طيوب عربية

نظير شمالي في حيفا 5-10-2017

آمال عوّاد رضوان

 

برعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني/ حيفا، أقام نادي حيفا الثقافي أمسية في قاعة كنيسة مار يوحنا الأرثوذكسية في حيفا، بتاريخ 5-10-2017،  وسط حضور مميز من مثقفين وأدباء وأصدقاء ومهتمّين بالأدب، احتفاءً بالأديب الباحث العكّي نظير شمالي وكتابه (رقاعٍ إلى صلاحِ الدينِ)، وبعد أن رحّب بالحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس ومؤسس نادي حيفا الثقافي، عُرض فيلم قصير بعنوان  لمسة وفاء”، لطيّبة الذكر ابنة عكا الأديبة سميرة عزام، ثمّ تولت عرافة الأمسية سلمى جبران، ، وكانت مداخلات نقدية جادّة لكلّ من: د. فهد أبو خضرة ود. صالح عبود، تخللتها مداخلة فنية الفنان نزار بغدادي من فِرقة الغَجَر، وقراءات شعريّة مميزة مع المحتفى به نظير شمالي وابنتِهِ غُفران شمالي يونس، كما ازدانت أرجاء القاعة بلوحات معروضة تدمج بين الصورة ونصوصِ نظير شمالي الشعريّة، ثم قدم شيخنا الأديب حنا أبو حنا ود. فهد أبو خضرة والمحامي فؤاد نقارة درع تكريم للمحتفى به، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة!

مداخلة العريفة سلمى جبران: مساؤكم مَحبَّةٌ وعِطْرٌ وَوَفاء، وشُكرًا للحضور الجميل والشُّكْر أوَّلًا لنادي حيفا الثّقافي مُمَثَّلًا برئيسِهِ المُحامي فؤاد نقّارة والناشط الثّقافي المحامي حسن عبّادي اللَّذَيْنِ يعملانِ فيُبدِعانِ بلا حدود وبمحبّةٍ وعطاء. وشكرًا لكلِّ من يعملُ على إحياءِ هذا الصَّرحِ الرّائد تحتَ رعاية المجلس المِلّي الأورثوذُكسي برئاسة السيّد المربّي جريس خوري، وشكرًا للسيِّد فضل الله مجدلاني القائم على كل الترتيبات التِّقَنِيَّة..

بعيدًا عن متاهات التاريخ وعنِ التِواءات الحُكْم والحُكّام، نُسافرُ معًا في بحْرِ عكّا وفي زواريبِها وأقْبِيَتِها، ونُخْرِجُ لُؤلُؤَها ونُقوشَها، ونُحَلِّقُ معَ روحِها التي رفْرَفَتْ في سماءِ الشمال والجنوب والغرب والشرق، وكانت فَنارًا لحضارةٍ لا تموت مُنذُ آلافِ السِّنين. وها هو ابنُ عكّا الأصيل الباحث نظير شَمالي يأتينا شاهِدًا على مجدِها، وحاميًا لكل ما تبقّى من تراثِ عكا العِمرانيّ والمدَنيّ والشّعبيّ، شاهرًا الكَلِمة والصورة لتقولَ لكلِّ العالم: نحْنُ كُنّا هُنا ونحْنُ الآن لا زِلْنا هنا، أَلَمْ تَقُلْ: “أنا أُحبُّ عكّا.. أعشقُها.. أعشقُها حتى النُّخاعْ.. على ترابِها وُلِدتُ.. وفيها أتمنّى أن أموت، وما دامت عكا حبيبتي فلن أموتَ أبدًا، لأنَّ هذه المدينة الصابرة الرائعة المدهشة الغالية، تغذي الروح وتبعثُ في النفسِ الحياة والأمل”. إليكَ منّي هذه الكلمات التي كتبْتُها عندما عِشْتُ عكّا مع مسرحيد “في زاروبِ عكّا” للفنّانة ابنة عكّا الأصيلة سامية قزموز بَكْري:

أَعيشُـها كـَما يعيشُ لاجئٌ في “أرضِهِ”، فلا أَرضَ لهُ فيها ولا سَما/ وعِشْتُ غُربتـي أَبحَثُ عنْ غربتِهِمْ فصارَ كَأسي عَلقَما/ هل تقبلينَنِي يا أُختُ في  “زاروبِ” عـكّا في الحِمى؟/ أَعيشُ غربـةً ثانيةً أَجني بها محبَّةَ الأوطانِ موسمًا فموسِما

أمّا عن الكِتاب “رِقاع صلاح الدّين” فقد قَرَاْتُهُ وعذَّبَتْني بُكائيّاتُهُ على الشّرْقِ العَرَبيّ، حتى أَنشَدْتُ مع أحمد شَوْقي:  نَصَحتُ وَنَحنُ مُختَلِفونَ دارًا/ وَلَكِنْ كُلُّنا في الهَمِّ شَرقُ

د. فهد أبو خضرة: الآن أترك الحديث عن الكِتاب لروّاد هذا المِنبَر ونبدأ بشخصيّة الشاعر الأكاديميّ ابن قرية الرينة الجليليَّة الذي عَمِلَ في التدريس، ثم عَمِلَ مُحاضرًا في جامعة حيفا، وفي كليَّة إعداد المعلمين العرب في حيفا، وهو صاحب عدّة دواوين شعرية ورواية بالإضافة إلى العديد من الأبحاث اللغوية والكتب التدريسيّة. من أعمالِهِ الشعريّة: الزنبق والحروف، البحث عن أجنحة، النسور، كتابات على طريق الوصول، مسارات عبر الزوايا الحادّة وحلم ليلة ربيعية. ورواية الليل والحدود.

د. صالح عبود: ولد في حيفا وترعرع في قرية عيلوط. حصل على لقب دكتوراة في اللغة العربية من جامعة حيفا عام 2013. يعمل مدرِّسًا للغة العربيّة في مدرسة عيلوط الاعداديّة ومحاضرًا في كليّة “عيمق يزراعيل” الأكاديميّة. له مجموعة “ديمة ربيع”، هي باكورة إنتاجِهِ الأدبي، وهو كاتب مهتمّ بالأدب والفِكر والنّقد.

مداخلة د. صالح عبود: رقاعٌ إلى صلاح الدّين: يا صلاحَ الدينِ عكّا/ قدْ وَفَتْ عَهدًا وَصَكَّا/ أَنجَبَتْ في السّورِ صَبرًا/ دَكَّتِ الضّغناءَ دَكَّا/ سَاحِلًا فيها أرَاهُ/ قَدْ غَدَا للسّورِ وِرْكا/ سُورُها بَأسٌ وَأنْفٌ/ في ذُرَى الأمجادِ حكَّا/ علَّمَ الأعداءَ دَرسًا/ مزَّقَ الأنواءَ فَكَّا/ حُسْنُكِ الجَذَّابُ غَضٌّ/ لَم يُصبْهُ الدَّهرُ وَعْكا/ قَدْ كُفِلتِ في رِجالٍ/ كُلُّهمْ ضَحَّى وَزَكَّى/ كَيْ تَدومي في صُدورٍ/ أَمنَ حَقٍّ ليسَ شَكَّا/ قَدْ كُفيتِ في نَظيرٍ/ ذِمَّةً حُبًّا وَنُسْكَا/ فالنَّظيرُ في هواكِ/ صَنَّفَ الأقوالَ سَبكَا/ مُدرِكًا أنَّ الحياةَ/ في هَناءِ العيشِ عكَّا/ في هَوى عكَّا نَظيرٌ      قانتٌ قدْ كَفَّ شِرْكَا (مجزوء بحرِ الرمَل).

السيّدات والسادة، مجموعةُ رقاعٍ إلى صلاحِ الدينِ، توليفةٌ شعريّةٌ عكّيّةٌ سورُها وجعٌ وساحلُها تأوُّهُ ومِدادُها الدّماءُ السائلةُ من دواةِ الرزايا، تَشرأِبُّ حروفُها رغمَ غرقِها في سحابِ البلايا، تَعزفُ نشيدًا سُباعيًّا وَموتًا وَغَصبًا إيقَاعيًّا يُكفِّنُ الواقعَ في بلادِ صلاحِ الدينِ الخصبةِ بكفّارِها ومنافقيها وطوابيرِ الخونةِ والمارقينَ والمرتزقةِ من علوجِ التاريخِ الذي عجَّلَ بِهمْ إليها، حتّى غدتْ مثوًى لهم وَمُقامًا.. تقعُ مجموعةُ أخي وصديقي الشاعرِ والبَحّاثةِ الأصيلِ المتأصِّلِ نظير أحمد شمالي ضمن ستّينَ صَحيفةً تضمُّ سبعَ قصائدَ هي على الترتيبِ الذي كسر فيه الشاعرُ التتابع الزمانيّ لنظمِها وتأليفها: القصيدةُ الأولى بعنوان: “لفاطمةَ أغنيةٌ موقوتةٌ في مخدعِ السلطانِ”، وهيَ مخاضُ عامٍ وأشهرٍ ثلاثةٍ على وجهِ التقريبِ، تترامى في أربعةَ عشرَ مقطعًا، كلُّ قطعةٍ منها تتناولُ صورةً شعريّةً دقيقةً تُفصحُ عن الحالِ العسيرِ المُتوعِّرِ والواقعِ الكؤودِ العُضالِ الذي بَلَغهُ الوطنُ العربيُّ، ورزحَ تحتَ سلطانهِ الصّفيقِ المَوْبوءِ.. يستهلُّ شاعرُنا العكّيُّ المتسوِّرُ قصيدَتَهُ ومجموعتَهُ بالصورةِ الشعريّةِ القاتمةِ الآتيةِ، فيقولُ: “يا فاطمة! أيُّ ليلٍ داهمٍ نَحنُ فيهْ؟! والعُمرُ منَّا قد تهاوى قبلَ إطلالِ الصباحْ! مِزَقًا مِزَقًا تَشَتَّتْنَا مِنْ بعدِ بأسٍ شديدْ! أيَا وطنًا تناوشتهُ أنيابُ الذئاب! مَنْ عاثَ في الوطنِ “المفدَّى” الفسادْ! مَنْ مزَّقَ الوطنَ الممتدَّ كالبحرِ تحتَ شمسٍ لا تغيبْ؟! مُستَضعَفينَ أصْبحنا، نِعاجًا لا تُقاتلْ!! أشدَّاءُ أمسَينا إذا قاتلَ بعضُنا بَعضًا، وفي سيوفِنا حلَّتْ حُمَيَّا الدماءْ، رُحماءُ إذا طلَّ التتارْ! وسيوفُنا بوجهِ التتارِ قدْ غدَتْ لعبةً منْ خَشَبْ! كَغُثاءِ السيلِ صِرنا بعدَ عِزٍّ واقتدارْ، نَعامًا ندسُّ الرأسَ في الرملِ جُبنًا في وَضَحِ النّهارْ!”..

يصوّرُ شاعرُنا العكّيُّ في نصّهِ الفاتحِ دُجْنةَ الواقعِ العربيِّ وإسوادَدَهُ، فيأتي على تشيّعِ العربِ وتفرّقِهمْ، ويذكرُ نزفَ الوطنِ المستديمِ في ليلٍ نجومُهُ العلوجُ وكواكبُهُ الكُرَبُ المتهاويةُ، في وطنٍ يُطيلُ لَيلَهُ هديرٌ من دماءِ المواطنينَ الفئرانِ، الذين سامَتهُمْ محاكمُ التفتيشِ العربيّةِ الوطنيّةِ نارَ الهزائمِ والانكساراتِ النفسيّةِ الغالبةِ/ والمواطنُ الذي يصهلُ مُهرًا وقهرًا عربيًّا أصيلًا، يُفَدْفِدُ فوقَ مروجِ تاريخِهِ حالمًا بزمانٍ لمْ يُغادرْ ذاكرَتَهُ المتحصّنةَ بالنسيانِ، والوطنُ يَئِنُّ وَيَستَعبرُ من حالِ الفُرقَةِ وقيودِ الشوكِ وعرباتِ الجنودِ.

يصوِّرُ الشاعرُ في سياقِ قصيدتِهِ الاستهلاليّةِ في مجموعتهِ “رقاعٌ إلى صلاحِ الدينِ” صورةَ العربيّ المنفيِّ المطرودِ من وطنهِ الذي لم يبقَ منهُ إلّا نشيدٌ وعلمٌ وطاغيةْ، فيستعيدُ ضمنَ مجالاتِ ذاكرتهِ الصّدئةِ المحترقةِ ببرودِ الوطنِ، ومن خلالِ بصيرةِ شاعرٍ  يتألّمُ ورقُهُ من وجعِ الكلماتِ، وتبكي حروفُهُ من حُرقةِ البداياتِ وفَجعةِ النهاياتِ، وهوَ يخاطبُ نفسَهُ أكثرَ من مرَّةٍ واحدةٍ، وذلكَ شأنٌّ جليلٌ فيهِ، فيقولُ: “أُدعى عليَّ بنَ عُصفورْ”، ثمَّ يُردفُ: “أجلْ أُدعى عليَّ بنَ عُصفورْ”، وتراهُ يعلّلُ اسمَهُ ونعتَهُ ونسبَهُ تعليلًا يقتحمُ القضيّةَ ويُجملُ البيّنةَ أيَّما إجمالٍ، فتسمَعُ مِنهُ زقزقةً رقيقةً يقولُ فيها: “أجلْ، أُدعى عليَّ بنَ عُصفورْ، – لا، لم تَخُنّي الذّاكرةْ-، كالعصافيرِ كنتُ أجوبُ البلادَ بلادي بطولٍ وعرضْ، وأهلي أَسْمَوْني عَلِيًّا كما النفوسُ الأبيّةُ في المعالي”، فيجتمعُ في قناعِ الشاعرِ رجلٌ علويٌّ يستعلي في معالي الوطنِ والسماءِ، ولا تكتملُ عَلَوِيَّتُهُ إلّا بفاطمةَ التي نُحرَتْ مرَّتين: مرّةً بسكّينِ غدرٍ، بَعدَ أنْ قرَّبَها أهلُها قُربانًا دونَ أنْ تدمعَ لهمْ عينٌ! فتبّتْ يدُ قومٍ قتلوا فاطمةَ ولم يَرْعَوْا فيها ذمّةً ولا إلًّا.. فاطمةُ البغداديّة العربيّة الشاميّة، يستبيحها مع كلِّ عصرٍ جحفلٌ من مُغُلٍ جُدُدٍ، يظهرونَ بأسماءَ وَبِزَّاتٍ عسكريّةٍ حاقدةٍ تَحشْرجَتْ مِن سُمومِها وَكُرهِها شرايينُ دِجلةَ والفراتْ.. تُقتلُ فاطمةُ وَزُناةُ العربِ كلُّهمْ يصفّقونَ في حفلِ اغتصابِها قُربانًا للوطنِ، والحياءُ الذي اُقتُلِعَ منهم غابَ في سديمِ العبوديّةِ المعاصرةِ المُخدِّرَةِ، هُمُ السُكارى الّذينَ استباحوا نَخْبَ الخيانةِ العربيّةِ الوسيمةِ واستمرأوا العربدةَ المتأصّلةَ في غرائِزِهمِ الموقَّرَةِ الساقطةِ، همُ الدُمى الخرساءُ كأهلِ الكهفِ، كمسمارٍ قعيدٍ، أبدًا لا ينطقونْ!

يستنهضُ الشاعرُ فروسيّةً غائبةً في زحمةِ العُهرِ العربيِّ المُذَقَّنِ بِذقونِ الخديعةِ والضلاليّةِ الإِفْكِيَّةِ، طالبًا منْ فارِسِ الغضبِ القادمِ أن يُحرقَ بِجَمرةِ غضَبِهِ الحقِّ لصوصَ الغدرِ الغاصبينَ، وأنْ يدوسَ بِنعلَيهِ تيجانَهُمُ الكاذبةَ.. ينتهي الشاعرُ في قصيدتِهِ الاستهلاليّةِ في مجموعتهِ المُحبَّرَةِ رِقاعًا إلى صلاحِ الدينِ بنداءٍ بعيدِ المدى لفاطمةَ التي ما ماتتْ رغمَ زَعمِهمْ، مُذكِّرًا إيّاها ونَفسَهُ أنّهُ لمَّا يَمُتْ، أنَّ عليًّا حيٌّ يا فاطمةْ!

كانتْ تلكَ حَسوةُ طائرٍ في صَخَبِ مخاضِ قصيدةٍ استغرقَتْ صاحِبَها عامًا وأكثرَ، ولو أردتُ الوقوفَ عندَ ما فيها من صورٍ ودلالاتٍ وتوظيفاتٍ تراثيّةٍ مُحكمةٍ، تنضحُ جميعًا عن شاعريّةِ نظيرٍ العكّيّةِ الوسيمةِ السّمراءِ، لو أزمعتُ ذلكَ، لَطفِقتُ أُلَملمُ وقتيَ إلى وَقتِكمُ جميعًا لَعلِّي أصيبُ الذي أُرجِّيهِ وَلعلِّي لا أدركُهُ!

لي معَ عنونةِ قصائدهِ وِقفةٌ تختزلُ كثيرًا منَ الكلامِ والإبهامِ المُبَيِّنِ، وبعضُ الإبهامِ في مذهبي ومذهبِ شيوخِنا، وقدْ تمنبرتُ المنبرَ الحيفاويَّ السّاعةَ في حضرَةِ كوكبةٍ منهمُ.. أقولُ: بعضُ الإبهامِ أوضحُ سبيلٍ للبيانِ والتبيينِ، وهوَ ما فطِنَ إليهِ شاعرُنا النظيرُ في كثيرٍ من سياقاتِ نصوصهِ السبعةِ في مجموعتهِ “رقاعٌ إلى صلاحِ الدينِ”، إذ يقعُ عنوانُ القصيدةِ الأولى: “لفاطمةَ أغنيةٌ موقوتةٌ في مخدعِ السلطانِ” ضمن العناوين المختزلَةِ للنصّ، رغمَ أنّ العنوانَ في بِنيَتهِ الاسميّةِ الإسناديّةِ لا يكفلُ للقارئَ من خلالِ عتبةِ النصِّ الأولى إحاطةً بما وردَ في مجملِ النصِّ، لكنّهُ يفعلُ ذلكَ على وجهٍ سليمٍ لدى القارئِ الواعي الذي أحاطَ بعد قراءَتهِ النصَّ قراءةً سياسيّةً وتاريخيّةً مشفوعةً بمنظومةٍ منَ التِقَنيّاتِ التفكيكيّةِ لعناصرِ النصِّ، ولا سيّما الموتيڤاتُ التراثيّةُ المحوريّةُ في سياقِهِ، إذ يُحيلُ العنوانُ المختارُ للقصيدةِ الأمِّ القارئَ إلى فهمٍ لدورِ فاطمةَ المحوريَّ في النصِّ، وهو ما قد يغفلُ عنهُ فيما لو التفتَ إلى موتيڤاتٍ أخرى مجاورةٍ لموتيڤِ فاطمةَ في القصيدةِ. هذا التعالقُ النصّيّ المكينُ ينسحبُ في رأينا على عناوينِ القصائدِ المتمِّمةِ لنصوصِ المجموعةِ الشعريّةِ، وَلكمْ معشرَ السيّداتِ والسادةِ أن تُخضِعوا ذلكَ لقراءاتكمُ التي أثقُ بها أكثرَ من ثقتي بِقراءَتي في الأمورِ، فانظروا إلى أيْنُ تؤولُ بكمُ قراءاتكمْ وتمحيصكمْ.

عرَضَ شاعرنا النظيرُ من خلالِ توظيفاتٍ تراثيّةٍ موزّعةٍ وموظَّفةٍ في نصوصهِ كثيرًا منَ الصورِ الشعريّةِ والدلالاتِ المنسولةِ من حدودِ الواقعِ، فأدّى ذلكَ بحرفيَّةٍ مقنعةٍ تعكسُ انتماءَهُ وتقديسَهُ لتراثِه العربيِّ المجيدِ، ويكادُ القارئُ يلحظُ ذلكَ عنْ وعيٍ منهُ من خلالِ الألفاظِ والمستوى اللّغويِّ والضبطِ الاصطلاحيِّ لكثيرٍ من المصطلحاتِ التاريخيّةِ المرهونةِ بالتراثِ العربيِّ وحضارةِ المسلمينَ في العصورِ الوسيطةِ، ويشهدُ على إشباعِ قصائدِ المجموعةِ بالتراثِ العربيِّ والإسلاميِّ ما يردُ فيها من مجالاتٍ للتعالقِ النصِّيِّ أوِ التناصِّ الأدبيِّ الذي يُحيلُ القارئَ لدى تسكِّعهِ بينها، يُحيلُهُ إلى وقائعَ وشخصيّاتٍ ومحطّاتٍ تاريخيّةٍ تدخلُ في صميمِ التاريخِ والتراثِ..

نأتي الآن إلى قصيدةٍ حيّرتني وَشيّبت وجداني حتّى خالَطني منها ما يُخالطُ العليلَ من داءٍ ودواءٍ، تلكَ كانتْ قصيدتُكَ التي اخترتَ لها عنوانَ المجموعةِ برمَّتها: “رقاعٌ إلى صلاحِ الدين”، وهي قصيدةٌ تثيرُ جدلًا سأضربُ صَفحًا عنهُ، إزاءَ شخصيّةِ صلاحِ الدينِ، الذي باتَ أسطورةً وحُلُمًا يستمدُّ طوباويَّتهُ وعِرفانَهُ من التأريخِ وسراديبهِ المتضاربةِ، هوَ رجلٌ وقائدٌ وعابدٌ وماجدٌ حاكَ التاريخُ والنقدُ التاريخيُّ لهُ هيئَةً قشيبةً ساميةً وأخرى أصغرَ وَأهونَ، والناسُ فيهِ بينَ رجلينِ كما هوَ حالُ أعظمِ العظماءِ دَومًا!

قصيدةُ “رقاعٌ إلى صلاحِ الدينِ” تتألّفُ من مقاطعَ ثلاثةٍ غيرَ تزامنيّةٍ، إذ كُتبَ مقطعها الأوّل والأقصرُ في مطلعِ عامِ 2011 بعنوان: “عهد”، وهي لوحةٌ شعريّةٌ تتعهّدُ الصمودَ أمام الجلّادِ، يتعهّد فيها الشاعرُ بالوقوفِ أمامَ المكارهِ وهوَ قائمٌ لا يجثو لأحدٍ ولا يركع! أمّا المقطع الثاني في القصيدةِ ذاتِها، فقد أُلِّفَ عام 2000 وهو بعنوان: “حرائق الذاكرة”، وفيه نشهدُ نداءً شعريًّا ينتهي بالشاعرِ إلى دعوةِ صلاحِ الدينِ إلى حطّينَ جديدةٍ، وهوَ يركبُ لهيبَ ذاكرتهِ الجماعيّةِ، يَرقبُ البحرَ مُخاطبًا إيّاهُ وهوَ يصفُ حالَهُما، فيُبصرُ ذاتَهُ في حالِ البحرِ الحزينةِ بعدَ أن هجرَتهُ نوارسُ الحياةِ، فرحَلَتْ معها حقيقةُ البحرِ منَ البحرِ، وَخلَّفتِ البحرَ دونَ بحرٍ، شأنهُ شأنُ الإنسانِ، الذي رحلَ من ذاتهِ، ومن إنسانيّتهِ، فَخلَّفَ الإنسانَ دونَ إنسانٍ!

تكتملُ القصيدةُ معَ المقطعِ الثالثِ فيها، وهو بعنوانِ “من هنا مرّوا”، وقد كُتبَ هذا المقطعُ عام 2017، ورهَنَ الشاعرُ في تراخيهِ الزمنيِّ دورةَ التاريخِ الذي يُعيدُ نفسَهُ أحيانًا، والشرقُ يا سادتي، حافلٌ بعودتهِ وَرجعتهِ المكروهةِ، بَيدَ أنَّ عودتهُ تلكَ لا تخرجُ عن كونها قدَرًا مُقدَّرا وقضاءً مُبرَمًا أبرمتهُ السماءُ لحكمةٍ طُوِيَتْ عنْ أهلِ الأرضِ، إذ مرَّ التتارُ من البلادِ، وعاثوا فيها خرابًا وفسادًا في كلِّ مرّةٍ اجتاحوها فيها، ثمَّ تراهم يغيبونَ ويعودونَ من جديدٍ، بأسماءٍ أخرى وأعوانٍ آخرينَ، وصلاحُ الدينِ المُنتظرُ مُنتظَرٌ! الانتظارُ والقعودُ سيّداتي وسادتي، عقيدةٌ وطريقةٌ تشكّلُ في ذاتها معركةَ الشرقِ الحقيقيّةِ، التي يخوضها قَومُها وهمْ يُسلمونَ قِيادَهم للسماءِ! وقدْ رأيتكَ في قصيدتكَ هذهِ وغيرِها، متمرِّدًا ثائِرًا وصوتُكَ المكتوبُ في رُقاعٍ إلى صلاحِ الدينِ، يقولُ مدَويًّا: كفانا كفانا! فصلاح الدينِ فينا نحنُ، والنصرُ والهزيمةُ من عندِ أنفسنا نحنُ! والأمرُ للهِ من قبلُ ومن بعدُ! بذلك يُنهي الشاعرُ قصيدتَهُ المُحيّرةَ التي وَقفتُ وَاسْتوقَفتُكم عندها، إذ تراهُ يَختمها بِإشارةٍ تناصّيّةٍ يُقلِّدُها وسامَ التسليمِ لأمرِ من لا يُردُّ لهُ الأمرُ، للهِ الواحدِ القادرِ دونَ خلقهِ على أنْ يُغيّرَ ما يصعبُ تغييرهُ في حالٍ دامتْ طويلًا، هكذا يُغلقُ الشاعرُ بابَ القصيدةِ إذ يقولُ: “دارَ الزمانُ دَورَتهُ، أيْ بُنَيّْ، فَلِسيِّدِ الأزمانِ كُلِّها الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ”، تناصٌّ مع آيةٍ قرآنيّةٍ وردت في سورةِ الروم في قولهِ تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: “ألم، غُلبتِ الرومْ، في أدنى الأرضِ وهمْ مِنْ بَعدِ غَلَبِهمْ سَيغلِبونْ، في بضعِ سِنين، للهِ الأمرُ مِنْ قبلُ ومنْ بعدُ، ويومئذٍ يفرحُ المؤمنون” صدق الله العظيم، وقد وظّفَ شاعرُنا النصَّ القرآنيَّ والنصَّ التراثيَّ بأسلوبٍ مُقنعٍ وجادٍّ يخدمُ المعنى والإيحاءَ في كثيرٍ منم سياقاتِ قصائدهِ في مجموعتهِ رقاعٌ إلى صلاحِ الدينِ…                                                                                        ينصرفُ شاعرنا للتناصِّ في شواهدَ شعريّةٍ عديدةٍ في مجموعتهِ، ولعلَّ من أبرزِ حقولِ التناصّ الشعريِّ عندهُ الحقلُ التراثيُّ الدينيُّ، وذلكَ جليٌّ في التناصِّ الدينيِّ الكتابيِّ، ومثالُهُ قولُهُ في قصيدتِهِ: “مراثٍ على عتباتِ القادسيّةِ”: “واستعبدَتْنَا أمَّةٌ تزني وترمي بالحجرْ!!”، وتناصّهُ القرآنيُّ الجدليُّ في قصيدتهِ: “صلاحُ الدين: المراثي والأهازيج”، إذ يقول: “أَسْرِجي الخيلَ، أمُّ الشهيدِ، أعدِّي مِنْ رباطِ الخيلِ، كَفكفي عن عينيكِ دمعةً، دَعي البكا، زَغردي.. فما قتلوهُ وما صلبوهْ”، وتناصُّهُ الحديثيُّ المنسولِ من تراثِ أدبِ الحديثِ النبويِّ المتواترِ الصحيحِ، وذلكَ في قصيدتهِ “لفاطمةَ أغنيةٌ موقوتةٌ في مخدع السلطان”، إذ يقول: “كغثاءِ السيلِ صِرنا بعدَ عزٍّ واقتدارٍ، نعامًا ندسُّ الرأسَ في الرملِ جُبنًا في وضحِ النهارْ!!”، ولشواهدِ التناصِّ بنوعيه: الدينيِّ والسياسيّ شواهدُ أخرى من اليسير على القارئِ التعرّضُ إليها..

استوقفَتني قطعةٌ رَدَّت إليَّ سعادتي التي بدَّدَتْها قصائدُكَ المثخنةُ جِراحًا ونواحًا وَتَهافتًا أخي النظير، تلكَ القطعةُ المقتبسةُ مِن قصيدَتكَ الفاتنةِ “ترانيمُ رماديّةٌ في الولَهِ الوحشيِّ الأوّلِ”،  إذ تقولُ فيها مخاطبًا الراعيةَ: “وأنا أُحبُّكِ، يا ابنةَ الغاباتِ، كما الحبُّ في البدءِ كانْ، بشوقِ الأرضِ لِترياقِ المطرْ، الحبُّ قاموسُ اللغاتِ، حيٌّ لا يموتْ، الحبُّ بدءُ اللغاتْ، هوَ رُخُّ البعثِ يصحو من رمادْ، هوَ بعثُ البعثِ، وهوَ حيٌّ لا يموتْ، الحبُّ يبقى لا يموتْ، الحبُّ يبقى.. لا يموتْ”..

ختامًا، أشكرُ لكَ أخي النظيرَ، أن جمعتَ شملَ تلكَ القصائدِ في مجموعتكَ رقاعٌ إلى صلاحِ الدينِ، وقدْ كانت قبلها ضمنَ أوراقكَ المتراكمةِ التي لم تجدْ لها سبيلًا لغيركَ، فاصنعْ خيرًا بِأنْ تنشرَ مخطوطاتِكَ المكنوزةِ في خُطاطاتِ تراثكَ العكّيِّ والإنسانيِّ الخليقِ بالقراءَةِ والكشفِ والتجرُّدِ منْ وعثاءِ الانتظارِ.. شكرًا لكم..

 

مقالات ذات علاقة

إضاءة على كتاب “على بوابة مطحنة الأعمار” للأسير الفلسطيني أحمد صلاح الشويكي

هند زيتوني (سوريا)

أشرف البولاقي في إنتظار المجاز

مهند سليمان

قول…

المشرف العام

اترك تعليق