قراءات

نادرة العويتي… وغواية القصة القصيرة

في مجموعتها (لعنة الرواية) [1] تواصل نادرة العويتي الشغف بالقصة القصيرة، والتشبث بهذا اللون، والذي -كما تقول- تبدعه بمحبة واقتدار، وتوثق من خلال هذه المجموعة حضورها المميز في المشهد الثقافي الليبي والعربي أيضا.

• جنة الرواية

في هذه المجموعة القصصية ثمة مؤامرة تحيكها امرأة تنام في كل واحدة منا، ظهرت هذه المرأة النائمة من خلال ثلاث نساء، هن، المؤلفة الحقيقية، نادره العويتي التي نجد إسمها على غلاف هذه المجموعة، وهي شخصية واقعية حقيقية، وهذه المؤلفة الواقعية هي التي أسست القصة وقامت بحكيها شفاهة أو كتابة (أي هي التي أسست وصنعت السرد) [2] ثم تجيء المرأة الثانية وهي المؤلفة الضمنية (والتي تعتبر قائمة خلف المشاهد، ومسئولة عن تحقيقها وعن اختيار المواقف والوقائع وتوزيعها) وهي تستنتج من خلال النص كله (وليس موضوعة أو منطبعة فيه كمحدثة أو راوية)… أما المرأة الثالثة فهي الساردة – وهي تقوم بالسرد (المؤسس على القصة والخطاب) وشاخصة فيه، إن هؤلاء النسوة الثلاث قد نسجن مجموعة قصصية أرهقتني، لأن القراءة الأولى والثانية والثالثة اصطفت ثلاث قصص اعتبرتها ذائقتي مميزة ومهيمنة وهذه القصص على التوالي (لعنة الرواية، الرمادي، إبنة المغني) لكن قراءة واعية -ربما- كشفت عمق المجموعة كلها، وأرتني أن هؤلاء النسوة نادرة الواقعية ونادرة الضمنية والساردة، طرزن عباءة المجموعة باتقان، وأن كل نسيجة وغرزة تتراص كوحدة، وأن قصص (العين، قبل انقطاع التيار الكهربائي، في سوق النخاسة، غربال أمي، تنبؤات، مصيف السمكة الزرقاء، كار الجيرة) تبدوا للوهلة الأولى مجرد صور اجتماعية لمجتمع يمور  بكثير من المشاكل والحكايات العادية، التي التقطتها الكاتبة لتؤلف منها قصتها، إن هذه القصص التي لي عادية جدا وبعضها غير متقن الصنعة (رغم براعة السرد والصور ونضج الخطاب) قد كونت مع القصص الثلاث المتفردات، متناً يؤسسلرؤية عميقة ترى في العادي البسيط حقيقة المجتمع وعمقه الذي يستمد منه النسغ فيلونه ليكون مجتمعا متميزا، وذا دلالة خاصة، ونكهة متفردة.

• براعة المبدعات الثلاث

نسجت المبدعات الثلاث قصة (العين) من حادثة عادية في حفلة عرس في صالة، وعن رقص نساء وحدث هو كسر كعب حذاء، نسجن لغة وسردا وقصا ووصفا ممتعا، وجعلن الليل كائنا شاخصا في السرد، يجعل لخطاب القصة رهافة وشفافية (الليل يتخفى ويتلصص على النسوة، الليل يسعى لأن يرى ما وراء الأوشحة وما خلف العباءات السوداء المزركشة) أما الساردة فهي تقول عن شخصها: (في الحفلات عادة أكتفي بالنظر، وأصفق إذا لزم الأمر، وقد أرسل خيالي إلى الخارج كي أسلي الليل قليلا وأفرج عن وحدته الموحشة) ص8.

إن صاحبة الفستان الأزرق ورقصها ثم مؤامرة الكعب العالي، هذا الكعب الذي صار شخصا مؤثرا في القصة (تختلف أذواق النساء ولكن يتوحدن ويتفقن على اختيار الكعب العالي دون تردد… الكعب العالي اختراع مذهل… لو رأيت الكعب كيف يترفق بالقدم الرقيقة وينثني تحتها رافعا إياها إلى أعلى جاعلا خطواتها تتمايل بوقع مدلل منتشٍ مليء بالترفع والكبرياء والدلال) إن هذا الوصف المتقن للكعب العالي يبدو عاديا للوهلة الأولى، لكن الساردة وهي تبدع هذا الوصف تتقن إظهار المؤلفة الضمنية، هذه التي اختارت الشخوص، ورتبت الوقائع، وجعلت بداية الحكاية – القصة – الليل مهيمنا على المشهد (الليل يتخفى ويتلصص) إن الليل هنا معادل لذكر يتشهى رؤية النساء المتخفيات في الأوشحة والعباءات، يخترق المشهد النسائي الخالص ويهيمن عليه، إن الساردة التي قالت ببساطة (أن النساء جميعا يتوحدن ويتفقن على اختيار الكعب العالي) قد جاءت بذكر الليل – الذكر ويتفوق عليه، إذ هو لايتلصص على المشهد النسائي بل هو جزء منه لأنه (يترفق بالقدم الرقيقة وينثني) ثم تجيء صاحبة الفستان الأزرق وكأن الساردة تجعل من اللون الأزرق معادلاً للبحر، أي ذكر آخر منبث في المشهد النسوي (الخصر يتحرك والشال يشاغب والكعب العالي يرفع بالقوام الرشيق إلى أعلى) ص9. (الخصر يتلاعب، الشال يرفرف، الكعب العالي يمتثل لأوامر صاحبته والثوب الأزرق يعلن عن تميزه هذه الليلة) ص9.

إن هذا الوصف يبدو مثل القماشة الحمراء التي يتلاعب بها اللاعب الإسباني في حلبة السباق أمام ثور هائج لأن الحدث جاء تاليا  (شيء لم يكن متوقعا)، (المرأة انكفأت على الأرض بفعل الكعب العالي الذي تمرد وانفصل عن الحذاء تاركا ساقها تلتوي والألم الشديد يتسرب إلى قسمات وجهها في لحظة صعبة) ص10… والليل (شعر بالحزن وما كان يسره أن يحدث مثل هذا) الليل تسلل إلى الصالة وهمس قائلا: (ما كان للخمار الأسود أن يتمكن من حجب جمال هذه السيدة وهي تمر أمامي هذا المساء، وما كان للعباءة السوداء الطويلة الفضفاضة أن تكتم أسرار هذا القوام) الليل قال غاضبا، (وين البخور ووين بخور طرابلس وين الوشق والفاسوخ وعود القماري)… الساردة جاءت بثلاث حالات لهذا الليل الذكر.. حزن، تسلل، غضب.. وفي القصة أن الجميع اقتنع أن ثمة عين أصابت هذه المرأة، حتى الليل شخص الحالة بأنها عين) ص10…. (كل العيون إدعت البراءة أتكون عيني أنا ياترى؟) إن هذا التساؤل البريء الذي تختتم به الساردة الساردة القص (نمذج) للقصة القصيرة ومدى براعتها (القصة) في احتواء عوالم شاسعة في فسحة صغيرة (لا تتعدى أربع صفحات متوسطة الحجم) إن التساؤل البريء يحيل إلى ذلك الصراع الذي انبثق بين الليل والكعب العالي، لقد ادعى الليل الحزن، وتسلل إلى الصالة وقال غضبه من العين التي أودت بتلك السيدة، والسيدة أودى بها هذا الصراع، كان الليل يظن أنه وحده المستأثر بكل هذ الجمال، فجاء الكعب العالي ليعلن أنه حاضر للمنافسة، وأقوى من الليل، كل السيدات اللواتي رقصن، وتعبن وانسحبن من الساحة، وحدها السيدة صاحبة الفستان الأزرق، ظلت تواصل الرقص والفرح، نسيت أنها تتسامق لأن الكعب العالي يرفع قامتها، ولكن الليل الذي همس بعشقه لها أفزعه هذا الإستئثار، فانكسر الكعب العالي وانكفأت السيدة على وجهها، والساردة ضحكت منَا أو ألقت بطعم حقيقي باستفهام استفزازي، لنبحث في ثنايا قصة عادية عن عرس في صالة، وعن نسوة محجبات في الخارج، ولكن الصالة تكشف عن المشهد المثير لهؤلاء المحجبات.

إنه الصراع الذي تظل، في قلب رحاه الأنثى بين الليل هذا الذكر المهيمن (الفكر الذكوري) الذي يستعذب حجبها وتغييبها، وبين هذا الكعب العالي (الذكر الآخر) الذي تتوحد النساء في عشقه، وكأنه إعلان عصيان (جاعلا خطواتها تتمايل بوقع مدلل منتشٍ مليء بالترفع والكبرياء والدلال) ص8، الآخر الذي يترك لها هامش أن ترقص في صالة مغلقة بين نسوة مثلها، هي فقط السيدة صاحبة الفستان الأزرق، التي ظلت تواصل الرقص، تواصل التحدي لتجعل من الهامش متناً، فكان أن يتوحد عليها (الليل والكعب العالي) رغم أنهما يبدوان في صراع، لكنه صراع يتوحد ليكسر الأنثى المتمردة، فتنكفيء وتعود إلى حجمها الاجتماعي.

نشر بموقع ليبيا المستقبل

_________________________________________________________

نادره العويتي ولدت في 1949-4-9 بدمشق، حيث هاجرت أسرتها إبان الإستعمار الإيطالي البغيض لليبيا، مارست العمل الصحفي من خلال مجلة البيت بصفة محررة ومشرفة على الأبواب والصفحات الأدبية والثقافية، وتلقت دورات صحفية في كل من القاهرة وطرابلس، كتبت القصة والرواية والمقالة الصحفية، صدر لها: المرأة التي استنطقت الطبيعة 1983 – حاجز الحزن 1988 – اعترافات أخرى – 1994 عند مفترق الطرق 2006.

هوامش:

1- لعنة الرواية – قصص – نادره العويتي – مداد للطباعة والنشر والتوزيع والإنتاج الفني – الطبعة الأولى – 2009 -الغلاف للفنان بشير حموده.

2- المصطلح السردي (معجم مصطلحات) تأليف جيرالد برنس – ترجمة عابد خزندار – المجلس الأعلى للثقافة – مصر.

مقالات ذات علاقة

تحطيب سُكّان الريح في رأس القصيدة

مهند سليمان

«بائعة الزهور».. من روائع الشاعرة الليبية عائشة المغربي

محمد الأصفر

راصدوا الصحراء للرحالة الدنماركي كنود هولمبو

إنتصار بوراوي

اترك تعليق