متابعات

وللسرد مساحة

للحديث حول هموم الثقافة والإخراج المسرحي وكتابة السيناريو والمسلسل الإذاعي والقصة القصيرة , أقامت الجمعية الليبية للآداب والفنون صباح يوم السبت الموافق للثاني عشر من هذا الشهر بدار الفنون والتراث بشارع ميزران باستضافة من مكتب الثقافة طرابلس , أقامت جلسة أو أصبوحة قصصية وحوارية للأستاذ عبد العزيز الزني أبن مدينة درنة الزاهرة , الأستاذ احمد غماري هو الذي افتتح النشاط بنبذة بسيطة عن الضيف الذي كان قد ولِدَ سنة 1948 بمدينة درنة وتحصل على دبلوم معلمين ليمتهن تدريس اللغة الأنجليزية لسنوات طويلة وهي المهنة التي تعامل معها بشغف وبعشق قبل ان تكون مهنة كباقي المهن , وكتب الزني القصة القصيرة والسيناريو كما درس الإخراج المسرحي وفنونه وتحصل على شهادة بذلك من بودابست عاصمة دولة المجر , كما شارك بعدة نصوص في مسابقة وزارة الثقافة وتحصل على التراتيب الأولى وتُرجِمت بعض نصوصه المسرحية التي ألفها إلى مسرحيات تم عرضها على الجمهور وقدمَ خمسة أعمال للمسموعة أهمها عمل ” كل عقدة لها حل ” ومسلسل ” يا ربي بنت ” وساهم في تأسيس نادي القصة القصيرة بدرنة .

أصبوجة الكاتب عبدالعزيز الزني.

الأصبوحة الشيقة افتتحها الضيف الكريم بالحديث عما عانتهُ مدينة درنة أبان سيطرة الجماعات المتطرفة عليها لمدة تسعة أشهر العام الماضي قبل ان يتم تحريرها وعودتها إلى حضن الوطن , حيثُ عمدَ القاص كما قال إلى توثيق وتسجيل أحداث فترة الترقب والأنتظار التي شهدت عمليات إعدام وتعذيب وقتل مارسها التنظيم ,ولم ينفك كغيره من أهالي درنة يؤمن بيقين أنَّ ما تعيشه المدينة وما تعانيه , مؤقت وزائل وهو الأمر الذي لم يتأخر كثيرا حيث تم طرد المجموعات الدخيلة منها وعادت المدينة إلى أهلها , ولم ينسى أن ينوه بالثمن الباهظ الذي دفعته المدينة في سبيل تحقيق هذا الهدف , لينتقل القاص إثر هذا التأطير للمشهد الثقافي في درنة وهو ذات المشهد الذي كُتِبت فيه بعض النصوص كالتي نُحيل إليها الأن وهي قصة ” الملك ” التي قال عنها القاص أنها موجهة للطفل الذي يمكن أن تُقرأ له وفيها تعرض بطريقة رمزية لعدة قضايا تهم المدينة والوطن بالكامل وكان منطلقها الواقع المأزوم .
قصة أخرى بعنوان ” لحسة العسل ” ألقاها القاص وهي كذلك موجهة للطفل , وعبرها سأقَ درس بسيط من الممكن أن يستفيد منه المتلقي , وفكرتها تقوم على التأني والحذر وعدم الأنسياق وراء الشهوات لأن النص يحكي قصة ذبابة فضّلت الجوع على الأنصياع لشهوتها بأن تحصل على لحسة عسل , لأن ذلك الفعل قد يكون فيه نهايتها المحتومة إذ أنها بمجرد أن تقف على العسل المغري ستعلق ولن تستطيع الفكاك من قوامه اللاصق .

تحدث القاص بعد هذا الفيض السردي عن بعض تقنيات الكتابة القصصية ورصد أهم شخوصه الي تتسم – كما ألمح – بالتكتم الشديد وعدم البوح واستدل بقصة جزء منها واقعي تحكي عن شاب لا يستطيع الزواج لسبب طبي أحب فتاة أيضا لا تستطيع الزواج لذات السبب دون أن يتلاقيا أو يفتحا قنوات للحوار بينهما لتنتهي القصة بافتراقهما عن بعض , بينم كان بإمكان الحوار أن يجمع بينهما ويسهم في تذويب معاناتهما وهذا ما قصده القاص حين ألمح إلى عدم البوح والتكتم الذي يفرض وجودهما في القصة معاناة قاسية على شخوصها .

أخذنا القاص عقب ذلك إلى جولة في عوالم السرد والمسرح اللذين يلتقيان في عديد المُشتركات كونهما ينهضان على المكان والزمان والشخوص أو النماذج الإنسانية ويختلفان في الشكل .
أيضا تحدث الزني عن تلك القصة الأفتراضية – رغم أنها تنطلق من صميم الواقع – والتي تحكي عن قصة الزوج الذي يزور قبر زوجته المتوفاة وفي لحظة فارقة يتصور أنها تخرج من القبر لتشتبك معه في حوار طويل , ويرى القاص أن لأغلب شخصياته التي يرسمها حنين جارف للماضي وهذا يرتب عليها ألماً كبيرا ومعاناة هائلة , وكأن هذا الكلام كان تمهيدا لقراءة قصة ” حنين ” التي أُسنِدَ دور البطولة فيها لامرأة , قبل أن يتبعها بثلاث قصص على هيئة ومضات عنونها ب ” أمينة ” و ” مصاصوا … ” و ” عائلة ” , وقصة أخرى لأحد أصدقاء نادي القصة القصيرة , وحرص في كل ما قرأ على أن تحمل القصة فكرة طفيفة أو تنطلق من مفارقة في الواقع أو تناقض يجعل منها مقنعة وقادرة على بث شيئا من المتعة والبهجة في نفس المتلقي , كما لوحظ أن القاص يلجأ كثيرا إلى اختيار شخصياته من الحيوانات لتسريب أفكاره وسوق خطابه بطريقة لا مباشرة وكأن القاص ينتصر للحيوانات مقابل الإنسان إذ يستعير ألسنتها ليقول ما يريد قوله ويمرر ما يبتغي تمريره , ويعزز هذا الأعتقاد كثرة استثماره لبعض الحيوانات مثل الحمار الذي ظُلِمَ كثيرا ووصِفَ بالغباء رغم أنه يتمتع ببعض الذكاء , إذ يكون قادرا على حفظ الطريق جيدا إذا ما مر منها لمرتين أو ثلاث كما أن جزء أساسي من حضارة البشر قامت على كاهله هو الكائن الصبور والمكافح في صمت , وفي كل ما كتب القاص راعى خاصية أن تكون الكتابة ممتعة له ككاتب وللقارئ لا سيما في القصة القصيرة جدا أو الدقيقة والومضة التي لها شروطها الخاصة ويتعذر كتابتها من كل من التقط قلما وادعى أنه كاتب للقصة .

” جرأة 1 ” و ” جرأة 2 ” هما قصتان قرأهما القاص بالتتابع وألقاهما على أسماعنا , وفيما انطوت الأولى على حكمة وخلاصة خبرة حياتية وتكثيف وشيئا من السيرة الذاتية , انطوت الأخرى على تساؤلات ونقد مبطن للسائد والمُعاش .
” أمنية ” هي القصة التالية التي قرأها القاص وفيها يقول ببساطة ” عندما كنت صغيرا تمنيت أن يشتري لي والدي دراجة , وعندما صرت كبيرا تمنيت أن أشتري لولدي دراجة ” أو كما قال .
قصة طويلة كتبت عام 1988 يلعب دور البطولة فيها عصفور صامت بعنوان ” حتى لا تتحقق الرؤية ” وفيها يتوقف المرء ليتعلم من صمت العصفور والعصافير لا تصمت إلا لأن أمر جلل وقع أو خطأ فادح حدث .
وافتتاحا لباب النقاش وكمدخل للموضوع تساءل الكاتب رمضان سليم عن انعكاسات المكان والبيئة على إبداع الكاتب عبدالعزيز الزني وأشار صراحة إلى مدينة درنة والمجر التي قصدها القاص للدراسة , وهذ أعطى فرصة للضيف لكي يتوسع في سرد جزء من سيرته الذاتية وبداياته التي تأثرت بثقافة المشرق العربي لقربه الجغرافي منه , وتطرق إلى بعض الكتب التي شكلت وعيه مثل رواية ” ذهب مع الريح ” لمرغريت ميتشل الذي قال عنها أنه عرف الشخصية الأمريكية من خلالها وبلور عنها فكرة , مثلما تحدث عن اطلاعه على فن المنودراما في دولة المجر ومحاكاته له فيما بعد , وعن القصة القصيرة جدا أضاف أنه لم يفقد ذاته وهو يكتبها بالرغم من تأثراته الواسعة وظل يكتب انطلاقا من هويته التي تتلبسه .

من جهته تساءل الكاتب ابراهيم حميدان في حيرة عن أسباب سقوط مدينة درنة في هوة التطرف بالرغم من أنها من أولى المدن الليبية التي عرفت المسرح وفن الغناء وأخذت بأسباب الحضارة والأرتقاء مبكرا , وقدم عدة افتراضات لذلك لعل الوضع الأقتصادي المتأزم والتهميش وغسل الأدمغة أو الأدلجة أهمها , وهو سؤال يصب في الجانب الفكري , وفي إجابته لم يجزم القاص برد محدد وبأسباب معينة للظاهرة ورأى أن الدراسة الوافية للموضوع والمعمقة كفيلة بأن تقدم إجابات شافية لا يستطيع القاص تقديمها عندما سؤِل عنها , وقارنَ ما بين وضع درنة الثقافي اليوم وفيما مضى من عقود ليخلص إلى تدني الوعي الثقافي اليوم إذا ما قورن بما كان موجودا في الماضي .
هنا تدخل الأستاذ أمين مازن بملاحظاته القيمة وخبرته الواسعة ليشيد بالنخبة الدرناوية المتنورة طوال تاريخها والتي أسهمت في ما كانت عليه المدينة من ازدهار عبر العصور ولا يعود الفضل فقط في هذا الأزدهار لقربها من ثقافة المشرق وتأثرها بها , هذا ما أراد الأستاذ أمين أن ينبه له عند رأى أن الفضل في ازدهار درنة ينسب بالكامل للمشرق العربي , واستغل الفرصة ليشد على يد القاص ويوجهه إلى نشر إنتاجه الأدبي والمسرحي عبر مواقع التواصل الأجتماعي ومد جسور التواصل مع الآخرين دون انتظار شيئا من المؤسسات الحكومية في شأن النشر وغيره .
ولا زال القاص يتعمق في تاريخ درنة القريب والبعيد حتى أدار دفة الحديث , المتداخل التالي جمعة الدويب الذي طلب من ناحيته من الضيف تقييم حالة القصة القصيرة في ليبيا اليوم , لتأتي الإجابة صادمة , إذ أنَّ الواقع يقول أنها في تراجع مستمر وتفتقد إلى الزخم الذي كانت تمتلكه في السابق لأسباب عديدة .

عبدالمطلب أبو سالم المستشار في وزارة الثقافة أحالنا بسؤاله إلى حوادث التاريخ فيما يتعلق باحتلال الولايات المتحدة الأمريكية لمدينة درنة سنة 1805 وأثار ذلك ليس على المدينة وأهلها فحسب بل على الغازي والمستعمر أيضا , وفي هذا شدد القاص الضيف على أن أهل درنة في كل عصورها لم يكونوا معزولين عن الأحداث بل كانوا في تواصل مستمر معها وجزءا منها .
تاريخ المدينة الإسلامي وقبور الصحابة في أرضها الطاهرة كان مثار اهتمام المتداخل بدرالدين الورفلي الذي أكد على خصوصية المكان وعراقة المدينة وهو ما وافقه عليه الضيف والحضور بالتأكيد .
اعطى بعد ذلك القاص عبدالعزيز الزني رؤية مبسطة لمستقبل الثقافة في درنة رداً على سؤال مدير النشاط قبل أن يستأنف قراءة قصصه القصيرة التي تمنى الأستاذ احمد غماري ومن معه وهو يختتم النشاط الذي دار في أجواء شتوية معتمة نظرا لانقطاع التيار الكهربائي , أن نراها ضمن مجموعة مطبوعة ورقياً .

وبالإعلان عن لقاء مرتقب مع القاص محمد الزنتاني صباح السبت القادم الموافق للتاسع عشر من شهر يناير الجاري ومحاضرته ” ملامح وومضات من الحياة الأجتماعية الثقافية في مدينة سبها خلال النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي ” بهذا الإعلان انتهى النشاط , ويُذكر ان القصة القصيرة وهي الفن الراسخ والعريق لم تحظى بمساحة ضمن أنشطة الجمعية في السابق وهذه هي المرة الأولى تقريبا التي تخصص للقراءات القصصية والسرد بعد أن تناولته بالنقد وأفردت له مساحة معتبرة ضمن فعالياتها المتنوعة .

مقالات ذات علاقة

ليبيا تشارك في مئوية «بارت» بصفاقس

المشرف العام

الاحتفال برأس السنة الأمازيغية بطرابلس

مهند سليمان

احياء يوم الثقافة التباوية تحت شعار (التنوع الثقافي والمعرفي في تعزيز الوحدة الوطنية)

المشرف العام

اترك تعليق