تراث

‏على أثرِ‬ (خطاوي الرِّياف)

من بَابٍ وَاسِعٍ يَلِجُ الشَّاعِرُ علي شحَّات عَوَالِمَ الشِّعْرِ الفَسِيحَةَ، فَهْوَ فَضْلاً عنِ انتمَائِهِ لقبيلَةٍ تَحْتَرِفُ الشِّعْرَ، نَشَأَ في أُسْرَةٍ تَهْوَى الشِّعْرَ حِفْظًا وَنَظَمًا وَرِوَايَةً. وقد تضَافَرَتْ هذهِ العَوَامِلُ جميعُهَا لإنضَاجِ ملكَتِهِ الشِّعريَّةِ، وَبَكَّرَتْ بصقْلِ موهبَتِهِ، وساهمَتْ إيجابًا بالتَّأثيرِ في تكوينِهِ شِعريًّا؛ إذ حَفِظَ الشَّاعِرُ منذُ صِبَاهُ مئاتِ القصَائِدِ الشَّعبيَّةِ، وآلافَ الأبياتِ لشُعَرَاءَ من بيئاتٍ متعدِّدَةٍ، وفي أغراضٍ وأزمنَةٍ مختلفَةٍ. لكنَّ ملكةَ الشِّعْرِ في أعماقِهِ ظَلَّتْ تلحُّ عليهِ باقترافِ القصيدَةِ، ففعلَ دونَ أن تتأثَّرَ شاعريَّتُهُ – سلبًا – بكلِّ تلكَ العواملِ التي ساعدتْهَا على التَّشَكُّلِ والنُّضْجِ والارتقَاءِ..

الشَّاعِرُ علي شحَّات يمتحُ من معينِ التُّرَاثِ الأصيلِ دونَ تقليدٍ لأحدٍ، وبتأثُّرٍ إيجابيٍّ مَنَعَهُ وَعْيُهُ بَمَاهِيَّةِ القَصِيدَةِ الخَالِصَةِ، الَّتي لا تذوبُ في كَيَانَاتٍ شِعْرِيَّةٍ أخرى، وَلا تَخْلَعُ كَيْنُونَتَها عندَ أبوابِ الآخرينَ مثلَ متسوِّلَةٍ متشرِّدَةٍ، ومن منطلقِ إدراكهِ لأهميَّةِ ألاَّ يُشْبِهَ الشَّاعِرُ إِلاَّ إيَّاهُ، فلا يكونُ مُقلِّدًا لأحدٍ، ولا منسوخًا من آخرَ أو آخرينَ .. فَتَأَثُّرُهُ ببعضِ كِبَارِ الشُّعَرَاءِ إِنَّما هو مَحْضُ تأثُّرٍ بجودَةِ شِعْرِهِمِ، وغِنَى تَجَارُبِهِم، وَثَرَاءِ قوَامِيسِهِم، فلم يَصَلْ تأثُّرُهُ بِهِم حَدَّ التَّنَاسُخِ المَقِيتِ، وَلم يدفعْهُ إعجابُهُ بِهِم لتقليدِهِم؛ وإنِّما لمجارَاتِهِمْ ومَسَابَقَتِهِم على حِيَازَةِ قَصَبِ الإبْدَاعِ في هذا البَرَاحِ الرَّحِيبِ.
لكنَّنَا ونحنُ إزاءَ هذا الكمِّ الهَائَلِ منَ الشُّعَرَاءِ الشَّعِبْيِّينِ، وفي مواجهَةِ غزارةٍ فادِحَةٍ منَ القصَائِدِ الشَّعْبِيَّةِ، يقتحمُ أعماقَنَا تَسَاؤُلٌ مُحَيِّرٌ: ما الذي يمكنُ لشَاعِرٍ شابٍّ أن يقدِّمَهُ في زحمَةِ الشُّعَرَاءِ هذهِ، ووسطَ طوفانِ القصائدِ هذا!؟ وأيُّ إِضَافَةٍ ممكنَةٍ متوخَّاةٍ منهُ يمكنُ أن يُحمدَ عليها الشَّاعِرُ غيرُ كَمٍّ مُجْتَرٍّ مُفْرَغٍ منَ القَصَائِدِ الطِّوَالِ الجَوْفَاءِ ..!؟
لكنَّ شَاعِرَنَا يُبَدِّدُ حيرَتَنَا، وينهرُ شكوكَنَا وتوجُّسَاتِنَا بيقينِ القصيدَةِ الإضافَةِ، القصيدَةِ النَّوْعِ لا الكمِّ، فهو يَتَغَيَّا الإِبْدَاعَ، ويتوسَّمُ في نصِّهِ العَامِّيِّ الإضافَةَ المُمْكِنَةَ، المُمْتِعَةَ المُقْنِعَةَ؛ ففي هذا الدِّيوَانِ قَصَائَدُ تتغيَّا التَّجدِيدَ، وتبرزُ هذهِ الغَايَةُ في قصيدَةِ ( اغزيِّل ) مثلاً؛ إذ ينهجُ فيها الشَّاعِرُ نهجًا غيرَ مسبوقٍ باعتمادِهِ صيغةَ ( التَّصغير ) الصَّرْفِيَّةَ، مرتكزًا للقصيدَةِ، مُغْتنمًا مَقَاصِدَ التَّصغيرِ البَلاغِيَّةَ لتبليغِ رسالَتِهِ الشَّعريَّةِ، وتبيانِ غاياتِهِ الفنِّيَّةِ، فمنَ المعروفِ أنَّ للتَّصغيرِ مقاصدَ كثيرةً ” تقليلُ ذاتِ الشِّيءِ، تقليلُ كمِّيَّتِهِ، تقريبُ الزَّمَانِ، تقريبُ منزلَتِهِ، إِظْهَارُ الشَّفَقَةِ، التَّمْلِيحُ، التَّرْحُّمُ، التَّعْظِيمُ والتَّحْبُّبُ، الاختصارُ اللَّفظيُّ، الذَّمُّ، التَّحقيرُ، والتَّعظيمُ” . فَقَدْ وَصَفَ الشَّاعِرُ في أحدَ عشرَ بيتًا تلكُمُ الحَبِيبَةَ الجَمِيلَةَ اللَّطِيفَةَ المُدَلَّلَةَ، بـاثنتينِ وثلاثينَ صِفَةً مُصَغَّرَةً فيما تغدو ثلاثًا وثلاثينَ صِفَةً إذا أَضَفْنَا لها العُنْوَانَ، بمعنى أنَّنَا إذا قَسَّمْنَا إِجْمَالِيَّ الصِّفَاتِ المُصَغَّرَةِ الـثَّلاثَ والثَّلاثينَ على عددِ الأبياتِ الأحدَ عشرَ، لتبيَّنَ لنا أنَّ كلَّ بيتٍ قد حوى ثَلاثَ صفاتٍ مصغَّرَةً. والشَّاعِرُ لم يُكرِّرْ غيرَ لفظِ ( اغزيِّل ) عنوانِ القصيدَةِ، الَّتي بدَأَ وَخَتَمَ بها البيتَ الأوَّلَ، مطلعَ القصيدةَ، وفي هذا التِّكرَارِ المقصودِ مقصدٌ بلاغيٌّ وَاضِحٌ.
وإن لم يكنْ ثَمَّةَ شَاعِرٌ شَعْبِيٌّ قد سَبَقَ الشَّاعِرَ علي شحَّات إلى هذا المنحى التَّجديدِيِّ، بارتكازِهِ على الإِبهَارِ اللُّغَوِيِّ لتحقيقِ الغَرَضَينِ الوَصْفِيِّ وَالجَمَاليِّ، فَإِنَّنَا نَجِدُ فِي الشِّعْرِ العَرَبِيِّ سَابِقَةً مُمَاثِلَةً كَانَ الشَّاعِرُ العَرَبِيُّ صَفِيُّ الدِّينِ الحِلِّي قدِ ابتدَعَهَا مُجَدِّدًا في قصيدتِهِ المُصَغَّرَةِ الَّتِي يفتتحُهَا بهذا المَطْلَعِ:

نُقَيْطٌ مِنْ مُسَيْكٍ فِي وُرَيْدِ * خُوَيْلُكَ أو وُشَيْمٌ في خُدَيْدِ

وَإِنْ كَانَتِ القَصْدِيَّةُ وَاضِحَةً، فهي في مثلِ هذا المَقَامِ تُوْقِفُ التَّدَفُّقَ العَفْوِيَّ لِلعَاطِفَةِ، وتحيلُ القصيدَةَ إلى نَظْمٍ مَحْضٍ، فَصَفِيُّ الدِّينِ الحِلِّيُّ اشْتَغَلَ عَلَى الشَّكْلِ كثيرًا؛ إِذ لَهُ قَصِيدَةٌ مُعَجَّمَةٌ ليسَ فيها حرفٌ مُهْمَلٌ ( غيرُ منقوطٍ ) يُصَدِّرُهَا بهذا البيتِ:

فُتِنتُ بِظَبْيٍ بَغَى خَيْبَتِي * بِجَفْنٍ تَفَنَّنَ فِي فِتْنَتِي

كما أَرْدَفَهَا بِأُخْرَى ممَّا يسمَّى الشِّعْرَ العَاطِلَ أو المُهْمَلَ، لخُلُوِّ كلماتِهِ منَ النِّقاطِ كما هيَ الحَالُ في قصيدتِهِ التي يفتتِحُهَا بهذا البَيْتِ:

سَدَّدَ سَهْمًا مَا عَدَا رَوْعَهُ* وَرَوَّعَ العُصْمَ، وَلِلأُسْدِ صَادْ

وهذا ما انْتَهَجُهُ بَعْضُ شُعَرَائِنَا الشَّعبيِّينَ كَمُحَمَّد بوهارون مبتدِرًا، ثمَّ الدكتور سعد العمروني، وبَعْضُ المُجَدِّدِينَ فِي غنَّاوة العَلَمِ .

وهناكَ قصائِدُ نَظَمَهَا صَفِيُّ الدِّينِ الْحِلِّيُّ تبدَأُ أبياتُهَا بحرفِ اليَاءِ وتنتهي بِهِ، لكنَّهَا تَمْتَازُ بِأَنَّهَا تُقْرَأُ مَقْلُوبَةً أَيضًا؛ كَقُولِهِ:
يَلذُّ ذُلِّي بِنَضْوٍ *لَوْ ضَنَّ بي لَذَّ ذُلِّيْ
يَلُمُّ شَمْلِيْ لِحُسْن * إنْ سَحَّ لِيْ لَمَّ شَمْلِيْ

ويشابِهُهُ الشَّاعِرُ علي شحَّات في سَعْيهِ الدَّؤُوبِ لارْتِيَادِ الآفَاقِ العَصِيَّةِ مُبْتَكِرًا مُبْتَدِعًا؛ فَفِي القصيدَةِ التَّالِيَةِ يَعْتَمِدُ الْجِنَاسَ الْمُطَرَّفَ، نَاسِجًا قَصِيدَةً مُدْهِشَةً مُكِرِّرًا فيها الكَلِمَةَ الأخيرَةَ، القَافيَةَ، أو الكَلِمَةَ الَّتِي بِهَا رَوِيُّ الَقصِيدَةِ، وَجُزْءًا منَ الكلمَةِ التي تسبقُهَا لِيُؤَلِّفَ مقطعًا صَوْتيًّا يُشْبِهُ رَجْعَ الصَّدَى، وهو ما يُسَمَّى فِي البَلاغَةِ العربيَّةِ بِالجِنَاسِ المُطَرَّفِ. يقولُ الشَّاعِرُ:

يهري فيه لوعاته قويَّهْ * العقل انصاف داء عشَّاق شَاقّ

علي ما ذاق من مرّ وَرَزيَّهْ * ما من قبل هالمذاق ذَاقْ

صَافَ صْيَافْ مِنْ طُوْل الرَّجيَّهْ * مَسَّعْ يَوم في لفراقْ رَاقْ

طَالْ بْكاهْ بِالدَّمْعَةْ السَّخيَّهْ * وما مِ النَّوْح هالفقفَاقْ فَاقْ

وَغَيْر عليهْ كِتْبَتْ هَالشَّكيَّهْ * ما مشكاهْ وين اشتَاقْ تَاقْ

ليلْ نَهَارْ صِبْحِي وَالْعَشِيَّهْ* ديما بيه هالنقنَاقْ نَاقْ

رزقه يوم في لحظةْ هَنِيَّهْ * ياس يْزقّ في لرزاق زَاقْ

وكون الله كلَّهْ بالسَّوِيَّه* وين عليه علمه ضَاقْ ضَاقْ

وَضَاعَ الودّ من طولْ اللَّويَّهْ * وَبَاتْ القسمْ بين املاقْ لاقْ

والقصيدةُ بالرُّغْمِ ممَّا فيها من قصديَّةٍ إلاَّ إنها تُظْهِرُ مَقْدِرَةَ الشَّاعِرِ الشَّعْبِيِّ على التَّفَنِّنِ في نَسْجِ قَصَائِدِهِ، وَرَغْبَتِهِ الْجَامِحَةِ َالْمَشْرُوعَةِ في تَطْوِيرِ نَصِّهِ، وَارْتِيَادِ آفَاقٍ أَوْسَعَ تَمْنَحُ الْقَصِيدَةَ جَنَاحِينِ مِنْ حُلُمِ تحلِّقُ بهمَا في فَضَاءِ الْخَيَالِ الشِّعْرِيِّ الشَّاسِع. وتُذَكِّرُنَا القَصِيدَةُ المدْهِشَةُ بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ الْخَمْسَةِ لِجَمِيلِ بُثَيْنَةَ:
خَلِيلَيَّ إِنْ قَالَتْ بُثَيْنَةُ مَا لَهُ* أَتَانَا بِلا وَعْدٍ فَقُوْلا لَهَا لَهَا

أَتى وَهوَ مَشغولٌ لِعُظمِ الَّذي بِهِ * وَمَن بَاتَ طُوْلَ اللَّيْلِ يَرْعَى السُّهَى سَهَا

بُثَيْنَةُ تُزْرِي بِالْغَزَالَةِ فِي الضُّحَى * إِذَا بَرَزَتْ لَمْ تُبْقِ يَوْمًا بِهَا بَهَا

لَهَا مُقلَةٌ كَحْلاءُ نَجْلاءُ خِلْقَةً * كَأَنَّ أَبَاهَا الظَّبْيُ أَوْ أُمَّهَا مَهَا

دَهَتْنِي بِوِدٍّ قَاتِلٍ وَهْوَ مُتْلِفِي * وَكَم قَتَلَتْ بِالْوُدِّ مَنْ وَدَّهَا دَهَا

وإن كانَ الشَّاعِرُ العَرَبِيُّ صَفِيُّ الدِّينِ الحِلِّيُّ كانَ قدِ ابتدعَ ( الأرتقياتِ )؛ وهي قصائدُ يَبْدَأُ كُلُّ بَيْتٍ فِيهَا بِحَرْفٍ وَيَنْتَهِي بِهِ، فَإِذَا كَانَتِ القَافِيَةُ مِيميَّةً كَانَتْ أَوَائِلِ الأَبْيَاتِ كذلكَ؛ كقولَهِ:

مَغَانِمُ صَفُو العَيْشِ أَسْمَى الْمَغَانِمِ * هِيَ الظِّلُّ إِلاَّ أَنَّهُ غَيْرُ دَائِمِ

مَلَكْتُ زِمَامَ العَيْشِ فِيها وَطَالَمَا * رَفَعْتُ بِهَا لولا وُقُوعُ الجَوَازِمِ

وإذا كانَتِ القَافِيَةُ تنتهي بحرفِ القَافِ، كانت أوائِلُ الأَبْيَاتِ تبدَأُ بحرفِ القَافِ أيضًا، كقولِهِ:

قِفِي وَدِّعِينَا قَبْلَ وَشْكِ التَّفَرُّقِ * فَمَا أَنَا مَنْ يَحْيَا إِلَى حِيْنِ نَلْتَقِي

قَضَيْتُ وَمَا أَوْدَى الحِمَامُ بِمُهْجَتِي * وَشِبْتُ وَمَا حَلَّ البَيَاضُ بِمِفْرَقِي

قَرَنْتِ الرِّضَى بِالسَّخْطِ وَالقُرْبَ بِالنَّوَى* وَمَزَّقْتِ شَمْلَ الوَصْلِ كُلَّ مُمَزَّقِ

قَبِلْتِ وَصَايَا الْبَحْرِ مِنْ غَيْرِ نَاصِحٍ * وَأَحْيَيْتِ قَوْلَ الهَجْرِ مِنْ غَيْرِ مُشْفِقِ

فإنْ كَانَ الحِلِّيُّ قدِ ابتدعَ هذا النَّوْعَ منَ النَّسْجِ الشِّعْرِيِّ، فإنَّ الشَّاعِرَ علي شحَّات قد طَوَّرَ الفكرةَ ليبدَأَ كُلَّ بيتٍ بكلمَةٍ ويختمَهُ بالْكَلِمَةِ نفسِهَا، يقولُ:

ضاق الصَّدر يا الصَّدر الحنون* وكون الله عَ الخفَّاق ضاقْ

راق معاك في خَجَّةْ العون* وطاح العون بات العزم راقْ

شفاق طياح يا غالي الجون* زايد فوق من همَّه شفاقْ

طاق عليك برواق وطمون * ياسك نين ما فرقاك طاقْ

زهاق الكبد من كثر الشَّجون* صْروف الدهر زادنَّه زهاقْ

وتاق الحزن ماكن في العيون* وين هلال طول الموح تاقْ

اشتاق نهار يمحا في الغبون* مْعاك تعال لو عقلك اشتاقْ

فجَّر دمع حجَّر في جفون* عْيون جمام مليانه أشواقْ

عطانا مْعاك غدَّار المنون* أيَّام قْصار في دنوك رواقْ

وجاد الغيث واشتدَّت غْصون* غلا لعروق في المبدوع داقْ

وهبَّت ريح خيبات الظنون* هَبَتْ لثمار بلكل والأوراقْ

وفوق أطلال ضاقَتْ مِ السَّكون* غراب البين عيَّط بالفراقْ

وزاد الشَّوق وانهدَّتْ حْصون* عَزَام سْنين وسمت بالوثاقْ

عال وْلَزّْ هالياس الحرون* يا مشكاي وانهي هالقناقْ

في المكنونْ لك وِدّ مخزون* ودونك ياس ماسك في الخناقْ

وقدِ اكتَفَى الشَّاعِرُ في القَصِيدَةِ السَّابقَةِ بِمُمَارَسَةِ لُعْبَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ الشَّائقَةِ في السَّبْعَةِ الأَبْيَاتِ الأُوْلَى منَها، فيما استغنى عنها في الثَّمانيَةِ الأخيرَةِ، غيرَ أنَّ هذهِ القصيدَةَ الرَّائِعَةَ تُظْهِرُ مَقْدِرَةَ الشَّاعِرِ الشَّعْبِيِّ على الابتدَاعِ الشَّكْلِيِّ وَاللَّفْظِيِّ، والتَّطْوِيرِ النَّوْعِيِّ في هَنْدَسَةِ القَصِيدَةِ العَامِّيَّةِ، وِإِنْ كَانَ قَصْدِيًّا مُفْتَعَلاً، وَقَدْ سَارَ عَلَى نَهْجِ الشَّاعِرِ عَلِي شحَّات، أو صَفِيِّ الدِّينِ الحِلِّيِّ قَبْلَهُ، شُعَرَاءُ عامِّيِّونَ آخَرُونَ كَبَدْرِيَّة الأَشْهَبِ وَمَحَمَّد بلحسن الصِّبْحِي، اللَّذَيْنِ شَارَكَا الشَّاعِرَ جُنُوحَهُ الشِّعِرْيَّ المُبَاحَ في بَعْضِ قَصَائِدِهِ، بِقَصَائِدَ مُمَاثِلَةٍ.

وليسَ مُبَالَغَةً قُولُنَا إِنَّ الشُّعَرَاءَ في هذِهِ القصائدِ لم يكونوا يهذونَ، فَثَمَّةَ مَعَانٍ وَاضِحَةٌ فِي قَصَائِدِهِم، وَثَمَّةَ مَضَامِيِنُ رَاقِيَةٌ ظَاهِرَةٌ تَسُوقُهَا القَصَائِدُ مَعَ وُجُودِ خَيْطٍ حريريٍّ تنتظمُ فيهِ الأبياتُ تتابُعًا ومعانيَ ووحدةً عضويَّةً، فليسَ غيرُ الإبداعِ والابتداعٍ يَقتَرِحَانِ هذا التَّجَاوزَ الجَمِيلَ، وهذهِ الجُرْأَةَ المُبَاحَةَ، وهذِهِ الهنْدَسَةَ الفَاتِنَةَ، فَلولا المُغَامَرَةُ لم يُكْتَشَفْ عَالَمٌ جَدِيدٌ، ولولا رُكُوبُ المَخَاطِرِ ما كانَ الوصُولُ إلى تحقيقِ كثيرٍ منَ الطُّمُوحَاتِ والآمَالِ وَالرَّغاَئِبِ.!

والشَّاعِرُ لا يَنَفْكُّ يَقْتَرِفُ الجَمَالَ، ولعلَّهُ قد عَثرَ عليهِ في الجِنَاسِ بِخَاصَّةٍ، ولا يفوتُنَا ونحنُ نرقبُ باندهاشٍ اِشْتِعَالَ أعمَاقِ الشَّاعِرِ بجمْرَاتِ الهوى الحَارِقَةِ، أَنْ نَقْبِسَ من شعرِهِ المضيءِ بعضَ البَلاغةِ السَّاحِرَةِ التي سَرَتْ في ثَنَايَا أَبْيَاتِهِ الْمُؤَثَّثَةِ بالوَجْدِ وَاللَّهَفِ وَالاشْتِيَاقِ، فَالشَّاعِرُ يَلْعَبُ لُعْبَةَ الِجنَاسِ البَدِيِعيَّةَ بِاتْقَانٍ لأَجْلِ الإِمْتَاعِ، وَقَدِيمًا أَدْرَكَ شعراءُ العربِ ذلكَ بفطرتِهِم وعفويَّتِهِم فَجَاءَتْ أَشْعَارُهُم غِنَاءً. فلننظُرْ هُنَا كيفَ يوردُ كلماتٍ من جذرٍ واحدٍ هو ( كَبِرَ ) مُظْهِرًا وعيَهُ بكميَاءِ الحُرُوفِ، فَيَرْصِفُهَا بِإِحْسَاسٍ عَالٍ لينتجَ لنا معانيَ مدهشةً، وموسيقا لفظيَّةً ساحرةً، يَقُولُ من قَصِيدَتِهِ ( يا جمر مَانَكْ طافي ) :

يا جمر مَانَكْ طافي حتَّى وين ما هِلْتَهْ عَلَيْكْ السَّافِي
حَسِّيتْ لذعتَكْ…..

عليك نكابر* ومازلت تكوي في ضلوعي كابر

ونا عن سريب الصوب تبت وكابر* وقانع ونطوي في أوراق املافي

ومن كبري علي صهدك الكابر كابر * عليك وعلي روحي وشوقي نافي

ونحساب روحي ع َالغوالي صابر * رَدَّيتْ ردِّني بوقه املوّع وافي

فلنعِدِ الاستماعَ إليهِ يكرِّرُ كلمةَ ( كابر ) بمعانٍ مختلفةٍ مُحافِظًا على النَّسَقِ الفنيِّ للقصيدةِ، بلا تكلُّفٍ، ودونَ الشُّعورِ بثقلِ التِّكرارِ، ومن غيرِ أن يُدَاخِلَكَ المَلَلُ من إعادةِ لفظةٍ بعينِهَا:
عليك نكابر* ومازلت تكوي في ضلوعي كابر

ونا عن سريب الصوب تبت وكابر* وقانع ونطوي في أوراق املافي

ومن كبري علي صهدك الكابر كابر * عليك وعلي روحي وشوقي نافي

ونحساب روحي ع َالغوالي صابر * رَدَّيتْ ردِّني بوقه املوّع وافي

نلاحظُ الاعتمادَ على الجِنَاسِ في تكرارِ كلمَةِ ( كابر ) وهي تردُ بمعَانٍ مختلفةٍ: (نكابر) أي أكابرُ، من المكابرَةِ، ( كابر ) أي مشتعلٌ، ( كابر ) متقدِّمٌ في السنِّ، ( كِبْرِي ) تقدِّمي في السِّنِّ، ( كَبْرَك ) اشتعالُكَ واتِّقادُكَ، ( كَابِر ) متفوُّقٌ متسيِّدٌ، كذلك
كلمة ( كَابِر ) الأخرى بعدها .

وَكَسَائِرَ قَصَائِدِ الشِّعْرِ الشِّعْبيِّ اللِّيبيِّ، تعتاشُ قصائدُ هذا الشَّاعِرِ على نبرَةِ الحزنِ الشَّدِيدِ، وتدورُ حولَ معانيَ القهرِ، والحرمانِ، والفقرِ والحاجةِ.. وَتَسِمُهَا مَسحَةُ العَذَابِ المكِينُ؛ فأغلبُهَا تُحَاضِنُ ثيمةَ الأسى، فَتَتَبنَّى قائمَةً سوداءَ من مفرداتِ البُؤسِ والعَذَابِ والفِرَاقِ، والشَّوْقِ السَّافِرِ المُعَذِّبِ، والبِعَادِ اللَّعِينِ، والظُّرُوفِ القَاهِرَةِ التي حَشَرَهَا كثيرٌ منَ الشُّعَرَاءِ في أشعارِهِم، فَلوَّنُوا بألوانِهَا القَاتِمَةَ قَصِائِدَهُم، ربَّما كانَتْ سيرًا على دربِ قصائدَ صادقةٍ أملتها تجاربُ شعوريَّةٌ استوجَبَتْ اكتظاظِ القصيدةِ بهذِهِ المُفْرَدَاتِ، كَالقَصَائِدِ المَوْلُودَةِ إِبَّانَ الاحتلالِ الإيطاليِّ لليبيا الَّتي حَمَلَتْ مَا جَرَّهُ ذاكَ الاحتلالُ البغيضَ عَلَى الإِنْسَانِ الليبيِّ من ويلاتٍ وعذاباتٍ أَلْقَتْ بظلالِها على نفوسِ النَّاسِ، لاسيِّمَا الشُّعَرَاءُ منهم، واقتحَمَتْ مفرداتُهَا الفَظَّةُ وِجْدَانَاتِهِمْ، وحَبُلَتْ بها أَشْعَارُهُم، فَضْلاً عن تأثيرِها – سلبًا – على نفسيَّةِ الإنْسَانِ بعامَّةٍ، قصيدَةُ ( ما بي مرض غير دار العقيلة ) لرجب بوحويش أنموذجًا. لذا تنتشرُ في أشعَارِ الشَّاعِرِ علي شحَّات مفرداتٌ لا تُغَادِرُ معجمَ القهرِ مثلَ ( اليأس، الغيبة، الجضر، الفراق، الجراح، الخسارة، الحزن، الخيانة، الخداع، الجفاء، الغدر، القهر، الخطأ، الهجر، اللوعة، الأوجاع، الحسايف، النَّدم، الكواين، المرّ، المرار، القسوة، النَّار، وغيرها… ) ، وهذا يثيرُ لدينا تساؤلاً مهمًّا، لا يَخُصُّ أَشْعَارَ الشَّاعِرِ علي شحَّات، فَحَسْبُ؛ وإِنما الشِّعْرَ اللِّيبيَّ عامَّةً الَّذي زَحَفَتْ فِيهِ مَسَاحَاتُ الحُزْنِ عَلَى مَسَاحَاتِ الفَرَحِ بشكلٍ مثيرٍ للقَلَقِ، فَمَا سِرُّ استمرارِ سَيْطَرَةِ هذهِ العَاطِفَةِ الحَزينَةِ على أشعارِنَا ..؟ وما سَبَبُ انتشارِهَا المزمنِ في قصائدِنَا وتعابيرِنَا إلى هذا الوقتِ؟ ولماذا تتناسَلُ هذهِ الغيومُ السَّوْدَاءُ في فِضَاءِ قَصِائدِنَا الشَّعْبيَّةَ ممطرَةً كآبةً وحزنًا وعذابًا ..!؟

فَإِنْ كَانَتِ الألفاظُ مرآةَ الأعمَاقِ، فنحنُ إِزَاءَ شُعَرَاءَ محتلَّةٍ أعماقُهُم بِاليَأْسِ الكفورِ، والقُنُوطِ المُمِيتِ وَالانكسَارِ المُحْبِطِ، مُكْتَظَّةٍ وجدانَاتُهُمْ بالأَسَى المُجْحِفِ، والحُزْنِ المُقِيمِ، والعَذَابِ المَكِينِ ..!!
ففي كلِّ قَصَائِدِ هذا الدِّيوَانِ، لا نكادُ نجدُ قصيدَةً واحدَةً تنطقُ بالفَرَحِ أو الأَمَلِ أو التَّفَاؤُلِ ..!؟
هذِهِ الأسْئِلَةُ المُحيِّرُة تدعُونَا لِدِرَاسَةِ هذا الوَضْعِ دراسَةً عميقةً لمعرفَةِ المؤَثِّرَاتِ النَّفْسِيَّةِ والاجتماعيَّةِ الَّتِي تُنْتِجُ هذا الكَمَّ الهَائِلَ منَ الحزنِ، وتفرِضُ هذا القَدَرَ الجَزِيلَ منَ الخيبَاتِ والإحبَاطِ والتَّشَاؤمِ .. ولا أُرَجِّحُ أَنَّ خَيْبَاتِ العِشْقِ، وَفُقْدَانَ الحَبِيبَةِ وحدَهَا، كانتْ سَبَبًا في كُلِّ هذهِ المُحَصِّلَةِ السَّودَاءِ الجَسِيمَةِ .. !
ما بقيَ قولُهُ إِنَّنِي قَدِ اِستمتَعْتُ اِسْتِمْتَاعًا كَبِيرًا وَأَنَا أَتَجَوَّلُ بينَ هذِهِ الحَدِائِقِ الشِّعْريَّةِ الوَارِفَةِ، أَشْتَمُّ منها رَائِحَةَ الشَّوْقِ النَّدِيَّةَ، واستمرئُ فيها شَمِيمَ اللَّهَفِ، وَعَبَقَ الاشْتِيَاقِ، وريَّا الحُبِّ النَّقِيِّ الصَّدُوقِ ..

ولا يَنْتَقِصُ منَ البهَجْةِ الغَامِرَةِ الِّتي تَمْنَحُهَا القَصَائِدُ، ما أَوَرْدَتْهُ حَوَل تَفَشِّي سِمَةِ الحُزْنِ ومشتقَّاتِهِ المنتشرَةِ في أَوْصَالِ القَصَائِدِ، وَلا أَعدُّهُ انتقادًا يَطَالُ مَضَامِينَ القَصَائِدِ وَبِنَائِيِّتَها وَتَراَكِيبِهَا وَفَنِّيَتَهَا؛ فَقَصَائِدُ الشَّاعِرِ تَتَجَافَى عَنِ الإِسْفَافِ، وَتَعْصَى عَلَى القَلَقِ العَرُوضِيِّ، فيما تَسْكُبُ فِي الأَعْمَاقِ كَثِيرًا من مُوسِيقَاهَا وَلَهْفَتِهَا مُلامِسَةً الرُّوحَ، مُنَاوِشَةً الوِجْدَانَ، مُسْتَفِزَّةً الأَعْمَاقَ .. غَيْرَ أَنَّنِي – بِذَوْقِيَ الخَاصِّ – كُنْتُ آمُلُ أَنْ يُغَادِرُ الشَّاعِرُ مَحْبَسَ الحُزْنِ الأَسْودِ إِلَى بَرَاحاتِ الفَرَحِ والأَمَلِ والتَّفَاؤُلِ.. وَإِنْ كَاَن وِجْدَانُ الشَّاعِرِ لا يُوَجَّهُ، وَعَاطِفَتُهُ لا تَقْبَلُ الإِمْلاءَ عَلَيْهَا؛ فَالشَّاعِرُ وَهْوَ يَرْتَكِبُ قَصَائِدَهُ لا يُعَبِّرُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَحَسْبُ؛ وَإِنَّمَا يُشَاغِبُ وِجْدَانَاتِ المُتَلَقِّينِ، إِذْ يَجِدُ فِيهَا أَطْيَافٌ متعدِّدَةُ الأَذْوَاقِ وَالأَعْمَارِ بَلْسَمًا لِجِرَاحِهِم، وَسَلْوَى لأَرْوَاحِهِم، وَتِرْيَاقًا لأَدْوَائِهِمْ ..
وَبَقِيَ القَوْلُ صِدْقًا : إِنَّهُ لا نَدَمَ لَدَى المُتَلَقِّي بِاتِّبَاعِ هَذِهِ ( الخَطَاوِي ) المُكْتَظَّةِ بـ ( بالرياف )، المَحْشوَّةِ بِنَبْضِ عَاشِقٍ حَقِيقيٍّ أَرَادَ عَبْرَ قَصَائِدِهِ أَنْ يَعْصِرَ قَلْبَهُ فِي أَفْوَاهِ قُلُوبِنَا سَاقِيًا إِيَّانَا رِيقَهَا الذَّهَبِيَّ.

________________________________________

اجدابيا / 2/1/2014

‫#‏ على أثر خطاوي الرياف ، مقدِّمة لمخطوط ‏الشاعر “علي شحَّات”‬.

مقالات ذات علاقة

الكهرباء وطرح الاحمال

ميلاد عمر المزوغي

قصة بائع الفحم في الصحراء والغلام المسافر

المشرف العام

حتى من الشايب برم اشنابه

ميلاد عمر المزوغي

اترك تعليق