النقد

هل لدينا نقاد؟

نحن أبناء اليوتوبيا البررة ليس لنا سوى أن الغد أفضل، رغم هذه الكآبة الظاهرة، رغم موت المؤلف..

1- مقدمة أولى

أليس من المعقول أن نتساءل قبل هل لدينا نقد ما دمنا نتساءل عن وجود نقاد؟، فمن المنطقي أن نبحث عن المقدمة لكي نتساءل عن المحصلة، فالباحث يبحث عن المتخفي من خلال المتجلي.

لكن ما دمنا نتساءل عن النقد الأدبي على الخصوص أليس- أيضا- من المفترض أن النقد الأدبي هو جزء من كل هو النقد عموما، وبالتالي نتساءل قبل عن النقد عموما بالمعنى الفلسفي والفكري، باعتبار أن النقد الأدبي – الجزء من الكل؟.

النقد الأدبي لا بد أن يستند على مرجعيات عدة فلسفية وفكرية، ولهذا فإن العقل النقدي المنتج لمناهج نقدية فكرية وفلسفية وعملية هو الذي يقدم هذه المرجعية والتي من الضرورة بمكان لا نتاج نقد أدبي، هذا النقد الجزء الذي جعلنا في سرير بروكست. فالسؤال عن غيابه غيب كل أسئلتنا الأولية ولزوم ما يلزم، وتم بالتالي استعباد هذه الأسئلة الضرورية منطقيا وموضوعيا.

وكثيرا ما وجهنا اندهاشنا لهذا النتاج (النقد الأدبي) باعتباره إعادة إنتاج لمقولات فكرية غريبة وحتى استعمارية!، ولمناهج جاهزة تم إنتاجها ضمن معطيات إبداعية مختلفة، وسوف أتجاوز عن وهن وسفه مثل هذا الاعتبار، لأن السؤال الأهم لا يزال يدق الباب ومن اللازم – وبعيدا عن أي اعتبارات، أن نفتح الأبواب حتى يمكن تحديد الأولويات المنطقية للتساؤلات، لأنه ما لم يكن السؤال صحيحا فإن المقدمة المغلوطة تقفل الأبواب، وبالتالي يكون الاختناق وهو ديدننا كمثقفين حين نكرر مقولات سطح الظواهر والمعطيات الجاهزة.

كل كاتب حزين يمضغ الماء حول غياب النقد، وكل مبدع خلاق موجع بهذا الغياب.

ورغم أن الإبداع المتجلي في السردية والشعرية والتشكيلية يمارس النقد باعتبار أن كل إبداع حقيقي هو عمل نقدي، فإن المبدع يرغب أن يتجلى عمله الإبداعي من خلال نقد عقلي يحلل ويفكك نتاجه، ما يربكه أن مثل هذا الشغل غائب أو مغيب، مؤجل ولم يتجل بعد، غير أن هذا المبدع لا يقف مكتوف الأيدي أمام هذا الغياب، لهذا هو الذي رأى سيطرة النقود، نقود السوق وتغيب نقود العقل،وتغييبها تم لأنه لا يمكن تزييفها تحت أي معطيات فإذا حضر النقد وحضر العقل فإنه ليس ثمة تزييف، قد يكون المنتج النقدي العقلي مغلوطا لكن ليس ثمة نتاج مثل هذا مزيفا.

هكذا إذا السؤال حاضر من خلال العمل التأويلي وغائب من خلال العمل البرهاني، فليس الأمر بحاجة لعقل فذ ليتبين مدى ما نحن فيه من فوضى وتشوش وظلامية من أثر هذا التغييب. وعلى ذلك فإننا نجد من دواعي الأسى هيمنة اللاعقلانية وقدرتها التوكيد على إعادة إنتاج نفسها. وتكرار مقولاتها السطحية والغبية والساذجة وتسويدها لكل بياض من ورق ونفس.

لقد طردت الإجابات الدوغمائية الأسئلة وأعادت إنتاج إجاباتها الجاهزة مقنعة في أسئلة، فليس كل سؤال سؤال كما أن ليس كل إجابة إجابة.

قد تبدو هذه التقدمة شافية، وإنه يمكن أن تكون قابلة للمراجعة بالزيادة أو النقصان لكن الحق أنها تقدمة وحسب تفتقد التعليلات، المشكل الفلسفي ظاهر للعيان وهكذا تقدمة منهجهاً للتحليل الوصفي الذي يظهر وكأنه يخاف من الغوص في واقع المشكل، بمعنى مناقشة هذه المعطيات وحسب، أي بالبحث في العلة طالما تبينا المعلول وبالتالي العود الأبدي للسؤال، هل أن العقل النقدي يسبق المعرفة بالمشكل، باعتباره هو الذي يحلل الظاهرة أي باعتبار أنه لا يمكن تحليل مشكل دون عقل ناقد – للزيادة في الشرح – ، أو أن المشكل ينتج عقلا ناقدا يحلله؟.

إن الحقيقة أو البيضة والدجاجة – هذه المرة – في سلة واحدة.

كيف ذلك؟ سيقول قائل أن لماذا الذهاب بعيدا نحو السبق للفكرة أم للواقع؟ وهذا السؤال صحيح، نعم لماذا نذهب كل ما تناولنا ظاهرة ما إلى الجوهر الذي هو كامن ضمن المعطيات؟ اسمحوا لي ببعض الهرطقة وبعض التفلسف الذي صار اليوم من دواعي الذم لأن الإجابات الجاهزة تغلف عقولنا، ومعاناتنا اليومية والفكرية تجعلنا بالضرورة نبحث عن راحة البال وإراحة العقل أو المزيد من الغياب.

أقول عود على بدء أليس العمل التأويلي عمل نقدي كما قلت؟ و أليس ما أقوم به في هذه الورقة أو التقدمة هو تحليل وصفي أشار إلى ما تشير إليه كل الإصبع المبدعة؟ فإذا كان الأمر كذلك، أي أنني أسلم مع القائلين بغياب النقد الأدبي أو تغييبه كنتيجة لتغييب العقل النقدي، فهل هذا يكفينا ويكفي المؤمنين شر القتال، أم أنه على العكس يلزمنا بالبحث في هذه العلة؟.

لنبدأ من نقطة أخرى، لقد لاحظ الكثيرون أن الكتابة التأويلية بدأت ظاهرة للعيان، كما لاحظ البعض أن ثمة شغل يوسم نفسه بالنقد هو ما تجلى في الانطباعية أي الاعتماد على الذائقة في تقويم العمل الإبداعي، كما لاحظ البعض أن هناك منتجا نقديا يعتمد المناهج الإحصائية الجاهزة والأكاديمية(المدرسية)، كما لاحظ غيرهم أن هذا نزر قليل وأن حتى هذا بدا غائباً، وثمة من أخذته العزة بنفسه ولاحظ وتساءل حول عمله الذي لم يتناول نقديا، ودلل بهذا أن ليس ثمة نقد. وهذا كما لاحظت – وكذا – غيري يدلل على غياب النقد العقلي وعلل هذا الغياب لأسباب سياسية محض، وأنه ثمة من أضاف عاملا هاما هو عند أفراد منهم مشكل البنية العقلية، وعند غيرهم مشكل البنية الاجتماعية وعند آخرين مشكل  البنيتين معا. وأن هيمنة السياسي كانت الاتفاق بين هؤلاء، فالسياسي قد أمم العقول ووسمها بالهبل، فكل عقل ناقد هو عقل هدام بالضرورة، وعلى هذا الاعتبار سيطرت السلطة لتسيس الأمور كلها.

لكن سيقول قائل أليس هذه الملاحظات وهؤلاء الملاحظين هم بناة العقل النقدي؟

أليس السائل لسؤال حقيقي هو يمارس العقل النقدي، بغض النظر عن نظرته من أين وإلى أين؟ لهذا السائل سأقول أن سؤاله هو أيضا إعمال للعقل النقدي؟. أي أن أدركنا لهذا التغييب هو العمل العقلي النقدي الذي يتوجب الغرق فيه دون وجل من البلل، فإن الاستزادة من العلم علم، فالإبحار ي تحليل المعطيات الآنية والتعمق فيها وتفكيكها وتقليبها هو المعطى الأول لاستعادة هذا التغييب ولكن بتحرز أن الذهاب في المعطيات الأولية هو الذي بحاجة أكثر لمجداف العقل النقدي.

وإذا ما تأملنا النقدية كعمل إبداعي فإنها كما كل إبداع يكون فيها الخاطرة كما الخاطرة في الفلسفة تمهيد للأطروحة ولنقدها ولمرفوعها، وعلى هذا فإن الانطباع حس نقدي يتجلى حقا من خلال التحليل ثم في مستوى آخر من خلال منهجة نقدية.

هكذا سأبدو عند الكثيرين أني أضع إجابات لافتراضات أخذتها من أفواه الآخرين، الكتبة الشفويين، أو من خلال التحليل التوصيفي الذي وسمت به هذه الورقة وكذا نفسي، لكن لكل ظاهرة مستويات عدة من تجليات عدة. للدارس أن يتأملها وأن ينعش عقله بما هو واضح فيها دون أن يستغرقه الوضوح الذي يعمي البصيرة.

وهكذا يبدو من الواضح صحة أسئلتنا، لكن من الغامض أننا لم نتلمس هذا ضمن معطيات تحليلية لمفردات المشكل الذي نتعاطى، فالنظرية الأدبية أخذت بعض نقادنا عن النقدية التطبيقية وهذا يوجع كتابنا أليس كذلك؟.

لا يجب أن نعتبر هذه الورقة مجمل قول فما نحن بصدده مفرداته متفردة وتجلياتها غامضة، وإسرافنا في إرجاع ظاهرة ما لعامل أحادي الجانب السياسي مثلا، هو دليل قصر نفس وقصور عقل، فالنقد الذي نمارس نقد للنقد وهكذا يبدو وكأن سؤالنا يبرز الظاهرة أي يتجلى في حس نقدي، فإن نتحدث عن غياب النقد فإننا نمارس نوعا من النقد، لكن هذه الأسئلة لابد أن تتجلى من خلال أعمال نقدي مكتوب نبتغي البحث عن مرتكزاته بمراجعة هذه المقدمة من خلال حسبناه غير نقدي، فالتراث الحديث لأي ثقافة لا يتم دفنه أو أحيائه من خلال مقولات مطلقة ميتافزيقية الطابع وبالتالي تعسفية.

نحن ملزمون من أجل أن نتساءل أن نبحث، ومن أجل مقولاتنا أن نتحرى وأن نحقق حتى لاتبؤ المهمة النقدية التي نبتغي إلى تكريس اللاعقلنية إلى استعباد العقل النقدي ونفشل. فحتى الآن تبدو المقولات معزولة عن المقدمات، فمبحثنا يتم بالمصادرة عن المطلوب أو كما يقول المناطقة، حيث أن السؤال في هذه الحالة يظهر كحكم قيمة استعبادي، فما لا نراه وما لا نلمسه لا وجود له إطلاقا أليس هذا النكران مطلقا ميتافيزيقيا وأنه لا عقلي ولا نقدي.

إننا ملزمون منهجيا أن نستنبطن ونستقرئ الظاهرة التي نبحث، إن أي توكيد على أي مقولة هو دوغما بغض النظر عن صحة هذه المقولة من عدمها، وأن صحة المقولة لا يبرر الاستعباد والنتائج غير المعللة. ولهذا يجئ حقنا في أن نقول ما نقول بأن نكتب أن الحقيقة ليست في متناول ألسنتنا بل هي شغل شغل عقلنا وفعل يدنا بالكتابة التي تنقض الجاهزية وتقلب التراب، ولا زلنا حتى الساعة بعيدين عن أن نصدر أحكامنا بأسئلة وثوقية اتجاه ما تم تدوينه، ولا زلنا حتى الساعة نظن أن مهمة المبدع التأويلي أن يطرح نتاجه على الورق في انتظار غودو ومبضعه الكشاف، ونلغو بحاجتنا لمصباح ديوجين.

المفارقة أننا نوكل مهمتنا لغائب مفترض نراه في المرآة ونغفله كسلا وتقاعسا، ونركن لأحكام القيمة المطلقة التسفيهية التي تجعل كل أخر هو سبب علتنا، هو لم يقم بدوره حقا، هو يقوم باستعمارنا وينمي تخلفنا عن دورنا، هو يهيمن ويستعبدنا عن القيام بدورنا، هو يقصي عقولنا ونقودنا ويخصي دورنا بالمرة.. هكذا تصورنا للآخر الذي نعيد إنتاج فعله بتحولنا لمفعول له ونؤكد على استعباده لعقلنا الناقد بأن النتيجة – محصلة كل هذه المعطيات والحسابات – إلغاء السؤال حقيقة وجودنا، المهمة الدور، ونخفق في التفكير بجسارة عاجزين عن الإبداع، غياب النقد بمعنى ما غياب للإبداع، نملأ الدنيا بطنين كلمات طويلة ولحي طويلة ونتركها كما وجدناها وأحيانا أسوأ، والالتباس الحاصل حول تغييب العقل النقدي حاصل لتغييب الدور لما تم إعلان موت المثقف حتى بات هؤلاء (يستطيعون أن يتصوروا عوالم المستقبل تكون – على نحو دال- أسوأ مما يعرفون الآن، لكنهم لا يستطيعون تصور عالم يختلف اختلافا أساسيا عن الحاضر الذي هم فيه، ويكون أفضل في الوقت ذاته، وعندهم أن ما هو ضروري لا جدوى منه في الوقت ذاته، ولم يعد عندهم مجال، بأنه كي تكون واقعيا عليك أن تطلب المستحيل).

هكذا تبدو الصورة الخاصة قبل، والصورة العامة بعد سقوط اليوتوبيات الكبرى، بالذات بعد أن إنغرس سكين الزبدة في جلد الفيل يوم 11 سبتمبر الماضي.

2- مقدمة في النقدية الشعرية الليبية

لم تكن الممارسة النقدية ضمن الحالة الإبداعية الليبية في نهاية القرن التاسع عشر سوى ممارسة تقليدية تهتم باللغة كقواعد وبالبلاغة أي أن تكون الألفاظ قوالب للمعاني في سبك وجزالة، وبالجانب المعقول للاستعارة والمجاز.

لهذا فإن النقدية كانت في الهامش، والممارسة النقدية تتم في إطار الندوات والمحاورات الشفهية، خاصة في الزوايا السنوسية والمعاهد الدينين. لكن مع ظهور الصحافة في منتصف القرن التاسع عشر بدأت المقالة النقدية تبرز بين الحين والآخر لكن لم تخرج عن ثوب العرض والاهتمام بقواعد اللغة والبلاغة التقليدية.

واتخذ النقد آنذاك نظرية الشعر العربية السائدة التي تعطي بظهرها للنص لتهتم بالشاعر وبمقارنته بالشعر الآخر وبالمعاني باعتبار هذا هو مقياس الشعري، بالإضافة لذلك فمفهوم النقد انحصر في أنه طريقة للتفكير في المنتج الشعري من حيث ارتباطه بالموضوعات السائدة والمقايسة على ذلك وأن الشعر نسج على منوال. والنقد في هذا أيضا هو هامش للنص الإبداعي وفي أحسن الأحوال لزوم مالا يلزم، فالكتابة النقدية تعليق على أصل وما ليس بأصل هو إطار يمكن الاستغناء عنه، وبقدر الحاجة إليه ليس بضروري. وقد جاء هذا الحكم القيمى نتاجا لتغيب العقل النقدي في الفكر العربي عموما آنذاك، وبدأ وكأن النقد المضمر بين طيات المجاز والاستعارة والذي تتكفل به الشعرية يكفي.

ولم يكن ثمة ناقد للشعر غي الفقيه الذي يقوم بهذه المهمة، ثم في مرحلة تالية ترك الفقيه للصحفي المهمة، والملاحظ أن غياب الفقيه عن المشهد الإبداعي جاء بعد مرحلة إصلاحية دينية كان للزوايا السنوسية والمعاهد الدينية الدور الكبير فيها. فلقد اهتمت هذه الزوايا بالشعر وبالعود للبدء واتخاذ القصيد العربي القديم مرجعية للنهوض بالذائقة الإبداعية، ما هو مهم أنه تم التركيز على البلاغة القرآنية، ومن ناحية أخرى أعيدت للشعر الفصيح مكانته بإعادة الاعتبار للتدوين.

القراءة والكتابة وتحفيظ الشعر القديم منه والحديث مثل شعر المتنبي والبارودي والنسج على منوال الأخير من طلاب العلم في الزوايا المنتشرة في الصحاري والبوادي. كان العمل الإصلاحي الديني يتم باستعادة تجربة السلف الصالح، ولهذا فإنه في هذه المرحلة بين المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر والعشرية الأولى من القرن العشرين مهدت السلفية المحدثة لتحديث الفقيه من ناحية ولإنزياح دوره من ناحية أخرى.

وقد تداخل في تلك المرحلة دور الناقد بدور المصلح فانتقلت هذه المهمة من الفقيه إلى الصحفي الذي يبدو أنه أول من وضع الخطاطة الأولى للمفاهيم النقدية الحديثة، والذي رسم دور الناقد على مسرح الثقافة العربية في ليبيا.

إن هذا الأداة، أداة الاتصال، الجريدة، مسرحت مهمة الكتابة والملامح الجديدة للملتقى، وبذا انزاح دور الجامع والزوايا، وكانت المقالة الجنس الأدبي الذي أخذ مكانة الخطابة، لقد جد خطاب ووسيلة جعلا من القصيدة نصا مرئيا تفك رموزه العين التي لا يشدها وزن ولا تشدها قافية وما في حكم ذلك.

لقد جد خطاب يشك في معقول سائد ووسيلته – لذلك – وثيقة جماهيرية جعلت الملتقى الأبرز والأهم، القارئ. وهذا الخطاب محموله قلق فهو نتاج لصدمة حضارية وحراك اجتماعي واستعمار لم تطل مدة إقامته إلا أقل من ثلاثة عقود، لهذا ظهر النص الشعري قلقا ووسيلة لموضوعات يمكن أن تحفظها ذاكرة شفوية بعد.

وحين طبع أول ديوان شعري ليبي في عام 1892م، لم يلق اهتمام اهتماما نقديا إلا في ثنايا المقالة الصحفية التي اهتمت بالجانب الوطني فيه، واعتبرت هذا الصدور منحا من مناحي بروز الهوية. وبقى الديوان في خزانات الكتب حتى فترة الثلاثينات عندما قامت الكلاسيكية الحديثة بمراجعته في إطار مبحث الهوية، ولكن من زاوية أخرى هي زاوية أطروحتها التجديدية للقصيدة ولعمود الشعر العربي، ومراجعة لتصفية الحساب مع السلفية المحدثة، حيث النسج على المنوال أي إعادة تصدير النص القديم الجزل والمسبوك هو تعبير عن افتقار ونزعة جمود ترتهن للماضي باعتباره الفردوس المفقود وتغفل الفرد والنزعة الشخصية وتصادر الإدراك بالبحث في ماضي معلوم مخافة مستقبل مجهول.

كانت النزعة الشخصية ومدرسة الديوان الشعرية العربية قد تجسدت في القصيدة الكلاسيكية الحديثة الليبية وشاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي 1898-1961م في شعريته ومقالته النقدية والصحفية الساخرة، التي صاغت بيان الحديث في النهضة الليبية شعرا ونثرا في الصحف المتعددة الصدور منذ مطلع القرن العشرين. وفي متون هذه الصحف نشر التراث الحديث للثقافة العربي في ليبيا، وفيها ظهر المقال النقدي الأدبي على استحياء، فمعارك النهضة الفكرية ظهرت في صحف يتصدرها البيان الفاشي للحضارة الغربية، والقمع الحداثوي الغربي يستخدم أحدث الوسائل الإستبعادية للثقافة الوطنية. لهذا كان النص الشعري لسان حال وظهرت النزعة الشخصية متلعثمة ومترددة يثقلها تراث كلاسيكي عربي هو ديوان الهوية الشعري، وثقافة شفهية النزعة يعاضدها عدم القدرة على فك الخط العربي بانتشار الأمية. فانبرى للنقد في هذه المرحلة الشاعر نفسه الذي اتخذ من ذائقته منهجا ومن رؤيته مذهبا، والذائقة في هذا الحال حكم قيمة، الشعرية عندها معقولة وشخصية في نفس الوقت، مكتوبة، وتحفظها الذاكرة، الشاعر فيها خفي والمتجلي تضاريس الجماعة، والمهمة النقدية تسوغ هذه الشعرية وليس تحللها، فالنص ثوب مقاسه عام والنقد على هذا المقاس يبحث عن المعقول ليصوغه، والشاعر حر بقدر ما نصه محمول بحرية الآخرين، الحرية القومية ذات المنحى التحرري.

تحرر النص النقدي من تبعية إصلاحية لكنه تسربل بالتحرر ثوبا، هو مقالة الذائقة التي يتذوقها الجميع ويحسها الفرد ويعقلها الفكر النهضوي الثنائي النزعة.

لكن هذا التحرر لم يكن كافيا لهذا بدأت تظهر نظرات نقدية تشكك في وتعارك هذا الطرح ذي النزعة الشخصية التحررية العامة، التي تأخذ بيد ما تعطيه باليد الأخرى للفرد.

وفي هذا نجد مقول نقدي نظري يتلمس مفاهيم رومانتيكية، يتخذ المنحنى الانطباعي النزعة للتحرر من ذائقة يسوغها السائد والمعقول، وتستعبد الفرد حين تجعله في كل وفي الأهداف الاجتماعية لهذا الكل.

إن الطرح النظري للرومانتيكية بدا يظهر مع العقد الثالث للقرن العشرين، وقد سمى الشاعر أحمد رفيق المهدوي مريدي هذه المدرسة، (المتجبرنون). وتجلت الجماعة في إبداع نقدي تحليلي انطباعي، وفي كتابة الدراسة النقدية والترجمة وكتابة المقالة القصصية ثم القصة القصيرة وفيما بعد في كتابة أولى للرواية. والحداثة هذه فيها الفرد فم الجماعة من حيث هو، شابي وجبراني لا بالنسج على منوالها بل بالاختلاف عنهما أي أن يكتب الشاعر نفسه المطلقة التحرر من الآخر أيا كان هذا الآخر وفي هذا حتما هو فم الجماعة، وبيان الحداثة هذا، ثالوثة أفلاطوني النزعة: الخير، الحق، الجمال.

وظهرت أهم دراسة في الشعرية الليبية حول شاعر الوطن قام فيها الناقد – خليفة التليسي – بتصفية حساب مع المدرسة الكلاسيكية الحديثة ذات النزعة العقلية (التي تسيطر على نفوسنا، وتقتل في الفنان ما تتميز به نفسه من صبيانية في استقبال مشاهد العالم، وما يحيط بها من مشاعر الدهشة والتعبير الحر الذي لا يلتزم أحكام العقل. ولهذا فإننا في حاجة إلى أن نتمرد ولو قليلا على هذا القيد.. هذا العقل.. وإن نمنح لذواتنا المزيد من الحرية في التعبير عنا).

هذا ما جاء في بيان الحداثة الليبية النقدية أو كما قال الناقد خليفة التليسي، ولم تكن هذه الحداثة تعلن قطيعة بل تؤسس لهوية مشوبة بقلق وتتمظهر في علاقة واهية بقديم التراث وفي حل من حديثه. لقد كان الناقد العين الثاقبة التي ترسم الطريق، فالبلاد لم تكن مركزا يثقلها تاريخا بل هي هوية جديدة تستمد تضاريسها من محتل ومقاومة لهذا المحتل لمدة ثلاثة عقود، ومن بين هذا نشأت ليبيا الحديثة. كان الجديد فيها أن تكون في العصر، وبالتالي استطاع الناقد أن يكون الحداثة التي هي في شكلها الأعظم طموحا كانت التأكيد أن الإنسان هو ما يصنعه (وأنها لا ترتكز على مبدأ وحيد، وأقل من ذلك على مجرد هدم العوائق أمام سيادة العقل، إنها مصنوعة من الحوار بين العقل والذات. الذات دون العقل تغدو حبيسة وسواس هويتها، والعقل دون الذات يغدو أداة القوة) أو كما قال الآن تورين في (نقد الحداثة – الحداثة المظفرة).

إن نقد الشعرية الليبية لم يتبلور ولم يبلور شيئا، وإن رسمت ملامح عامة لوجه إنساني، هذا الوجه قد يكون وجه جبرين الذي وجد منحوتا في جبال تاسيلي قبل أي حضارة أو هذا الوجه الذي ترسم خطوطه وتمحوها في نفس الوقت رمال الصحارى الكبرى.

____________________

مجلة الفصول الأربعة- تصدر عن رابطة الأدباء والكتاب الليبيين- السنة: 24-العدد: 99-التاريخ: 4/2002-تصدر كل ثلاثة أشهر

 

مقالات ذات علاقة

قراءة في رواية “رحيل آريس” للكاتبة الليبية د. فاطمة الحاجي

المشرف العام

قراءة في نهارات لندنية

المشرف العام

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (6) .. ليل المتاه ومعراج الصمت

المشرف العام

اترك تعليق