قصة

وجه أمّي وطن

[إهداء إلى جميع الأمهات بمناسبة عيد الأم]

من أعمال التشكيلي الليبي الطاهر المغربي.
من أعمال التشكيلي الليبي الطاهر المغربي.

.. لم ألتق بأمّي، بعد طلاقها من أبي.. هي تزوجت. وبقيت أنا مع جدّي وجدّتي..  انقطعت الصلة بها تمامًا. كنت دائمًا أتخيل ملامحها، أرسمها في مخيلتي، أراها أجمل الجميلات.. أحلى النساء، فكل الأمهات رائعات، أختلس من وجوه أمهات أصدقائي الأطفال وجهًا لها، أنقشه في خلوتي، إلى أن شاء القدر، والتقيت بها في الخامسة عشرة من عمري، وقبل أن تكتمل تفاصيل ملامحها في ذاكرتي رحلت عن هذه الدنيا، وعدت أحفر تضاريس وجهها في ذاكرتي من جديد، لملمت كل جزء منها داخلي. لكنني لم أكتف. عندما أتحدث أود لو أن الناس شاركوني الرحيل عبر خرائط ملامحها. لم تعد تفاصيل ذاكرتي المخزنة تكفي لوصفها.. بحثت عن صورة فوتوغرافية لها. سألت إخوتي، خالاتي، كل الأقرباء. لكن لا صورة لها، لم تكن لها بطاقة، أو جواز سفر، لم تسافر قط، لهذا لم تقف قبالة أيّ مصور، ذات مرة ذكرت لي أصغر خالاتي أن الصورة الوحيدة لها بعثوها لابنها عندما كان مسجونًا، ضاعت هناك، أو صادرها حراس السجن. وأضافت قائلة:

– إن ملامحها غير واضحة بتلك الصورة الجماعية.

أدركت عندها أن وجه أمّي تماهى عبر تضاريس الوطن، سكن السهول، والوديان، والمدن، والمطر، ونام تحت جذور الشجر، وانفسح مع زرقة السماء، وضوا مع القمر، والنجوم، تسلل إلى عبق الزهر، استنشق رائحة التراب، وذاب في ملح البحر، وتزامن مع إشراقة كل شمس.. لا أدري ما الذي جعلني أتذكر وجه أمّي هذه السنوات؟

   تستبد بي رغبة جارفة لإيجاد صورة فوتوغرافية لها، وهوسي بالتحديق في خارطة الوطن. هل أحاول أن أعثر على ملامح أمّي في خارطة وطن يكاد يختفي. ويتلاشى، أم أنني أبحث عن وطن تلملمه قلوب يمزقها الوجع حتى لا يمحى من الذاكرة، أو يٌسرق معه وجه أمّي؟

مقالات ذات علاقة

قصتان قصيرتان

غالية الذرعاني

اليباس

عمر أبوالقاسم الككلي

ترحّل

محمد دربي

اترك تعليق