قراءات

في ليبيا… الشعر يواجه الحرب

الشعر يواجه الحرب

في مطلع هذا الشهر كتبت الشاعرة الليبية خلود الفلاح في حسابها على الفيسبوك (تحت أصوات الطائرات ونغمات مختلفة من التفجيرات، سنحتفل في بنغازي باليوم العالمي للشعر الذي يصادف 21 مارس/آذار، شعارنا «أنا الشاعر.. أنا حكاية مفضلة»).
هكذا يتعامل الشعراء الليبيون مع الحرب، بكل مآسيها ونقاطها الحمراء والسوداء، ولسان حالهم يؤكد أنهم حالة خاصة جديرة بالدراسة والاهتمام، وأن تراجع الإبداع في زمن الحروب والأزمات لا يعنيهم، حتى إن كانت حربهم مختلفة ومؤلمة أشد الايلام، تخوضها أطراف ليبية ـ ليبية يعتقد كل طرف أنه الوحيد على صواب. وقد نقل كثير من الشعراء الليبيين، عبر نصوصهم الإبداعية تجاربهم الخاصة والشخصية في هذه الحرب التي عايشوها وتعايشوا معها لتعكس تجاربهم، وفي الوقت ذاته تجارب كل الليبيين، نسعى في هذه المتابعة بما تسمح المساحة المحددة استعراض محاولات بعض الشعراء ومواجهتهم بالحرف لهذه الحرب.

الشاعر أنيس فوزي يتساءل بوجع في قصيدة له عما فعلته هذه الحرب؟ ويوضح بنباهة كيف وقع الأطفال في أتونها؟ ليكونوا ضحيتها ووقودها.
ماذا فعلت الحرب؟
الأطفال يدخلون فصولهم
بكراريس فارغة
وأقلام ملونة
لتنفجر حقيبة طفل سابق
ترك المدرسة
ونسي قلبه
وحلاقة ذقنه.
ولد من سلالة الغول
وأفلام الرعب.

الشاعرة سميرة البوزيدي في إهداء مجموعتها الشعرية الحزينة «تحت القصف» كتبت:» كلما أتذكر كيف كنا تحت القصف لا أصدق ما جرى! إلى كل شهيد وجريح ومفقود نأمل عودته إلى ليبيا الكبرى… لا اختلاف على الفرح» وفي إحدى قصائد هذه المجموعة تصف التغير الذي طرأ في محيط الأسرة الليبية، والتدابير الاحتياطية التي تقرر اتخادها لمواجهة هذه الحرب:
نكٌدسِّ المؤن ونواصل خوفنا على أطفالنا
فيما نفُكر في لحظة وهن
في مكامن أخُرى تنأى بعيداً
عن حفرة الدم
ثم تصور الشاعرة في أسى جانبا من الهم النفسي الذي سببته الحرب فتقول:
كل ما نستطيعه هو القلق والخوف
ننظر بشجاعة في عيون بعضنا
نلوذ بالبيوت
نرقب الميم طاء المفزعة
ونقلق باستمرار

فيما يستعرض الشاعر رامز النويصري في قصيدته طبول الحرب تفاصيل خطته وخياراته المتعددة في مواجهة المعركة المقبلة بطرق مختلفة فيقول:
في انتظارِ معركةٍ قادمة،
قد تكونُ عندَ بابِ البيت،
أو في نهايةِ الطريقِ
سَأضمُّ صِغاري كلَّ مساء،
أحْكي عن السُّلطانِ الحزينِ، والفارسِ الشُّجاع
حتى يقرر ضمن خططه الاستعدادية للحرب تعويد أطفاله على سماع أزيز الرصاص وضجيج المعارك فيقول:
سأُعلّمهم كيفَ يبتسِمونَ للرصاص
وكيفَ يُزيحونَ صوتَ القتالِ بغِنائِهم.

الشاعر سالم العوكلي يقدم صورة صادمة لحالة الأب عند اشتداد القصف:
على مرمى قذيفة من ساعة الحائط
أجمع شظايا أبنائي من أفق يتشقق
ثم يعرض الشاعر محاولاته المتكررة لطمأنه أطفاله
وكلما دوّى قصف في الجبال
أقول لهم إنه الرعد
ويبين فشله في ذلك وموضحا سبب فشله:
ولكن كيف لوهمي أن يصمد
وهم يعرفون هوية الانفجار من نبرته.
وفي مقطع آخر من القصيدة نفسها يسرد العوكلي بألم وحسرة ما خلفته هذه الحرب اللعينة وما نتج عنها كونها حربا مختلفة يتقاتل فيها الإخوة:
المقتول أخي والقاتل
وهذا الرأس الملفوف بالقصدير
كأني شربت معه القهوة ذات صباح
ومن لم تقتله الحرب بترت أطرافه:
والأطراف المبتورة تمشي كلَّ ليلٍ،
في كوابيسي، إلى قبورها الصغيرة.

أما الشاعرة حواء القمودي فتكتب بشكل غير مباشر عن بعض نتائج هذه الحرب قائلة:
البلاد
البلاد
ليبيا التي حلُمنا
تتلاشى
تتناسل
تغدو بلداناً

وفي قصيدة للشاعر أنيس فوزي يرى أن للحرب فوائد رغم قساوتها وآلامها فيقول:
وأهدتنَا الحرب مشاعر كثيرة‎‎
وذكرياتٍ تكفي لأكثرَ من عمرٍ واحد،‎‎
ولكنه يقرر في ختام قصيدته أن الحرب حرمته من فرصة اللقاء الأخير
ولكنّها في النهاية‎‎
حرمتنَا لقاءً أخيرًا‎‎
لوداعٍ حزين‎.‎

والشاعرة عائشة إدريس المغربي تكتب بأسى عن فجائع هذه الحرب فتقول:
انتهت الحرب
وتركت على رف المشتريات
كثيرا من الثياب البيضاء
كي ترتديها المدن العارية
للاحتفال والرقص
ثم تحاول إضافة تفاصيل أكثر لما حدث في بعض المدن الليبية فتقول:
هذا ثوب ملطخ بنجوم سوداء.. لتاورغاء..
وهذا ثوب بقلب مشنوق.. لسرت..
وآخر مرسوم بسبعات الهزيمة (لبني وليد)
وأثواب كثيرة مثقوبة القلب.. لبنغازي..
وثوب لغزالة هاربة
تركض بحسناء عارية.. لطرابلس..

الشاعرة رحاب شنيب تسكن في بنغازي وساهمت الحرب بشكل مباشر في تهجيرها من بيتها ومدينتها، تكتب بلغة حزينة من منفاها داخل الوطن قصيدة لا ترغب في نظمها فتقول:
لا أشتهي القصيدة
هذه الليلة
وتواصل مستعرضة أسباب عزوفها عن كتابة القصيدة فتقول:
قصيدةٌ
لا تلثم ملامح المارة
في شوارع مدينتي المفجوعة
لا تسكن آهاتهم
ليس لها صوت القنابل
وصراخ الأطفال
وأنة الأرامل
وتواصل في سرد مأساتها بلغة حزينة من منفاها داخل الوطن فتقول:
قصيدةٌ
لا تتسكع
في مخيمات النازحين
وفي عقول
شبابنا المسلوبين
باسم الله.
وفي قصيدة أخرى عنوانها «عين واحدة» توجه رحاب شنيب رسالة لمن سمتهم بالمقامرين بالوطن ومن أشعلوا نار الحرب في البلاد، فتصفهم بما فيهم من خيانة ووضاعة وانتهازية من قامروا بليبيا في سبيل تحقيق مطامعهم وعلى حساب ركام البيوت المهدمة ودماء الضحايا فتقول:
حين يدركون
أنهم
خائنون مثلهم
وُضعاء مثلهم
وقتلة مثلهم
وأنهم
بنوا أحلامهم
على ركام البيوت
ودماء المجازر

أما الشاعر محيي الدين محجوب ‎فيقرر بمباشرة ووضوح في قصيدته «الغميضة» عدم اكتراثه بالموت وعدم خوفه من الحرب حين يقول:
قلت يا حبيبتي:
أمام قلبي..
ﻻ يمل الموت من لعبة الغميضة.
قلت..
ولست أبالي
بما يضمره الرصاص
لذاكرة الحرب

ومثله الشاعر عبد الباسط أبو بكر محمد الذي ينقل في قصيدته «قبر هُناك» حالة عدم الاكتراث واللامبالاة التي يعيشها زمن الحرب، فيقول مخاطباً قبره:
لكنه سيعيدني
إلى ترابكَ
أيها الوطن
مطمئناً
ويتنبأ بوضوح توجسه من المستقبل وتوقع طريقة موته وسط أتون هذه الحرب المستعرة، وأن موته سيكون
بـ:
رصاصةٍ طائشة
أو سيارة مفخخة
أو فكرة تقطع الرأس!

والشاعرة خلود الفلاح ترسم صورة مختلفة عما تخلفه هذه الحرب من ندوب في حياة الفتيات الصغيرات وصعوبة أن تنتهي تراكماتها لسنوات طويلة فتقول:
الفتيات الصغيرات
يملأن الفراغ
بحكايات قديمة
عن آباء ذهبوا إلى الحرب
وتعرض محاولات امهاتهن، لتخفيف حدة المصاب الجلل بصناعة الفرح
وأمهات يصنعن الفرح
الفتاة الصغيرة
مع الدمية الوحيدة
تتأمل بكاء الضيوف
عن آباء ذهبوا إلى الحرب.

ورغم أن شبح الحرب في ليبيا، لايزال جاثماً على صدور الليبيين، والحديث عنها لا يكاد ينقطع بينهم، إلا أن الشواهد التي تدل على أنهم يتحدونها، ويستقطعون وقتا مهما يتنفسون فيه الإبداع، ويحلمون بواقع مختلف فيه لذة الحياة ونعيم العيش بأمن وأمان، يقودهم في هذا الشاعر الليبي، الذي أثبت واقعياً أنه قادر على التحدي المفروض عليه، فقبله وأنتج منه إبداعا يستحق أن يهتم به الناس رغم ضجيج الحرب. إبداع نجح الشاعر في أن يوظفه ليكون وسيلة من وسائل تخفيف حدة الألم والحزن والتشاؤم والخوف، فكتب كل شاعر قصائده العديدة عن هذه الحرب وبشكل مختلف عن شاعر آخر، لكنها تمثل كلها حالات وجدانية متباينة تتفق في مضمون واحد تقريبا يقود لعنوان واحد، وهو أن الشاعر الليبي الإنسان، لا يكره الحرب فقط، لكنه يقاومها من أجل أن يكون وفيا لوطنه ليبيا ووطنيته الليبية.

________________

نشر بصحيفة القدس العربي

مقالات ذات علاقة

محي الدين محجوب… المُجدِّد

المشرف العام

ذاكرة الوجع.. الإبادة الجماعية في ليبيا (1-2)

إبراهيم حميدان

الزهور لا تنبت في البرلمان

حسين نصيب المالكي

اترك تعليق