويل. تتجاهل وجودي، ثم تستلقي عارية تحت اللحاف.

ـ ايتها الأيرلندية التي حذفتها السموات عليّ من سقف هذه المدينة التي ترفض النوم والغرباء .. أقول بلغة لا تفهمها..

ـ ماذا تقول..؟

ـ أخترف..! هل لديك مانع..؟!!

اتركها لتنام وأخرج لكي أتصعلك قليلا على أرصفة السان جرمان.

أجرع لي بيرتين

و.. قهوة.. وأضيّع بعض الزمن الذي لا لزوم له مع صاحب محل للسجائر.. أدلق زمنا ضائعا على الرصيف.. أراه يسيل حتى يصب في السين. ثم أعود.. إذ لا مفر من العودة.

أشعلت سيجارة من علبة الغلواز التي اشتريتها لتوي، غير أن المطر الذي شرع في الهطول اطفأها لي، ألقيت بها على الرصيف، ورفعت راسي للسماء وشكرتها على ما تبذله من مجهود لمنع التدخين. تحدق فيّ صاحبة الفندق من فوق زجاجتي نظارتها بعينين تملأهما الريبة والشك، وهي تحل شبكة للكلمات المتقاطعة. اتجاهلها.. أتظاهر بأنني لا أراها. اطأطئ رأسي وأدخل بهدوء دب قطبي مسنّ فقد أسنانه الأمامية. الأيرلندية غارقة في النوم ودمها (فيفتي فيفتي)، يعني نصفه هيموغلوبين احمر، ونصفه الآخر نبيذ فرنسي ابيض.. مثل رايتي مالطا وبولندا.

آخذ كيس نومي وأنتبذ لي مكانا قصيا عند النافذة التي كانت على مستوى الأرضية تقريبا، لأن الغرفة التي تشبه علبة كبريت كانت في الطابق الأعلى. أفرش شكارة النوم وأنام فوقها، لأن المكان دافئ ولا داعي لكي أتصارع معها لأحشر فيها جثتي.

اتكئ متفرجا على المشهد في الأسفل، فيلم بالألوان يعرض تحت أضواء الشارع الصفراء، التي تختلط بظلال الأشجار ووقع الخطوات والقطط التي تفتش في صناديق القمامة، وبعض الكلوشار(2) الذين يسحبون احذيتهم البالية المثقوبة بتثاقل على الرصيف المبلل بمطر الخريف، وفي قبضات أيديهم المتسخة المسودة الأظافر زجاجات الروج (3).

دون مؤلف.. ولا مخرج.. ولا سيناريو

ممثلون فقط ينفذون أدوارهم دون كاميرا سوى عيون العابرين أو الفضوليين الفاضيين مثلي.

فيلم شولطو.. !!

شولطو.. !!؟

أين وجدت هذه العبارة.. لا بد أنك أدخلت يدك عميقا.. عميقا جدا.. وأكثر من اللازم في قاع كيس ذاكرتك لكي تستخرج عبارة كهذه. فأنت لا تعثر على عبارة من العصر العجري الأعلى كهذه دون أن تجرح ذاكرتك وذاكرة زمنك المفقود، أو ربما أنت متبق من عصر مات ونُسي ورحّم عوّده منذ زمن بعيد.

عندها..

عندها أنتبه إلى حقيقة أنني لا أعرف على وجه التحقيق ما إذا كنت شبحا بالفعل أم مجرد ظل لكائن لا وجود له.

لو عرفت هذه الأيرلندية أنها تنام في غرفة واحدة مع شبح، لخرجت من جلدها فزعا رغم كل ما كرعته، ولهربَت تجري في الشارع هيكلا عظميا فقط. وقد ارتمى جلدها الناعم وفروة رأسها الصفراء على خشب الأرضية بلا حراك، دون دعم من صلابة كالسيوم العظام. ولتحولت هي ايضا إلى شبح آخر.

ربما.. !!

ولكنها فورما تدرك ذلك ستعود، لأن الأشباح لا تخاف بعضها البعض. فالشبح أخو الشبح وقريبه حتى لو لم يكن يشبهه تماما. ولكن عندها أكون قد خبأت جلدها في خلية قصيّة من خلايا ذاكرة مياه السين الداكنة القذارة، أو في البئر المعطلة عند القصر المشيد (من العصور الوسطى وقبل الكومونة) في إحدى ضواحي روان، حيث التقينا لأول مرة.

* * *

عندما التقينا في روان للمرة الأولى.. مدت يدها وقالت:

ـ بيرناديت.. أعمل ممرضة.. وأنت.

ـ لا أعرف.. بل ربما لا عمل محدد لي.. العمل عمل ربنا..

ولكن لا هي فهمت.. ولا أنا استطعت أن أشرح لها المسألة.

تركنا القضية حيث هي، في مكانها، وانصرفنا لمناقشة جويس وستيفن دايدالوس وفيرجينيا وولف وهاكسلي وبريخت وايليوت وآريستوفان والجيش الايرلندي وأشياء أخرى ونحن نتمشى في طرق ريفية مبللة نحو بار إكتشفناه بين الحقول لنشرب بيرتنا الأولى معا، وفي رأسي مخططات خفية بالنسبة لها بطبيعة الحال، فرضها علي التصحر والجوع وطياح السعد والمزال.

ـ مزال توف (4).. أقول لها.. ونحن نرفع كأسينا.

ـ ماذا..؟!

ـ لا شي.. أخترف بالعبرية

ضربنا موعدا في الحي اللاتيني، ثم افترقنا على أن نلتقي.

* * *

وعادت..

عادت ثانية كشبح هذه المرة.. تلعب بنا تيارات اليأس والوحدة المقيتة، لنترافق كشبحين مثلما ترافقنا كبشرين. شبح من الشمال وغولة من الجنوب. التقيا دون بوصلة ولا إحداثيات ولا حساب مثلثات ولا جي بي إس.

أحدق في تيار النهر المعتم مثل عالم الأشباح..

ـ العقل واخذه تيار..

لا.. ليس هذه.

أفتش في خلايا ذاكرتي.. واحدة واحدة..

ـ آه.. ايوريكا.. ايوريكا..(5) “مداوم على ليّام.. نلقنك رفيق شين.. يا ياس مطولك”..!!

هذه هي.

* * *

كنت قد خبأت جلدها جيدا، فما عاد بمقدورها أن تطير عائدة إلى ايرلندا دون جلد ولا اجنحة ولا ريش. حبستها في قمقم باريس المحكم الإغلاق عصورا جيولوجية طويلة، إلى أن عثر عليها طفل يلهو على شاطئ النهر، تلعب بها تيارات الماء والطين والحياة الصدئة والصدفة المحضة. بعد عشرة الآف عام.

ـ شبيك لبيك.. تقول الجنية بيرناديت المتسربة لتوها على هيئة دخان من فوهة القمقم، شبه مخدرة بعد كل تلك القرون.

ولكنها سرعان ما تستيقظ من خدرها بفعل المفاجأة، وتفتح عينيها الزرقاوين دهشة باتساع السماء.

ـ أنت.. هذا أنت.. مرة أخرى..؟! إعتقدت بأنني قد فقدتك.

ـ هيا.. دون كثير كلام.. البسي جلدك ولنعد إلى الفندق.

ـ لابد أنك مجنون.. وهل بإمكانك أن تدفع فاتورة كل هذا الغياب، فاتورة كل هذه القرون التي لا طعم لها..؟! لابد أن صاحبة الفندق قد سجلت على حسابك كل قذاراتك وألعابك السحرية وخطاياك وآثامك، وربما اشتكتك حتى إلى الجندرميرية ايضا.

ـ معك حق.. خاصة وأنني سان بابييه مزمن(6)، هذا إذا كانت تلك السيدة ما تزال على قيد الحياة. أو ما زالت ذاكرتها تعمل حتى تتذكرك وتتذكرني.

ـ من الأفضل عدم المجازفة.. ليس لديك ما تفقده هناك.. مجرد حقيبة متآكلة بها ملابس قديمة غير قابلة حتى للغسيل. هيا بنا نهرب من هنا.. سآخذك معي. سنركب الميترو دونما تذاكر مثلما كنا نفعل في حياتنا السابقة. سآخذك إلى كاليه، ومنها إلى دوفر.. ثم آيرلندا.

ـ أنا لا أهرب مع أحد.. حتى مع ذاتي وأناي. ليس لأنني أرفض الهروب، ولكن لأن الهروب هو الذي يرفض رفقتي. فلا مهرب لك معي ولا بي ولا لي ولا إلي.

ـ ها أنت تخترف كرّة أخرى.

لا أجيب.. إذ لم يعد لدي ما أقوله. لقد نفذ القول والفعل، ولم يبق غير هذا الهذيان ملجأ لكلينا.

أعطيها جلدها وأجنحتها

تعيد إلى ذاكرتي..

نتبادل قبلات الوداع، ونشرب آخر أيريش كوفي (7) معا في مقهى على الرصيف. وفيما تبتلع الجرعة الأخيرة، تضع بضعة فرنكات على الطاولة الصغيرة المستديرة بجانب علبة الغلواز ومطفأة السباسي، وتختفي في أقل من ربع رمشة عين، ونصف إنتباهة.

أجدني وحيدا مع ذاتي مرة أخرى.. أحدق في الكرسي المقابل حيث كانت تجلس. الموقف يتطلب وقودا أكثر صلابة وفعالية.. فأطلب باستيس (8). الباستيس يحتوي على اوكتانات أكثر من بقية المحروقات الأخرى، ربما يغسل الذاكرة على نحو أكثر بياضا ايضا، فيحولها صفحة بيضاء، تابولا راسا(9). أحدق فيه كما لو كان سيجيب على تساؤلاتي الميتافيزيقية.

ـ هل كانت حقيقة..؟! إنس أم جن..؟! لا أحد باستطاعته أن يعرف.

الباستيس لا يجيب.. ولا أنا بمقدوري إعادة السؤال.

مللت من الأسئلة والتساؤل..

ولكن بعد قرن واحد فقط.. وصلتني رسالة من آيرلندا عن طريق البريد التيليباثي.

ـ شكرا على الآيريش كوفي.

ـ لا شكر على واجب.. نحن مضيافون بطبيعتنا حتى في بلاد الآخرين.. وعلى حسابهم.

الواقع أننا كنا قد نسينا، نحن الإثنين، بعد كل هذه العقود من التطواف عبر هذه المتاهة البليدة السامطة، أنها هي التي دفعت الحساب، باستثناء حساب الباستيس الذي كرعته بعد مغادرتها بالطبع. مازلت أذكر ـ في حياتنا السابقة التي عشناها معا ـ أنني أصررت على دفع ثمن النبيذ ذات مرة، وعندما استيقظت في اليوم التالي وجدت ورقة من فئة العشرين فرنكا في جيب معطفي الذي علقته عند الباب، (نصف ما دفعته تقريبا).

ـ بيرناديت.. هل أنت من وضع هذه النقود هنا..؟

ـ لا.. لعلها جنية ما.. أنت تحبك الجنيات..

ـ لا جنية معي في هذه الغرفة غيرك. أنت أول عفريتة أتعرف عليها من عالم الجن والأسرار الخفية.

لم ترد.. وانشغلت بترتيب أشيائها إستعدادا للسفر. تقلص جلدي، واعترتني إرتعاشة أعرفها منذ الطفولة عندما كنا نستمع إلى قصص الجنيات والعفريتات اللواتي يتلبسن البشر، ونحن نتكئ نصف نائمين على أفخاذ جداتنا.

* * *

نسيتُ..

ونسيت هي..

لو كان معها امرأة ثانية لتذكـّر إحداهما الأخرى إذا نسيت ـ قلت ـ أما الرجال..!!

ـ الرجال.. هاااء..!! إنهم لا ينسون أبدا ـ تقول في آخر رسالتها ـ إذ يكفي شاهد واحد.. أو نصف شاهد فقط.. حتى أعور.

ـ حسنا.. !! كيف الراي إذن ـ أقول لها متسائلا في ردي على رسالتها.

مرت عصور جيولوجية أخرى وقرون.. ولم أستلم ردا حتى الآن.

ولا أعتقد..!!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ الجسر الجديد

2ـ المشردون

3ـ الروج كلمة أساسا معناها اللون الأحمر، ولكنها صارت في عرف المهاجرين من شمال أفريقيا تعني النبيذ.

4ـ حظ سعيد بالعبرية، ومن هنا عبارة (طيح والله مزالك) الليبية. جرب أن تعاكس بنتا ليبية لكي تطلع على الترجمة على أصولها، وعلى الطبيعة. ولا أنصح البنات الليبيات بمعاكسة الأولاد للتأكد من الترجمة.. لسبب بسيط، وهو أنهن لن يسمعنها منهم أبدا. إلا في حالات جد نادرة، يمكن أن تقع مرة واحدة أو أقل من ذلك كل مائة عام.

5ـ عبارة ارخميذيس الشهيرة.. وجدتها وجدتها

6ـ بدون أوراق، أو بدون إقامة قانونية.

7ـ القهوة الأيرلندية، وهي عبارة عن كأس طويلة بها قهوة وويسكي وكريم معا. طبقات بعضها فوق بعض.

8ـ عرق فرنسي.

9ـ Tabula Rasa اللوح المصقول، أو عقل الإنسان قبل أن تنطبع عليه أية تجارب حياتية.

مقالات ذات علاقة

الطريق

المشرف العام

عثرة قلب

مريم الأحرش

ذات الجَرْد* الأبيض

المشرف العام

اترك تعليق