من أعمال الفنان محمد الشريف.
قصة

موجلي وشيرخان

المدينة

ليست غابة ولكنها مدينة وليست أية مدينة إنها العاصمة. وليس “موجلي” لكنه إيهاب، أما “شيرخان” فليس سوى حيوان. تدور أحداث هذه القصة في مدينة طرابلس. وأنا اكتب هذه القصة، لن أحكي عن طرابلس التي عشت فيها نصف قرن من الزمان، لكنني سأحكي عن قصص الحرب الملتهبة فيها.

طرابلس، لمن لا يعرفها تحتضن البحر ليس بجغرافيتها فحسب ولكن بسكانها.. شكّل البحر اسطورتها، وورد اسمها في نشيد المارينز الأمريكي بعد أن أوقع الطرابلسيون البارجة الأمريكية “فيلادلفيا” المارة قبالة سواحلهم في الأسر، وجذبوها نحو خلجانها الدافئة. كان يوسف باشا القره مانلي حاكم “السرايا” يمارس أعمال القرصنة في البحر المتوسط ويفرض الأتاوات، ويمنح الأذونات، ويستقبل قناصل الدول الأجنبية.

في رحلة قصيرة اليوم على الأقدام بين حيطان المدينة القديمة المشرعة أبوابها نحو البحر، الباردة جدرانها رغم حرارة الطقس، المزينة منازلها بشرفات خشبية خجلى كسكانها، المرفوعة أصوات مآذنها كل صلاة، الصامتة كنائسها، المستعرضة “خطّيفتها” طيرانها عند الغسق، المرتمي سعف نخيلها كشعور نسائها، المالح نسيمها كسيقان بحارتها، ينهض مبنى القنصلية الفرنسية المواجه للبحر وللقوس الروماني الأثري ماركوس أوريليوس كعملاق عجوز انحسر ظله، تحكي أركانه التاريخ والوثائق المتبادلة ونزعة التآمر التي سادت.. وما يزال مبنى القنصلية البريطانية يختبئ في أحدى أزقتها الضيقة، يشهد خروج القنصل الإنجليزي بزيه الأنيق وربطة عنقه “الفرفلة” ودخوله، ورسائل شقيقته “مس توللي” التي ضمها كتاب “عشر سنوات في بلاط طرابلس” تصف فيها بدقة الحياة الطرابلسية في أزقة المدينة وحارستها “السرايا” الحمراء الشامخة التي بنيت على بقايا مبنى روماني تواجه البحر وتنظر بعينيها الناعستين نحو الضفة الأخرى للمتوسط.

يقول نشيد المارينز: “من هضاب مونتيزوما..إلى شواطئ طرابلس/ نحن نحارب معارك بلادنا/ في الجو.. في البر.. في البحر.” لكن البحر ذاته كان أيضا منطلقاً لغزوها وإذلالها.. جاء الإسبان وطَلَوْا القلعة باللون الأحمر، ثم سلموها لفرسان القديس يوحنا الذين أبحروا إليها على ظهر مراكبهم وشيدوا أحد أبراجها، تلطمها أمواجه لتذكّر الغزاة بأنهم ممتطوه وعائدون إلى جزيرتهم الصخرية لا محالة. ثم وصلها العثمانيون، وأخيرا جاء عبره الاستعمار الحديث. نزل الإيطاليون في بدايات القرن الماضي إلى شاطئها وأطلقوا عليه الشاطئ الرابع، واتخذوا من القلعة مقراً للحاكم، ليمكثوا فيها قرابة أربعين عاماً، استعمروها وشيدوا فيها أحياء جديدة وفتحوا المدارس واستوطنوا فيها واعتبروها شاطئهم الجنوبي وسكانها إيطاليين من درجة دُنيا، وعبر هذا الشاطئ رحلوا أذلاء بعد هزيمتهم المروعة في الحرب العالمية الثانية. أما اليوم، فليس من حاجة إلى غزاة من وراء البحر لإذلال أهلها، فهم ذاتهم من يذلها.

إيهاب

في عام 2011، كانت طرابلس تغلي كالمرجل، وكان الضباب يرتديها كمعطف شتائي بياقة عالية، نجحت ثورة تونس المجاورة في هرب “الزين”… “بن علي هرب ياناس”، هكذا وصلت الصورة والصوت لإيهاب وهو مسترخٍ على الأريكة يقلب القنوات الفضائية. لم يسمع بالبوعزيزي البائع الجوال في ” سيدي بوزيد ” الذي صفعته الشرطية “فادية” وسط السوق وصادرت خضرواته، فثار على نفسه وحرق جسده ومات، ليشب الحريق في العاصمة وتحترق تونس معه… لم يعلم إيهاب ذو التاسعة عشرة ربيعا إلا بالفصل ما قبل الأخير، هروب “بن علي” ذات فجر، وأن تونس تحررت من قبضته.

سرعان ما تحركت مصر.. وكان ميدان التحرير قلبها النابض.. اشتعلت فأشعلت قلب إيهاب وأصحابه.. ومنذ الخامس والعشرين من يناير، هجر إيهاب كل ما قد يبعده عن جهاز التلفاز، أطلق سراح ذقنه وشاربه الخفيفين، وتمدد أمامه، يأكل من صوره، يمضغها فتكبر في قلبه حتى تشل عقله.. كان يعيش الثورة المصرية في بيته.. ينقر الرسائل النصية إلى أصحابه، يدخل إلى الفيس بوك، ويبث من خلاله الأخبار ويتساءل متى سيأتي الدور إليه.

وحين انتفضت البيضاء وبنغازي، خرج إيهاب إلى شوارع طرابلس، وتحدث بصوت خافت، ليعلو ذات شتاء وسط ميدان الشهداء بطرابلس “يا بنغازي مش بروحك … نحن ضمادين جروحك”.

تدخل حلف الأطلسي وساند “الثوار” في معركتهم ضد القذافي.. ورغم ذلك ظل إيهاب ورفاقه يعتقدون ويرددون أنها معركتهم لوحدهم، وأنهم من أسقط “القذافي”، والحقيقة أنها المرة الأولى التي أمسكوا فيها ببندقية… “شدها باهي يا إيهاب… شدها باهي راهي تطيح منك”.. يحتضنها إيهاب، ويحاول أن يقلد من حوله.. لكنه شاهد كل منهم يمسك بها بطريقة مختلفة.

في نهاية المطاف لم يطلق إيهاب رصاصة، وسقطت طرابلس في يد الثوار، بعد أن دكت قوات حلف الأطلسي مراكز العسكر وما يشتبه في أنه مخابئ للمعدات العسكرية لكتائب “القذافي”.

ولأن إيهاب حمل بندقية وخرج بها إلى الشوارع يوم 20 أغسطس، اعتبره أهله وجيرانه وأصدقاؤه ثائرا. يقف إيهاب على “البوابات” تتدلى بندقيته من وراء كتفه، يدني برأسه من نافذة السائق، يتكئ على كلماته بثقة “السلام عليكم، اوراقي السيارة بالله”، تتطلع إليه الأعين بإعجاب، وتنصاع الأيادي لأوامره.. “ربي يحفظكم يا شباب”.

صورة جميلة من مقطع تاريخي راسخ يتكرر.. الشاب، البندقية المدلاة، الطاقية الصوفية “البيريه” المائلة على رأسه، الشعر الطويل حتى كتفيه. بدى كل الشباب في تلك السنة وكأنهم “تشي جيفارا” لكن في مدينة متوسطية هادئة، تداعبها نسمات البحر المشبعة بالرطوبة، ورذاذ تطلقه حمم الموج في الشتاء على أسفلت الكورنيش.

رغم تغريد الفرح وصهيل الحماس، واستبشار الوجوه وخفقان القلوب، وطي الصفحة الأخيرة من اثنين وأربعين صفحة، تحمست الحواس نحو ما سيخط في وسط الورقة اللاحقة البيضاء التي كانت رطبة، مصفرة حوافها، ولم تسمح بالتالي لقلم أن يهمش في قلبها.. شيئا فشيئا اعتاد السكان على مظاهر السلاح، على الرشاش المحمول على ظهور السيارات، على زناجير الدبابات، وميزوا بين أصواته الفجة..  لكنهم سرعان ما ضاقوا به ذرعاً، لم تعد تلك السيمفونية التي رقصوا عليها أملا في تغيير بالقوة، أو حلما للمس الأفق الذي اقتربوا منه – أو هكذا تهيأ لهم – لكنه ظل على المسافة ذاتها بعيداً، أو لعله فر منهم.

في بيت إيهاب، تغير الوضع من مشاعر الفرح إلى قلق دب في أطراف أم إيهاب ككريات النمل التي يدحرجها من التراب حتى لحق قلبها، كانت قد سأمت كل قصص إيهاب المتكررة،  تنظر إليه في وجه المرآة وهو يقف يرتب قيافته العسكرية، فترى فيه وجها آخر. خشيت عليه أن يضغط على الزناد ولو لمرة واحدة فيصيب آخر ويردي قلب أم مثلها تقف وجلة خلف ابنها أمام المرآة كوقفتها هي. تخاف أن يشتم الدم فيعتاده ويتحول إلى حيوان مفترس.

ذات يوم وقد نفد صبرها وتحولت من نملة إلى نحلة لاسعة، أمسكت بذراعه وصوبت عينيها في المرآة المقابلة له وهي تشير نحو رأسها: “الثورة ياوليدي في الدماغ مش في الحديدة”… جمعت الزي العسكري، وضعته في كيس بلاستيكي وأعطته لجامع النفايات. وقفت أمام إيهاب وهي تشير اليه بإصبعها مهددة  “ماعاش نبي سلاح في حوشي”. طلبت منه بحزم أن يعود لمقعد الدراسة. وهو ما كان، التحق إيهاب بجامعة طرابلس، طالبا بكلية الهندسة.

شيرخان

في سجن “الجديّدة” بطرابلس، يقبع شيرخان. أطلق عليه هذا اللقب تيمنا بالنمر الهندي الذي يظهر في فيلم والت ديزني “كتاب الغابة”. يتصف “الهادي” بصفات ذاك النمر الشرسة البارزة من خلال تقاطيعه، رأسه يشبه كرة متسخة و”مفشوشة” ومنسية مثبتة على جسد نحيل وغير متناسق. ولأن اسمه لا صدى له عنده بل نقيض له، تردد رفاقه في نطقه، أو مناداته به. حتى جاء ذلك اليوم الذي أعلن فيه “الهادي” للجميع أنه “شيرخان”، ولم يعد يلتفت على من يناديه باسمه الأصلي.

هجر الهادي مقاعد الدراسة قبل أن يبلغ الثانية عشرة، كانت أزقة “بو سليم” تعج بمثله، منقادون ومستسلمون نحو الحتف ذاته، الموت بجرعة زائدة أو السجن.

في عام 2011 كان شيرخان يقضي محكوميته في إحدى قواطع السجن، يمضي النهار جالسًا مع مجموعة من النزلاء في مكان منزوٍ في باحة مربعة ومتربة، يدخنون ويتحادثون. أيام مملة يجرها كما يجر الحمار العربة بتثاقل فلم يمضِ سوى خمس من عشر سنوات. بعد أن اعتاد شيرخان على تدخين الحشيش “بالكنشة”، استنشق “الهروينة” من قراطيس ورقية مربعة بيضاء ينتشي بها ثم يرمي بنفسه حيث هو حتى يستفيق. تعامل شيرخان مع صنوف “الهيروينة” المغشوشة، وتعلم لفها في القراطيس، والأهم أنه امتهن بيعها. يجلس في سيارته “الهوندا السيفيك” الخفيضة، يدفع بكرسي السائق إلى الخلف ويستلقي، يترك زجاج السيارة مفتوحا قليلا، وينتظر. “قرطاس يا شاب”… يمد شيرخان القرطاس بعد أن يتناول المبلغ.

يعلم شيرخان في نفسه أنه سيُلقى عليه القبض، ولم يأبه فأصدقائه ينتظرونه في “الجديّدة”، لكنه لم يكن يتخيل أن عقوبته ستكون عشر سنوات كاملة.. قرر من يومه الأول داخل السجن أنه لن يعدّ الأيام، بل الشهور، ثم قرر بعد مضي ثلاثة أشهر أنه سيكتفي بعدّ السنين.

خمس سنوات ماتزال تنتظر من عمر شيرخان، سيمضيها يمتص دخان الرياضي، وينفثه ببطء في الهواء ويبصق مرارته وهو يبحث عن زاوية ظل في الساحة المفتوحة.

لكن على عكس ما توقع أمضى ما تبقى من سنواته الخمس حراً طليقاً، بل حاكم ناهٍ في المدينة. فتحت أبواب السجن ذات ليلة أثناء الثورة، وأطلق سراح شيرخان وبقية النزلاء، اندس وسط الجموع.. ثم اتجه مع بعض من رفاق “الجديّدة” إلى مراكز الثوار وانضم اليهم… وضع الزي العسكري، أطلق شعره، وغطاه بطاقية عسكرية من الصوف، استولى على أحد المباني، وانضم إلى وزارة الداخلية، وقبض مرتباً محترماً. ولم يكن هذا كافياً.

موجلي

يشبه إيهاب الشباب في عمره، طويل ونحيل، يسير بانحناءة خفيفة نحو الأمام، شعره أسود كثيف وناعم، أسمر البشرة وعيناه سوداوان، ابتسامته تكشف عن أسنان بيضاء في بعضها اعوجاج… ما إن هجر سلاحه وعاد إلى مقاعد الدراسة، حتى أطلق عليه رفاق السلاح اسم “موجلي”. لم يكن في ذلك تهكم بقدر ما كان تحبباً، لكن الأمر لا يخلو من تلميح إلى انقطاع علاقته بالسلاح وهجره للبوابات وتهربه من مواقع الاقتتال بين المدن.

تحمل الأصوات إليه من حين لآخر أنباء “الثوار”.. “هدّينا على بني وليد.. هيا تعالى لحق”.. “إحني في بوسليم، مازالوا خضر”، “ورشفانة ياراجل معبية أزلام.. غير تعالى”. كان قرار إيهاب نهائياً. منذ أن نزع السلاح عن كتفه، أحس بحجمه الطبيعي وبخفة في حركته.. كان قلبه وجسده قبل ذلك مثقلين ومتعبين.. عاد إلى أحضان الكلية ورفقة أصحابه والمسطرة والأشكال والمسائل الحسابية وجهاز الحاسوب.. عاد قلبه يخفق لنظرة جميلة أو لفتة تلقائية أو كلمة لطيفة أو رسم جميل.

تسقط عليه الأخبار بين الفينة والأخرى كأصوات الرصاص التي يمتلئ بها فضاء طرابلس. .”استشهد في كمين.. الله غالب”، “حارب الدواعش في صبراتة”، “استشهد في ككلة.. في المشاشية”… تساقطوا كحشف التمر، وانكسروا كأعواد البوص، واشتموا الدماء واعتادوها. يصوبون السلاح نحو أجساد تتحرك، يضغطون الزناد فتنطلق قطع الحديد الحارقة من الرشاش متتابعة، تنفجر في لحمهم البض وترديهم قتلى… منهم الجار، والقريب، والنسيب، وحتى الرفيق.

“الحمد لله فكيتيني منها يا أمي.. اولاد نعرفهم ماتوا في بني وليد…”، تميل أمه شفتيها بابتسامة خفيفة، تنظر إليه أمام المرأة فتراه يتحول شيئا فشيئا إلى “موجلي”.. ببراءته، وانحناءته، وهدوئه، وابتسامته، وشعره الأسود الفاحم، وبشرته السمراء.. ترنو نحوه وهي تطلق ضحكة خجولة “حتى أنا شورني بنسميك موجلي”.

فاطمة

تتميز فاطمة بعينين سوداوين واسعتين، وشعر فاحم، ووجه مدور ببشرة بيضاء. قصيرة القامة ودائرية الثنايا، هادئة الابتسامة كأنها ترتشفها من كوب شاي. تقطن فاطمة شقة مخصصة من الدولة في العمارات الشعبية بحي بوسليم، والدها رئيس عرفاء بالقوات المسلحة. يتجه الحاج مفتاح في بواكير الصباح إلى معسكره في تاجوراء مستقلاً “الإفيكو” ويعود ظهراً ليجد زوجته فتحية في انتظاره بالغداء.

التحقت فاطمة بكلية التربية قسم اللغة الفرنسية، تستقل “الإفيكو” بعد مغادرة والدها، تنحشر في أحد أركانها، تفضل الجلوس عند النافذة، تنظر منها إلى الشوارع المزدحمة، تميل نحو الأمام كلما كبح السائق “الفرينو” في الدقائق الأخيرة، لينطلق مجددا بينما يصدح المسجل بصوت عالٍ بأغاني المرسكاوي: “كيف تبوني ننساه/ بعد شاطن نيران غلاه/ زعم/ كيف تبوني نخليه/ وأنا قلبي متولع بيه/ ما لقيت طبيب يداويه/ وأنا بعمري و روحي نفداه. كيف تبوني نسيبها/ ياناس الغية ما أصعبها/ والعين تخيل بحاجبها إن كان ما قسمت ليّ الله”.

عند الظهيرة، يقف شيرخان متكئاً على العمود المعدني المهشم مصباحه عند ناصية الشارع المؤدي إلى العمارات الشعبية، تحترق بين إصبعيه سيجارته، ينتظر عودة فاطمة، يلاحقها، يصفر لها، يحادثها دون أن ترد عليه. تعلم فاطمة أنه استفاق من النوم التو، يبدو منتعشاً، يسدل شعره المبلل على كتفيه، يضع نظارة شمس على وجهه، يخفي بها ندب غائر يمتد من جانب عينه حتى منتصف خده.

“تي غير عدلي علينا بس.. ولا مش مستواك”… تسرع فاطمة الخطى، تلج باب العمارة، وتقفز الدرجات، تتوجس منه ولا تحب النظر إليه، تخجل حتى من ذكر اسمه المقترن بالمخدر. تدخل الشقة لاهثة، تقابلها مباشرة صورة “العقيد” المؤطرة ببرواز مذهب بزيه العسكري، تحملق فاطمة في الصورة وتبتسم مستغربة ذاك النحول الذي بدا على وجهه الطولي.. تردد في نفسها “قداش تغير.. سبحان الله”، ولا تعلنها تفاديا لرد فتحية عليها في كل مرة، “منو القايد؟.. خيره ما شاء الله عليه”.

في بداية الثورة أطلق شباب الحي على عائلة فاطمة بصوت هامس “الخضر” ثم تحولت مع اشتدادها إلى “طحالب” وبعد انتصارها أصبحوا “الأزلام”.

حمل شقيقا فاطمة السلاح وتطوعا للدفاع عن “العقيد” ونظامه لقمع الثورة، وخرجا في مظاهرات بالساحة الخضراء يلفون العلم الأخضر حول عنقيهما ورأسيهما ويهتفان “الله ومعمر وليبيا وبس”، لكن ما أن سقطت طرابلس في يد الثوار، حتى فر أحدهما إلى مصر، واعتُقل الآخر بناء على وشاية أحد الجيران. “تي هذه طحلوبة”…. تسير فاطمة مطأطأة الرأس، حتى قررت أن تلزم البيت وتنقطع عن الدراسة بقية تلك سنة.

طال اعتقال شقيقها، وهنت أمها حزناً وكمداً ووحدة بعد أن بات الجيران يتفادونها ويتهامسون حولها. تعب والدها من طرق الأبواب والسؤال عن مصير ابنه. وحين وجده في إحدى “الريفودجوات” كانت زوجته قد غادرت الدنيا بعد أن أنزلت تلك الصورة ليتعرى حائط المدخل وأخفتها تحت سريرها.

“أمك ماتت”!
أجهش شقيقها بالبكاء.
“طلعني يابوي.. أنا مادرت شي، هتفت في الساحة الخضراء بس، والكلاشن ما استعملتهاش.. طلعني”.
“وكان غير يحولوك للنيابة ويحبسوك في الجديّدة باهي”
ينكس ابنه رأسه ويقول “باهي.. حتى هكي باهي”.

حاول الحاج مفتاح مراراً الوصول إلى مكتب شيرخان بإحدى فيلات المنطقة المملوكة لأحد “الأزلام”، علقت عليها يافطة مضيئة “اللجنة الأمنية”. جند شيرخان بعض شباب الحي ورفاق “الجديّدة” وآخرين مسلحين لحراستها، ووقفت أمامها سيارة نصف نقل تحمل مضاداً للطائرات موجها نحو الحي.

يقف الحاج مفتاح بالساعات غير بعيد عن مقر شيرخان، يترصده ويهرول بساقيه الواهنتين نحوه ما أن ينزل من سيارته التويوتا اللبوة التي تطفئ محركها في مواجهة باب المقر مباشرة، تكاد أن تقتحمه، ولا يصل إليه، حتى جمع الحاج مفتاح كل قواه ودفع بها إلى قدميه وانطلق صارخا “يا شيخ الهادي.. يا شيخ الهادي”، انتبه شيرخان والتفت ناحية الصوت، وصل اليه الحاج مفتاح لاهثا، وبدون تفكير قال: “أني الحاج مفتاح..  بو فاطمة”.

وقف والد فاطمة في حضرة شيرخان، بينما يجرى الأخير اتصالاته. رفع عينيه نحوه وهو يميل بفمه في ابتسامة ساخرة، مرددا كلمات سمعها في سنواته الخمس الغابرة… “ولدك.. توا يحققوا معاه ويحولوه للنيابة”.. اقترب الحاج مفتاح من طاولة المكتب المغبرة، كاد أن يتعثر في قطع البساط المنثني، مصدرا صوتا يحمل شهقة بكاء…

“ياوليدي بارك الله فيك.. بارك الله فيك”.
“يومين ووليلي”.

تراجع الحاج مفتاح وهو يضرب بيده على صدره “صحيت.. صحيت.. والله ماعارف شن نقول”… استدار الحاج مفتاح وهم بالخروج، لحقه صوت شيرخان مفاجئاً هادئاً، وبطيئاً في كلماته الأخيرة.. “لما تجي المرة الجاية.. جيب فاطمة معاك”. لم يلتفت الحاج مفتاح.. خرج يغالب دموعه.. أجهش بالبكاء وهو يستقبل ضوء الشارع. ولم يعد.

موجلي وشيرخان

وكما حدث في فيلم “كتاب الغابة”، كان لا بد لموجلي أن يتواجه مع شيرخان.

ضاق شباب الحي بتصرفات شيرخان وجماعته، تململوا وأحرقوا الإطارات في الشوارع وأعلنوا اعتصاماً، احتجاجاً على لهوهم بالأرواح وقطعهم للأرزاق واستغلالهم للنساء وظلمهم لسكان الحي.

صرخ شيرخان في مكتبه بأعلى صوته “احني تابعين الداخلية.. واللي مش عاجبه نطيروله راسه”… قاد موجلي الاحتجاجات، وحمل اليافطات “لا للسلاح.. لا للمليشيات”، “طرابلس آمنة خالية من السلاح”.

سمع بشيرخان ولم يره.. يقابل موجلي نهاره باكراً، يقضيه ما بين الكلية وأداء فروضه الجامعية ومجالسة المقاهي المنتشرة بالحي، يتناول “المكياطا” و”البريوش”، ينفخ أحيانا دخان سيجارة ويدهسها بقدمه في التراب الذي يغطي أجزاءً من الأسفلت المصاب بالجدري.

أما شيرخان فيعيش في الأماكن المظلمة والرطبة، يتفقد مساجينه في الأقبية، يدوس على أجسادهم ويصفر حين يصرخون ألما.. يقضي أكثر النهار نائماً، لا يستفيق إلا بعد أن تتوسد السيجارة إصبعيه ويستنشق بعمق دخانها المخلوط بما يسري الخدر في جسده النحيل، يزهو بنفسه أمام المرآة وهو يضع قطع من بزة رسمية غير متناغمة، لكنه يتمسك بالنعل البلاستيكي، إذ لا ترتاح أصابع قدميه إلا إذا تمددت بين عنقه وهي عادة اكتسبها في السجن. يعشق خربشة اسمه على الورق بعد أن يقرأ عليه أحدهم فحواه “المهم أحني تابعين للداخلية أيوه”، كان يردد.

كان يمكن أن لا يلتقيا مطلقا، فلكل منهما زمانه ومكانه. وحين التقيا، كان شيرخان يحمل سلاحا ويدوس بـ”شبشب”، بينما يحمل موجلي يافطة ويرتدي حذاءا رياضيا. يسير موجلي محاطاً برفاقه، في حين يتمترس شيرخان وراء سيارته رفقة أفراده، يهتف موجلي بأعلى صوته “بنطلعوا لين تطلعوا”، لكن شيرخان يكز على أسنانه بقوة وينفخ فتحتي أنفه. رفع موجلي يافطته الخشبية “لا للتشكيلات المسلحة” وكأنه يراقصها، في حين ركّع شيرخان إحدى ساقيه وصوب بندقيته بثبات نحوه وهو يغمز بإحدى عينيه. سقط موجلي ذلك المساء، سالت دماؤه في خيط طويل، يحمله رفاقه من أطرافه ويتدلى رأسه على جانبه، فمه مفتوح وعيناه ما بين الوعي والغياب.

لم تنته قصة موجلي كما انتهت في فيلم “كتاب الغابة”.. ففي الفيلم لم يدرك موجلي خطورة شيرخان لأنه تربى في الغابة وسط الذئاب والدببة والقرود.. بينما عاش موجلي في المدينة بين أحضان أمه التي غلفته دعواتها، وزهو مشاركته في الثورة، وتنسمه لأول مرة رائحة البحر الذي كان يراه ولا يشمه، وزواجه وطلاقه من بندقيته التي لم يستخدمها. خلع موجلي عنه رداء الثورة وانطلق، بينما توهم شيرخان الذي أمسك بأطرافها وتنعم بغنائمها وأمعن في ظلمها أنه حارسها. وفي هذه المرة، قتل الحارس الثائر الذي خُذل ولم يفز إلا بملاعبة أحلام سرعان ما انقشعت وتبددت  كسحابة لم تمطر.

المدينة

خفت صوت المدينة بعد أن كان عالياً.. خبت الضحكات كما تخبو أضواء النوافذ الواحد تلو الآخر، وأغلقت الأبواب كما تغلق بتلات “النوار”، وامتلأت الأفواه بالماء كما امتلأت حفر الإسفلت ذات شتاء، وطأطأت الرؤوس كما نكست الأعلام الحزينة، وتوارت النظرات كما تسدل الستائر في وجه النهار.

تشق صرخة أم إيهاب الحي، تدور حول نفسها وهي تصرخ “فكيت الحديدة من ولدي.. ياريتني مافكيتها”. تبكي النسوة حولها ليس كما تبكي في عزاء آخر، كان أشبه بالأنين.. بالعواء.. بالصياح.. بالخوار.. بالنعيق بالمواء، بكل الأصوات إلا صوتها العذب الذي كانت تشدو به في مطبخها، أو تهدهد به ولدها إيهاب. تكاد تزهق روحها في كل صرخة أبت أن ترحل عن جسدها، لتشرب العلقم وتزدرد الحنظل بعد قتله. “البلاد ماعاش بلاد.. والناس ماعاش الناس”.

كثر أمثال شيرخان ورحل أمثال موجلي.. حتى تحولت المدينة إلى غابة لا يحكمها أحد.. انسلت النمور في عتمة الليل وتصارعت على الأحياء والمساكن والبشر، لكن أمثال شيرخان لا يتشابكون بالأيادي ولا يخربشون بالمخالب ولا يستخدمون أسنانهم، أمثاله يختبئون كالفئران خلف سيارات ضخمة تحمل مضادات طائرات يلهون ويقذفون بها الأحياء المكتظة وسكانها.

يلطم الموج جدار السرايا، فتتنهد وتبكي.. يطفق الحمام بأجنحته في الميدان فيثير غباراً خفيفاً، يهسهس سعف النخيل العالي في الطرقات، وتسقط الحبيبات الصلبة من أشجار الزينة المتشابكة على الأرصفة، تستعرض “الخطيفة” طيرانها، ويحتضن الإوز العائم في البحيرة صغاره، ويطبق صمت ثقيل على المدينة يكتم أنفاسها. ينهب الخوف قلوب سكانها ويمتص أحلامهم حتى يحيلها إلى ما يشبه أعواد القرفة البنية المجوفة التي فقدت رائحتها، يحتمون بجدران مساكنهم ويتحصنون بسياراتهم ويحكمون إقفالها.
يرحل إيهاب، وما يزال شيرخان.

مقالات ذات علاقة

الــنــون

علي جمعة اسبيق

الممر الآمن

الكيلاني عون

اِسْتِفْزَازٌ

جمعة الفاخري

اترك تعليق